حبيب لكناسي
الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 16:49
المحور:
الادب والفن
كلما دخل غرفة أبيه المسن إلا و وبسط كف يده اليسرى على أنفه، ليس هروبا من رائحة نتنة ولكن خوفا من أن يعطس مجددا أو درءا لاختناق هو في غنى عنه، ففي ركن تلك الغرفة المظلم صندوق خشبي قديم به حقيبة جلدية يلفها كيس بلاستيكي مهلل، كيس عابر للحقب، وداخل الحقيبة ترقد قطع من قصبات يقترب طولها من العشرين سنتمترا للواحدة، شبيهة بمزامير الرعاة غير انها تخلو من الثقوب، وبداخل كل قصبة لُفَّتْ ورقة شاحبة اللون. وداخل هذا الصندوق بقايا فلفل متيبس و حبات لوز لا تحمل في أحشائها إلا المرارة. لقد سأل أباه ذات يوم عن سبب تواجد حبات اللوز تلك في قاع ذلك الصندوق فاخبره أنه ورثه عن أبيه بما فيه، وهو ما تبقى له منه من ذكرى، فقد كان أبوه يحتفظ باللوز ليأكله بين الفينة والأخرى، وقد بدأ عادته تلك بعد إصابته بمرض السكري اللعين، وتلك الحبات الأشد مرارة تساعده على التركيز أكثر أو هكذا يحس نفسه، لدرجة أنه يجمع منها الكثير حتى لا تعوزه في فترات من السنة التي يتعذر عليه إيجادها في الأسواق، إنه دواؤه الوحيد في هذه البقعة النائية من هذا الوطن الذي تئن فيه الصحة، وبالتالي فقد كان ثمينا بالنسبة إليه، ولكن بعد أن سأله عن الجدوى من الاحتفاظ بها، أسر إليه إنها تسافر بي عبر الزمن حيث جدك فكلما دخل عليه مساء يلفيه يقلب نواة إحدى تلك اللوزات في فمه، وإنه كثيرا ما عرض عليه إحداها فيرفض بلا تردد، وكان يؤكد عليه ويوضح له كلما تسنى له الأمر أن من حقه أن يرفض حبات اللوز و أن يكره رائحة الفلفل تلك ولكن عليه أن يحتفظ بتلك القصبات مهما استجد من أمر.
لقد مات جده ومات أبوه وظلت القصبات الحوامل في قاع الصندوق تنتظر الفرج، وظلت حبات اللوز دون أن يلمسها أحد، ورائحة الفلفل تلك بدأت تفقد عبق سحرها، فما عاد هناك خوف من عطسات متتالية يتراقص لها الجسد، غير أن صدى نصيحة أبيه يتردد على مسامعه باستمرار، فلقد حضر مأتمه بعد أن تلقى خبر موته فجأة، حيث ألغى كل مواعيده على مضض وتهاطلت عليه أساليب التعزية المتباينة من جميع المعزين دون استثناء. إن صداقات الراحل كثيرة تتجاوز حدود البلدة، وهو شيء أثار استغرابه ورفع من مكانة أبيه في مخيلته وجعله يدرك أخيرالم يتشبث بهذه الأرض الطيبة، فقد كان يطلب منه دائما أن يرافقه إلى المدينة بعد وفاة أمه ولكنه يرفض رفضا قاطعا بحجة أو بأخرى، وآخر حديث معه كان عبر الهاتف، وآخر ما نبس به أبوه هو:
- بني لَحْسنْ ، أنا بخير وما دمت أستطيع المشي فأنا أكفي نفسي، لا تشغل بالك كثيرا، لدي فقط طلب وحيد، وهو أن تعنى بتلك الحقيبة الجلدية من بعدي.
لم يدرك الابن أن تلك الكلمات هي آخر ما سيسمعه من أبيه، وهاهو الآن داخل أسوار هذا المنزل الضارب في القدم، أمامه الصندوق الخشبي، ذلك الصندوق الذي يتباهى به من يملك مثله نظرا لمتانة صنعته وروعة زخرفه وصفاء ألوانه وتلك الرائحة مازالت ترسل عبيرها في صمت قاتل. تشجع وفتح الصندوق، حبات اللوز في مكانها، والقصبات مرتبة بشكل جيد داخل الحقيبة الجدية يحيط بها حزام من ليف، فتحه بيدين مرتعشتين، بقايا الفلفل تخضب أطراف اصابعه، كلما أخذ قصبة إلا وعطس عطسة يتطاير لها فتات الفلفل المنتور في كل مكان، يخرج المخطوطات، يحاول فك طلاسمها لكن دون جدوى، قال في نفسه:
- ما هذا يا أبي، ظننت أنك تحتفظ بشيء ثمين هنا عدا هذه الأسطوانات القصبية الهزيلة و هذه الوريقات المتآكلة أطرافها ليس فيها إلا أحاديث عن هذه القرية المنسية النائية، نزاعات ووصولات لا تمت لنا بصلة، تاريخ منسي، أساطير الأولين و الغابرين، أورثك إياها جدي أمغار وتريدها أن تكون من نصيبي من أنا، ليرحمك الله يا أبي، أي صبر هذا الذي زرعه فيك جدي حتى استحملت تلك الرائحة المرة وذلك العطس المتفجر طول عمرك ولم تشتك أبدا، بل أردتني ان أكون خير خلف لخير سلف.. !
وفي لحظة من لحظات التأمل تلك، أخرج الصندوق من الغرفة، فتحه مجدد ثم التقط حزمة القصبات تلك، وملأ الحقيبة الجلدية ببقايا الفلفل وحبات اللوز الضاربة في أعماق التاريخ، جمع كل شيء وفتح الباب الخارجي للمنزل، بدا له سياج من أشواك شجر النبق يناديه، اتجه نحوه دون تردد، ودون أن يقترب منه اكثر، ثم ألقى بكل شيء في الفضاء الفارغ، تناثرت القصبات في الهواء، أصدرت صفيرا ينبعث من جوفها الفارغ، وتعلقت الوريقات الصفراء برؤوس أشواك حادة، بينما حملت الرياح غبار الفلفل و اختفت حبات اللوز بين حصوات حجر وبقايا عيدان متآكلة وأوراق شجر متفرقة. ألقى لـحْسن نظرة أخيرة على المنزل الذي تربى فيه، تفقد غرفة أبيه ولم يجد فيها أي شيء ذي قيمة إلا ذلك الصندوق المثير، وضع فوقه غطاء صوفيا ثقيلا يستعمله أبوه، وقبله جده في أيام البرد القارصة ثم دلف إلى غرفة الضيافة حيث كان ينام في صغره، أحس برغبة شديدة في البكاء لما رأى مكان وضع الشمعة، فقد رسمت على الحائط طيفا قاتما ذكره بأمه المتوفية وبلحافها الأسود، بعدها توجه إلى المطبخ القديم، والذي يظهر فاقدا لملامحه المألوفة. حينما كانت أمه على قيد الحياة كان هذا المكان منبع الابتسامة الجميلة والكلمة الطيبة وما تشتهي النفس من وجبات تحمل لمسات فنية وذوقا رفيعا. تمشى في الفناء قليلا ثم وضع حقيبته على ظهره فأوصد الباب واتجه للمدينة دون أن يلتفت إلى الوراء. مر قرب الحاجز الشوكي حيث رمى بأوهامه! بدت له الوريقات ترقص و ترفرف وكأنها تودعه وداعها الأخير، طرح زفرة طويلة و تابع المسير في صمت وذهن شارد يمشي الهوينى، يتطلع إلى الأراضي الشاسعة و الأبنية المتفرقة، لايكاد يميز من يصادف في طريقه ولا أين تسير به خطاه، ووحدها الطريق الرئيسية تقترب شيئا فشيئا..
مرت خمس سنوات كلها عمل وكد وحساب وعد.. وعاد الحسن إلى القرية، بدأ يتحسس المفتاح الصدئ الكبير في جيبه، بدا له المكان غير مألوف، فقد امتدت الخضرة عبر السياج الشوكي، شجيرات لوز زاهية اللون وعبير أزهارها ينعش الروح، وعلى جنباته نبات مليئ بحبات فلفل تتوزع بين الأخضر و الأحمر، لوحة زيتية من إبداع الطبيعة. حاول أن يدخل المفتاح الغريب عبر ثقب القفل، لكنه لم يتمكن من ذلك رغم محاولاته المتكررة. أطل عبر ثقب الباب مثل متربص ينسج مكيدة.. طيف بلا ملامح يجري في الفناء، علامات الدهشة تعلو محياه، أحس باختناق كاد يرديه، وضع يده على أنفه و فمه، عاد به الزمن إلى اللحظة التي يكرهها كلما اقترب من القصبات، عطس عطسة قوية تلتها عطسات أخريات تتطاير رذاذا في الهواء، تراجع إلى الوراء بخفة لا إرادية، كاد يسقط لولا أن أسند كتفه بالجدار المحادي له، نظر إلى حيث رمى تلك القصبات، سمع ترانيمها تتردد وتنفذ إلى مسمعه، أحس بفزع الشديد، أراد ان يصرخ ملء شدقيه فلم يقو على ذلك ثم أطلق ساقيه للريح، لا تكاد قدماه تلامسان الأرض من فرط سرعته، مزيج من الصراخ و الصفير يتعقبه..
#حبيب_لكناسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟