أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعد الساعدي - غزو البلهاء














المزيد.....

غزو البلهاء


سعد الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 17:43
المحور: قضايا ثقافية
    


لم تعد الحاناتُ وحدها مأوى للثرثرة التي تُدفن مع آخر قطرة نبيذ كما يعبر أصحاب الكأس، ولم يعد صوتُ الحكمة يُعرف بميزان ثقله وسط ضجيج السوق. لقد انقلبت الموازين في الساحة الجديدة، ساحة "التواصل الاجتماعي"، حيث تساوت الأصواتُ في الحقِّ الظاهر، وإن تفاوتت إلى ما لا نهاية في القيمة والعمق والمسؤولية. هنا، في هذا الفضاء اللامتناهي، تحققت معجزةٌ مقلوبة مثلما يصف أمبرتو إيكو ذلك قائلاً:
"إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالقٍ من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء".

كان الحمقى، على مرِّ العصور، يُحاصرون في زوايا ضيقة من الحياة. في المقهى يثرثرون، في حانةٍ يتبجحون، في زقاقٍ يتشاجرون. كلماتهم كانت كالفقاعات، تعلو لحظةً ثم تنفجر في الهواء دون أثر يُذكر، محصورةً في دائرة ضيقة، مسموعةً لمن أراد سماعها، مهملةً بسهولة من قبل من يملكون أدوات التمييز. كانت المجتمعات، بغريزتها، تُشيِّد حواجزَ غير مرئية تحمي الفضاء العام من ضجيج العبث.

لكن الآلة الجبارة قدَّمت هديةً مسمومة؛ الميكروفون اللامحدود. ها هم أولئك الذين كان صوتُهم يختنق بين الجدران، يمتطون المنصة الإلكترونية العظيمة، فيصبح صراخُ الطفل في زاوية السوق مساوياً لخطبةِ الحكيم في المحراب، وتغريدةُ العابث في سكرته تعادل بحثَ العالم في معمله. لقد سُوِّيَت الأصواتُ تسويةً جائرة، لا على مذبح العدل، بل على مذبح الخوارزميات التي لا تعرف إلا العدَّ والانتشار، لا التمحيص والوزن.

وهكذا تحول الفضاء العام إلى سوقٍ مفتوحٍ، سوقٍ للفوضى. لم يعد "الهراء" مجرد ضجيج خلفي يُتحمل، بل صار نظاماً قائماً بذاته. غزت العقلانيةَ موجةٌ من اللامعقول، وطغى السطحيُّ على الجوهري، وارتفع صوتُ المؤامرةِ الخاوية فوق صوت التحليل المدعوم. صار التميزُ الفكريُّ جريمةً تُلام عليها، والصمتُ المتأني خيانةً للجدل الدائم. لقد انفجر سدٌّ كان يحمي حقل المعرفة، فاجتاحته المياه الآسنة، وحملت معها كلَّ ما هبَّ ودبَّ.

في النظام الجديد أصبح وهم المساواة قوة للضجيج، حيث وهم الديمقراطية المطلقة التي تروِّج من خلالها المنصات لأسطورة أن كل صوتٍ له قيمة متساوية. هذه مساواةٌ زائفةٌ تخلط بين الحق في التعبير (المقدس) وبين القيمة الموضوعية للفكرة (التي تخضع للتمحيص). حق الكلام لا يعني بالضرورة حقَّ الاستماع العالمي دون تمييز.
أما اقتصاد الانتباه المتوحش فهو الخوارزميات التي لا تكافئ الحكمة، بل الإثارة. الكلمة النارية، الصورة الصادمة، الفكرة المتطرفة – هذه هي عملة هذا السوق. الحمقى، بفطرتهم أو باندفاعهم، أسيادٌ بارعون في سك هذه العملة.

في الماضي، كانت هناك مرشحات طبيعية: مكانة المتحدث، المؤسسة الناشرة، عملية التحرير. الآن، اختفت هذه الحواجز أو ضعفت، فأصبح الوصولُ للجميع ممكناً دون وسيط يزن أو يرشح (يفلتر)، بعدغياب آليات التصفية التقليدية.

ما كان يموت في زقاق، يُضخَّم الآن عبر مشاركات وإعجابات ومتابعات، ليصبح "اتجاهاً" أو "رأياً عاماً" هو بعينه الغباء الفردي، حين يُعطى منصةً عالميةً وآلية تضخيم، يتحول إلى وباءٍ فكري، أو لنقل إنه التضخيم الآلي للجهل.

والنتيجة هي تلوث الفضاء العام، الذي يفترض أن يكون ساحةً لتبادل الأفكار البناءة وتشكيل الرأي المستنير؛ فضاء ملوث بضوضاء هائلة. صار من الصعب سماعُ الحكمة وسط العويل. صار البحثُ عن الحقيقة أشبه بالتنقيب في مكب نفايات. صار الردُّ على كلِّ ادعاءٍ تافهٍ واجباً مرهقاً يستنزف طاقة العقلاء. لقد خسر المجتمع آليةً حيويةً للتمييز بين الجد والهزل، بين النور والظلام. فكيف أصبحت الخلاصة؟ إنها معضلة العصر الرقمي.

إذن، ليست القضية منعَ أحدٍ من الكلام. بل هي معضلةٌ كبرى في عصرنا؛ كيف نحمي الفضاءَ العام المشترك من الغرق في بحر من السطحية والجهل المُضخَّم آلياً؟ كيف نعيد بناء آليات تمييز طبيعية في فضاءٍ صُممَ أساساً لتسوية الأصوات وتسريع انتشار كل ما هو صادم؟ كيف نحول السوق الإلكتروني من ساحةٍ للغزو إلى منتدى للحوار الحقيقي؟

"غزو البلهاء" ليس شتيمة، بل هو تشخيصٌ مريرٌ لواقع نعيشه. واقعٌ يهدد بإفراغ الفضاء العام من مضمونه، وتحويله إلى حلبة صراعٍ يربح فيها الأكثرُ ضجيجاً، لا الأكثر حكمةً. إنه نداءٌ لإعادة التفكير في آليات عمل هذه الساحات الجبارة، قبل أن يتحول صخبُ الحمقى إلى النغم السائد في سيمفونية العصر. فالضوضاء، حين تستمرئ القوة، لا تُسكت الحكمة فحسب، بل تُصم الآذان عن سماع أي صوتٍ آخر.



#سعد_الساعدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نفثاتُ عشق..
- تجليات الفلسفة في القصيدة التجديدية.. نور حامد وتحليل نص
- السعادة الإبداعية في القصيدة التجديدية.. رحيم الربيعي في رؤي ...
- معادلةٌ بالمقلوب..
- الصوت (البوليفوني) في القصيدة التجديدية.. قراءة لنص الشاعر أ ...
- الكوميديا السوداء، أو السخرية في القصيدة التجديدية الشاعر مو ...
- سعد العبيدي في -حفل رئاسي-.. توثيق الواقع روائياً
- التاريخ الذي تكتبه قصيدة.. الكواز مؤرخاً
- حضورية التحليل النقدي التجديدي في -لوحة صامتة ترسمها الضوضاء ...
- رسالة لصديقي عِبرَ الفيسبوك
- الشاعرة والناقد فوزية أوزدمير تكسر حواجز الألم في -السبابة-. ...
- رثاء لشاعرة العراق لميعة عباس عمارة
- قصيدة كرسي الاعتراف
- قصيدة عفو عام للشاعر أحمد مطر ترجمها سعد الساعدي
- Poem: The Blind Child(قصيدة: الطفل الأعمى)
- عبد الجبار الفياض شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعر التجديدي (قراءة ...
- أسيادُ الرذيلة
- Lost
- ديماغوجية الحمير..!
- مِطرقةٌ خرساء


المزيد.....




- حقيقة فيديو بيان مشيخة عقل الدروز بعد -عزل حكمت الهجري-
- شاطئ أبو تلات بالإسكندرية: كيف انتهت رحلة تدريب طلاب، بكارثة ...
- بحضور رئيس الوزراء الكندي.. زيلينسكي في يوم استقلال أوكرانيا ...
- آلاف الفنزويليين يتطوعون في -الميليشيا البوليفارية- استجابة ...
- إسرائيل تخشى حرب عصابات في غزة
- إسبانيا تسجل موجة الحر -الأكثر شدة- منذ بدء تسجيل البيانات
- عاجل| أنصار الله: اليمن سيصعد بالوسائل المتاحة حتى وقف العدو ...
- تعرف على الفراش الذي أثنى عليه زوكربيرغ وإيلون ماسك
- 45 شهيدا بغزة وحشود لدبابات الاحتلال على حدود القطاع
- تطوير خرزات شبيهة بحبات شاي البوبا لإنقاص الوزن


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعد الساعدي - غزو البلهاء