أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعد الساعدي - لماذا ينجذب الناس إلى التافهين؟















المزيد.....

لماذا ينجذب الناس إلى التافهين؟


سعد الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 09:46
المحور: قضايا ثقافية
    


يتحول انجذاب الناس تجاه "التافهين" في عصر تسوده الضوضاء المعلوماتية والاستهلاكية المفرطة، إلى ظاهرة تستحق التأمل؛ فهي تعكس من جهة حاجة نفسية للهروب من تعقيدات الواقع وضغوطه، حيث تقدم الشخصيات التافهة نموذجاً للبساطة السهلة والتحرر من قيود الفكر والمسؤولية.
ومن جهة أخرى، تمثل هذه الظاهرة مرآة لمجتمع ما بعد الحداثة الذي طحنت آليته الاستهلاكية القيمَ التقليدية وحولت الشخصية إلى سلعة، فصار "السطحي" يمتلك قدرة أكبر على جذب الانتباه وتحقيق الشهرة الآنية في اقتصاد المشاهدة الرقمي.
كما يكشف هذا الانجذاب عن أزمة عميقة في الذوق العام، حيث تتفوق الإثارة والفضيحة على العمق والفكر الجاد، ليس لأنها الأكثر قيمة، بل لأنها الأكثر ضجيجاً في سوق الثقافة المزدحم.

نعم، هناك قوى منظَّمة تشجع على انتشار التفاهة وتستفيد منها، حيث تحوّلت إلى سلعة مربحة في اقتصاد الانتباه الحديث. تدفع منصات التواصل الاجتماعي نحو هذا الاتجاه من خلال خوارزمياتها التي تفضّل المحتوى السريع والمثير القادر على جذب التفاعلات الجماهيرية، بغضّ النظر عن قيمته الفعلية. كما تتبنّى وسائل الإعلام والترفيه "ثقافة المشاهير" القائمة على الإثارة والفضائح بدلاً من الموهبة الحقيقية، حيث تتحوّل الشخصيات التافهة إلى سلع استهلاكية تدرّ الأرباح.
على الصعيد السياسي والاجتماعي، يتم في بعض الأحيان تشجيع التفاهة كأداة لصرف انتباه الجمهور عن القضايا الجوهرية، بينما تعمل آليات السوق على تعميم نموذج "التحرر" من المسؤولية الفكرية والأخلاقية. هذه العوامل مجتمعة لا توفّر بيئة خصبة لانتشار التفاهة فحسب، بل تجعلها تبدو خياراً مغرياً ومربحاً، بينما يتم تهميش الأصوات الجادّة والعميقة بشكل منهجي في الفضاء العام.
هذه العوامل لا تخلق مجرد تيارات ثقافية متعارضة، بل تُشكّل صراعاً وجودياً وحضارياً على مستوى الهوية والقيم والمستقبل. إنها معركة بين نموذجين: أحادهما يقوم على التسطيح والاستهلاك واللحظة العابرة، وآخر يحاول الحفاظ على العمق والمعنى والاستمرارية.
هذا الصراع يتجلى في تناحر رؤى العالم بين القائم على الربحية السريعة والاستغلال البشري، والنموذج الإنساني الذي يضع الكرامة والفكر والقيم الجمالية في القلب. إنه صراع بين من يريد تحويل الإنسان إلى مُستهلك سلبي، وبين من يسعى ليكون كائناً فاعلاً ومُبدعاً.

هذه المعركة ليست نخبوية، بل هي التي ستحدد طبيعة المجتمعات التي سنعيش فيها غداً: هل ستكون مجتمعات قادرة على التأمل والإبداع والحكمة، أم ستتحول إلى قطعان رقمية تائهة في زحام التفاهة والاستهلاك؟ إنه تحدٍّ وجودي يمسّ جوهر إنسانيتنا وقدرتنا على البقاء كحضارة لها معنى.
ما نعنيه بتعبير "القطعان الرقمية" هو وصف دقيق للتحول الخطير الذي تتعرض له المجتمعات في العصر الرقمي، حيث تتحول الجماعات من كيانات ناقدة وفاعلة إلى كتل سلبية مُسيطر عليها. فمنصات التواصل الاجتماعي وخوارزمياتها لا تقدم محتوى محايداً، بل تصمم بدقة لخلق سلوكيات جماعية متوقعة وقابلة للتوجيه، مما يحول المستخدمين من أفراد مستقلين إلى "حزم بيانات" تتحرك وفق أنماط استهلاكية مُعدة مسبقاً.

إن "القطيعية" لا تعني فقط التشابه في السلوك، بل تعني فقدان الإرادة الفردية والقدرة على التفكير النقدي، حيث يتم تعليب الوعي عبر تيارات لا نهائية من المحتوى الترفيهي التسطيحي والإعلانات المُموهة بأشكال إخبارية وترفيهية. الأسوأ أن هذه المنظومة تخلق وهم الحرية والاختيار، بينما تفرض طواعية غير مرئية، حيث يعتقد الفرد أنه يختار، بينما هو في الحقيقة ينفذ خيارات مصممة مسبقاً، لتحقيق أقصى قدر من المشاركة والاستهلاك.
الظاهرة هذه تهدد جوهر الديمقراطيات والمجتمعات الصحية التي تعتمد على مواطنين واعين وناقدين، وتحولهم إلى مستهلكين سلبيين يتبعون أحدث الصيحات والفضائح دون مساءلة، مما يفرغ الحياة المجتمعية من مضمونها الحقيقي، ويحولها إلى مسرح ضخم للعروض السطحية والاستهلاك المسيطر عليه.

علاج ظاهرة انتشار التفاهة يتطلب مواجهة شاملة، تبدأ من إعادة بناء الوعي الفردي، وتنتهي بإصلاح البنى الثقافية والاقتصادية، فهي معركة لا يمكن الفصل فيها بين الشخصي والجماعي. على الصعيد الفردي، لا بد من تنمية الحصانة النقدية من خلال تعزيز التربية الإعلامية والقراءة المتعمقة، وخلق مساحات للتفكير التأملي، بعيداً عن ضجيج المنصات الرقمية.
أما مجتمعياً، فيجب دعم المؤسسات الثقافية الجادة والمبادرات الفنية والأدبية الرصينة، وإعادة بناء منظومة قيمية تكرّم العمق والفكر الجاد، بدلاً من تسليع الشهرة السطحية. على مستوى السياسات، يمكن فرض تنظيمات على الخوارزميات الرقمية لدعم المحتوى ذي القيمة، وإصلاح نظام التعليم لتعزيز التفكير النقدي بدلاً من الحفظ والتلقين.
لكن الجوهر يبقى في إيقاظ الوعي الجمعي بأن استسلامنا للتفاهة هو تنازل طوعي عن إنسانيتنا، وأن استعادة العمق ليست رفاهية ثقافية، بل ضرورة وجودية للحفاظ على معنى حياتنا في عالم يريدنا أسطحاً وسطحيين.

إن تحقيق هذه المعالجة يبدو صعباً بل ومُحبطاً في ظلّ الواقع الراهن، حيث تتفكك البنى الأخلاقية التقليدية وتسيطر النزعة الاستهلاكية على القيم المجتمعية. فالتفاهة لم تعد مجرد خيار فردي، بل أصبحت نظاماً متكاملاً تدعمه اقتصاديات رقمية عملاقة، وتغذيه آليات السوق التي تكرّس للسطوة والسرعة على حساب الجوهر. كما أن محاولات الإصلاح تواجه بجدار من اللامبالاة الجماعية، حيث أدّى التلاعب المنظم بالرغبات والإدراكات إلى خلق "استحسان أخلاقي" للتفاهة، حولها من انحراف إلى معيار جديد. لكن هذا اليأس نفسه هو جزء من المعركة؛ فالقبول باستحالة التغيير هو انتصار للنظام القائم.
ربما لن نستطيع قلب الموازين بين ليلة وضحاها، ولكن المقاومة تبدأ برفض الاستسلام الداخلي، وإشعال شمعة هنا وهناك عبر ممارسات يومية بسيطة – من اختيارنا لما نستهلكه، إلى ما نعلّمه لأبنائنا، إلى الحوارات التي نخوضها في دوائرنا الضيقة. فالتاريخ يعلّمنا أن أعظم التحولات تبدأ كهمسات في زوايا الظلام، وأن انهيار الأنظمة الظاهرية يبدأ دائماً من تشققات صغيرة يحدثها الأمل العنيد.



#سعد_الساعدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايات لم يروِ أحد
- اقصاء المؤلف أو موته وحضوره..مقارنة موجزة بين مدرسة عبد الله ...
- غزو البلهاء
- نفثاتُ عشق..
- تجليات الفلسفة في القصيدة التجديدية.. نور حامد وتحليل نص
- السعادة الإبداعية في القصيدة التجديدية.. رحيم الربيعي في رؤي ...
- معادلةٌ بالمقلوب..
- الصوت (البوليفوني) في القصيدة التجديدية.. قراءة لنص الشاعر أ ...
- الكوميديا السوداء، أو السخرية في القصيدة التجديدية الشاعر مو ...
- سعد العبيدي في -حفل رئاسي-.. توثيق الواقع روائياً
- التاريخ الذي تكتبه قصيدة.. الكواز مؤرخاً
- حضورية التحليل النقدي التجديدي في -لوحة صامتة ترسمها الضوضاء ...
- رسالة لصديقي عِبرَ الفيسبوك
- الشاعرة والناقد فوزية أوزدمير تكسر حواجز الألم في -السبابة-. ...
- رثاء لشاعرة العراق لميعة عباس عمارة
- قصيدة كرسي الاعتراف
- قصيدة عفو عام للشاعر أحمد مطر ترجمها سعد الساعدي
- Poem: The Blind Child(قصيدة: الطفل الأعمى)
- عبد الجبار الفياض شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر التجديدي (قراءة ...
- أسيادُ الرذيلة


المزيد.....




- خيوط أولى في قضية سرقة متحف اللوفر في باريس.. إليكم التفاصيل ...
- السعودية: أول تصريحات لصالح الفوزان بعد تعيينه في منصبه عن م ...
- نتنياهو: إسرائيل ستحدد القوات الدولية التي لا نقبل بوجودها
- النواب الفرنسيون يستأنفون مناقشة الميزانية بعد رفض تجميد ضري ...
- تدريبات عسكرية أمريكية قبالة سواحل فنزويلا
- الخط الأصفر يحجز الفلسطينيين في خيامهم رغم وقف الحرب
- محاكمة -سريعة ومفاجئة- للمتهمين في قضية -التآمر 1- بتونس
- غريزة البقاء في الذكاء الاصطناعي تحير الخبراء
- أناتولي كاربوف.. أسطورة الشطرنج الروسي الذي تطارده العقوبات ...
- نتنياهو: نحن من سيحدد أي قوات دولية ستدخل غزة


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعد الساعدي - لماذا ينجذب الناس إلى التافهين؟