|
طفل الشك
الحسين سليم حسن
كاتب وشاعر وروائي
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 22:11
المحور:
الادب والفن
فل الشك نوفيلا
نور تقوس ظهري بفعل الزمن، واحدودب مانحا" مظهري أمارات القدامة. نعم، فالجسد حين يترهل وينكمش يحن إلى موطئه الأول وهيئته الأولى، هناك بين انثناءات الرحم، حيث الغذاء والماء والحياة يوقعون عقد الشك الأبدي. الشك هو ما يشكلنا، من عمق الأزلية ننهض حيارى بين الدروب المتاحة، ثم نعيش ونحن نتخبط بين الشكوك الكثر التي تضمن استمرارنا، ذلك لأن اليقين المطلق هو النهاية،فيصبح الشك هنا ضمانا" لبقائنا على قيد الحياة. سيمنحني انحناء ظهري البطء في المشي والحركة، وهذا بدوره سيكسبني المزيد من الوقت، المزيد من الافتتان بالحياة، أو بكل بساطة سيمنحني جرعة أخرى من فعل العيش. المعاناة هي الحياة، والشك هو المعاناة، والركود هو الموت ،واليقين هو الركود. حين وضعتني والدتي، كانت مشاعرها على أعلى درجة من درجات الشك، حملتني بين ذراعيها وتساءلت :ما الذي سأسمي هذا الكائن؟ ثم تنحنحت ونظرت إلي واختارت اسما" سهل اللفظ، فهذا سيناسب حسرتها، و تعاستها مع والدي. لكنه لم يخطر في بالها أن شكوكها ستنتهي عما قريب، ستهزمها التعاسة القصوى بيقينها المطلق، وأنها ستتسبب بالضرورة في موتها، مثبتة على نحو مطلق هشاشة والدتي المطلقة! زادت شكوكي بموتها، رضعتها مع حليب الرضاعة، وكنت طفل الشك السرمدي. نشأت بعدها في رعاية والدي، بائع الخردوات المتجول والبسيط، والذي لم يتمكن من مشاطرة شكوكه مع امرأة بعد أمي، فعاش مخلصا" لها، وهذا الإخلاص بحد ذاته، وبطوباويته المطلقة شكل المعاناة اللازمة للشك، وبالتالي للبقاء. لكنني لم أقبل كوالدي بالمعاناة، بل رغبت في ألا أكون طوباويا"، كنت طفل الشك المطلق ربما، إلا أنني لم أقبل بأن أكون رجل الشك، وأردت ببساطة ذاك اليقين الحلو الذي تحلو معه الحياة، لكن هذا بالتحديد، هذا الذي أردته تسبب في مصرعي، ليس مصرع الجسد، إنما مصرعي الفلسفي.
في يوم من الأيام العادية التي تمر على زوجة بسيطة تعمل في المنزل، ولدت،وسمتني والدتي (نور)، كان اسما" سهل اللفظ ولعل ذلك هو السبب الوحيد في انتقائها لهذا الاسم، فوالدتي ليست شاعرية على حد علمي، ولم تطأ أرض أفكارها يوما" لا حكايات ألف ليلة وليلة، ولا أشعار شكسبير. كانت امرأة عادية، متعلمة إلى حد ما، الحد الذي لم تسمع به من قبل بكلمة (معارض سياسي)، وكانت تظن بأن الأسد الذي يحكمنا هو من فصيلة أخرى، ربما لم تظنها أفضل، وإنما من فصيلة أخرى غالبا" تعرف الخداع وتتقن التجبر، وأننا أفضل من تلك الفصيلة، فهم يكذبون ونحن لا، وهم يقتلون ونحن لا، وهم يخادعون ونحن لا، هم يقينيون ونحن شكاكون، وأنه في النهاية من المستحسن ألا نوضع في نفس الخانة معهم، ببساطة لأننا نظيفون وهم قمامة. حسنا"،هذا ما اكتشفته لاحقا" في مذكراتها السرية، فقد كانت والدتي تملي شكوكها ولم تكن تملك الشجاعة على البوح بها لذلك ربما نضبت مبكرا"، أو ربما فتتها الخوف والهشاشة. أما والدي بائع الخردوات البسيط، بشكوكه الكبيرة والعظيمة، لم يعرف الخوف يوما"، وكان يصرح عن شكوكه بكل جرأة أمام العامة. كان يجيد وضع تلك الشكوك في قالب فني، مما أكسبه شهرة واسعة في كونه متحدثا" لبقا" وربما هذا ما جعله متفوقا" على والدتي، ومنحه البقاء أكثر منها. كان قد درس عامين في الجامعة ثم اعتقل من قبل نظام الأسد لنشاطاته الجامعية المضرة بالأمن القومي على حسب ما اتهموه به أمن الأسد الهستيري. مازال والدي إلى اليوم يروي القصة ويضحك، ويقول : لو كنت أعلم بأن إلقاء شعر الزجل سيضر بالأمن القومي حينها، لجلبت طبلا" وزمرا" حينها وجعلت من راقصة ترقص فوق الطبل، حينها كانوا سيصنعون لي تمثالا" بدلا" من قضائي في السجن عشر سنوات دون تهمة ثم الخروج إلى الحياة لأبدأ رحلتي من الصفر... هههههه كان يضحك ويضحك ثم يصمت فجأة وتدمع عيناه. رغم كل شيء كانت والدتي تحب أشعاره الزجلية وهذا ما كان مكتفيا" به. لقد أحبها منذ الطفولة وكانت المرأة الوحيدة التي انتظرته ريثما يخرج من المعتقل، المرأة الوحيدة التي وافقت على أن تبدأ معه من جديد، شكوكا" أخرى وهموما" أخرى. لم تقو والدتي على حياة قاسية كتلك، إلا أنها تحملت نتاج قراراتها بكل صبر، ومررت شكوكها إلي، شكوك النقص، شكوك طفل تحتم عليه أن يكبر وذراع واحدة تضمه، ذراع أب لن تكفيه، وستبقى على الدوام تلك الأم المغادرة هي عقدته الدائمه، هي شكه الذي سيجعله يلهث دوما" خلف يقين واهٍ.
نشأت كمراهق محب للدرس، غير متطلب، بنظارات طبية سميكة العدسات و رغبة كبيرة في أن أحظى بأعلى العلامات. كان والدي متفوقا" في عمله كبائع للخردوات وهذا ما شجعني عليه، (عليك بالتفوق يا نور، التفوق سيجعلك تتساءل دوما" ما الذي يمكنني أن أفكر به بعد؟ كيف لي أن أتفوق مجددا"؟). وكنت حين يرق قلبي لإحداهن، كان والدي يحثني على ترك الأمور العاطفية على الهامش حتى أتخرج من كلية الطب الجامعية وحينها فقط سيتسنى لي بأن أحب، فالحب شيء من اليقين وذلك سيمنحني الطمأنينة المزيفة على حد تعبيره، (كن عمليا" يانور، ولا تكرر تجربتي، فنحن تحت رحمة نظام فاشي و قاتل، لا يؤتمن له، ولا يرحم الحالمين). لذا امتنعت عن الحلم وشككت حتى في وجودي اليومي، ومنحني ذلك نقصا" في الثقة بأي أحد، ورغبة في مل ء الوقت في ما يفيد من منظار والدي، حتى أنني تعلمت الطبخ والغسيل وكل ما تقوم به المرأة في المنزل، فقد رفض والدي الزواج بامرأة أخرى إخلاصا" لوالدتي وكان علي أن أرد له هذا الجميل. حين كنت طفلا" كنت أقل انطوائية مما كنت عليه في الجامعة، ربما لأنني كنت شكاكا" أكثر، باحثا" أكثر عن حيوات أخرى وخيال أوسع، إلا أن ما زرعه والدي في رأسي من حب للتفوق ومساءلة المشاعر وذلك الخوف من النظام السياسي الفاشي الذي يحكمنا هو ما جعلني يقيني للغاية و جعلني وحيدا". كانت الوحدة هي مصير الجميع ربما في ظل نظام عسكري حديدي كنظام الأسد البعثي والفاشي، نظام الحزب الواحد والأفكار المتعفنة الواحدة، والتي يظن أصحابها بأنها أبدية. لذا كان علينا أن نواجه هذا اليقين الشيطاني بيقين مضاد، وكان يقيني هو أن أكون متفوقا" على الدوام، كان يقيني هو التفوق، و هذا ربما ما جعلني كآلة تعمل دون أن تكل أو تمل، آلة تسعى للتفوق كي تحمي نفسها من نظام مجرم، وكي لا يتكرر ما حصل مع والدي وجعله مقهورا" على الدوام كسير النفس يتحسر على مستقبل ضاع منه، بسبب شراسة نظام حديدي جاهل وأعمى، ويقيني على نحو مقزز. التحقت إلى جانب دراستي بصف لتعلم الخياطة لدى أحد الخياطين في سوق مدينتي، وتفوقت فيها، كانت الخياطة بمثابة الفن الذي سينقذني من يقيني الذي سيصرعني فلسفيا" في النهاية، فكانت شكا" أضيفه لشكوكي القديمة كي أستمر في العيش دون أن يزورني هاجس التمرد الذي زار والدي من قبلي. كان التعامل مع الأقمشة والألوان يجعلني ألتفت إلى ما في هذه الحياة من تفاصيل تجعلها جميلة، وتجعلك تعيش في خدر لذيذ يغنيك عن كل ما تقوله الكتب والمجلات والنشرات الإخبارية. شكل ذلك إلى جانب دراستي، نشاطا" جسديا" وفكريا" أملأ به كامل وقتي، وذلك سيحميني من حد اليقين، الذي يبرز سكينه في وجهي كل فترة ويغريني لأذبح ذاتي به، وأكرر قصة والدي أو ربما والدتي، التي نضبت شكوكها مبكرا" فغادرت العالم تاركة طفلا" عجن من الشك، إلى الحد الذي أنهكه وأراد أن ينتحر في بركة الفلسفة، حيث تركد فلسفات العالم كله، ليخرج منها صرفا" إلى حياة ملأى بالأحلام المحققة، والقوة والثراء أو ربما بالتفوق فقط لأجل التفوق. ذات مرة نصحني أحد أصدقائي في الجامعة، أنه علينا أن نترك مسافة لأنفسنا في خضم صراعات الحياة الكثيرة والمرهقة، إلا أنني لم ألتفت إليه ولما يقوله، كنت ماضيا" في طريقي الذي رسمه لي والدي، وربما فيما بعد المجتمع. كان علي أن أكون الأقوى أيضا"، القوة الجسدية والنفسية، لكنها كانت أصعب الأمنيات وصولا"، فذلك يتطلب السلطة والسلطة في يد اللصوص والطغاة و محدودي التفكير، في أيدي الشر بكل بساطة وذلك يجعل الوصول إليها صعبا" للغاية. كان ثمة سلطات بسيطة يمكنك أن تحظى بها في عالم شرقي إقطاعي ربما ولن يتغير. سلطة رجل على امرأته، سلطة مدير على موظفه، سلطة صاحب مهنة على شغيلته، أو ربما سلطة صاحب مزرعة على مزارعيه. لكن السلطة الحقيقية، سلطة الفكر والحرية والقوة كانت في أيدي الأشرار والمنافقين والفاسدين، سلطة أسد ينهش كل ما في طريقه من غزلان مهما اعتدوا بأنفسهم وقدموا أجمل ما عندهم، فقط لأنه يملك مقومات القوة وسط عالم معاييره تتطابق مع معايير الغابة. وأنا لم أجرب التفوق على امرأة، كانت المرأة بعيدة كليا" عني، ولم أكن أعلم عنها شيئا"، ولم يثرني حتى التفوق عليها، بذلك التفوق الذي يشفع له مجتمعنا الشرقي. أو ربما لكون والدي لم يتواطأ مع هذا المجتمع في قهر المرأة. كان والدي هو قدوتي، ومصدر شكوكي المتجددة، وكنت أنا أتبع ما يمليه علي و هذا ربما ما حماني من الوقوع في شرك اليقين. إلا أن ذلك كله تغير بموته، نعم، مات من يقيني من الوقوع في اليقين وإليكم قصة وفاته.
كان بائع الخردوات البسيط في طريقه إلى عمله حين مر إلى جانب مظاهرة شبابية يهتف فيها الجموع برغبتهم في إسقاط نظام الأسد الفاشي الذي جثم عقودا" على صدر الشعب السوري بفساده واشتراكيته المنافقة وأفكاره العفنة،فجاءته رصاصة طائشة من شبيح كان يطلق النار على الشبان، فصرع قتيلا"على الفور. والدي الذي عاش حياته بعد الخروج من المعتقل مسالما" يبتكر شكوكا" من اللاشيء تضمن استمراره في العيش خر قتيلا" بيقين رجل سفيه قد حشي دماغه بفكرة صون القائد الذي ربما يطعمه ويسقيه على حساب الشعب السوري المقهور والمعدم. مات والدي برصاصة وحشية النظام ووحشية يقينه، و حينها أنا بدأت أخترع يقيني الذي سأواجه به نظام الأسد. كانت الكتابة هي ذلك اليقين، كل ما أكتبه معاش بالضرورة وبالتالي يقيني، علي أن أواجه نظام الأسد بتوثيق ما يحصل، وأولها قصة أبي. أهملت جامعتي ودراستي وكل ما كان يلقنني والدي دروسا" عن أهمية التشبث به، ومنحت جل وقتي لأفضح هذا النظام. حين أصدرت بيانا" أدين فيه ممارسات النظام الوحشية ضد المدنيين العزل في المظاهرات، وجعلت من زملائي أصحاب الشهامة والذين يرفضون الظلم يوقعون عليه، اعتقلت. سخر مني ضابط الأسد و صرخ في وجهي : (لو كنت مكانك لم أكن لأرفع رأسي بين الناس، مادام والدك خائن من قبلك، وأنت توزع بيانات وتدلي برأيك يا صرصار، يجب سحقك بقدمي). خرجت من المعتقل بعد أن منحوني فترة قصيرة لأغادر بها البلاد، فاخترت ادلب المحررة ملاذا" لي ومكانا" أبدأ فيه رسم يقيني إلى جانب أصدقائي الشرفاء حيث سنهزم يوما" نظام الأسد الوحشي والفاشي. لم أكن أعلم بأن وجودي في ادلب المحررة سيضع في طريقي دروبا" كثيرة تمدني بشكوك جميلة جعلتني أفضل الشك من جديد وأتغنى به، الشك الذي يجعلك تعمل بكد بيديك وتغتنم كل فرصة لفعل الخير. أكملت دراستي الجامعية في الطب في جامعة ادلب المحررة حيث كنت قد توقفت بسبب الاعتقال بداية ثم فصلت من جامعة مدينتي اللاذقية، لأسباب أمنية كما جاء في وثيقة أمن الأسد الفاشي. في حياتي الجامعية كنت انطوائيا" أسعى للتفوق كعادتي إلا أن ذلك سرعان ما تغير مع بداية الثورة، وموت والدي. شكل موت والدي منعطفا" في وجداني، أو ربما كان ذلك الخيط الرفيع ما بين الشك واليقين قد كان موجودا" إلا أنه برز أكثر. بعد موت والدي زرت بداية قريته الريفية الزاخرة بالمناظر الطبيعية، كنت أرغب في أن أجتاز تلك المحنة أولا" دون أن أبدي أية ردة فعل، فاخترت القرية التي نشأ فيها. منحني وجود الطبيعة حولي والسماء والرياح والشجر المثقل بالثمار والخضرة تفكرا" وتأملا" أكبر فيما علي فعله، إلا أنه بدلا" من جعلي أنتقي الطريق السهلة بأن أصمت وأتابع حياتي، جعلني أسير باتجاه أن أتكلم، كانت فكرة البيان الذي أصدرته باسم طلاب الجامعة قد خطرت في بالي في أمسية قروية حيث الغروب وطيور السنونو تحوم أمام الشمس هناك خلف الجبال الترابية البعيدة. ومن قرية والدي حيث نشأ على الشعر وحب الزجل بدأت حكاية يقيني الخاص. لذا لما عدت إلى مدينتي من الريف عزمت على أن أرمي كل شكوكي القديمة بما في ذلك شكوكي الموروثة عن والدتي والتجرؤ على أن أملك اليقين لأول مرة في حياتي وأصرخ في وجه الظلم والطغيان. ساعدني في ذلك زميل لي يدرس الطب مثلي، لم يكن صديقا" لي وإنما انجذب لفكرتي كونه ينحدر من بيئة معارضة مثلي، لكنها كانت معتادة على الجهر بآرائها السياسية وليس كوالدي الذي قرر الصمت طوال حياته مخترعا" شكوكا" حياتية ربما من الوهم أحيانا". غادر هذا الزميل الذي أصبح بالضرورة صديقا" لي فيما بعد، غادر إلى ادلب المحررة مثلي بعد اعتقال كلينا وإطلاق سراحينا ومنحنا معا" مهلة للرحيل من البلاد وإلا لقينا مصرعينا. وهناك في ادلب المحررة كان لدينا شكوك كثر في الحياة لنختبرها وكان يقيننا الواحد والوحيد هي أن يسقط هذا النظام الأسدي الفاشي ذات يوم.
لابد من أن الشكوك التي كانت تراودني طوال حياتي لها علاقة بهشاشتي، قصر نظري وضعف جسدي الذي لم يتغذ جيدا" من صدر والدته. هذا ما التمسته في طريقي إلى ادلب المحررة حيث كان صديقي (راشد) أسرع مني حركة وانتباها" للأشياء من حوله. حين تحتم علينا سلك بعض الطرقات في البراري الموحشة، وعبور نهر الفرات حيث كدت أسقط من القارب نتيجة تعرضي لدوار بسبب قصر نظري ومعاناتي من الانحراف في الرؤية. كنت أنظر إلى النهر و تنتابني مشاعر غريبة بأن أسقط نفسي فيه وأغتسل بمائه كما يفعل الهندوس، وأخرج منه وليدا" جديدا" قوي البنية بيقين مطلق قادر على أن يسحق أعداءه مهما بلغت سلطتهم وقوتهم وطغيانهم. لكن حتى موسى عليه السلام لم يهزم فرعون بالقوة وإنما بالحكمة والعقل، بالقدرات الخارقة التي منحها الله له، هزمه بموهبته. هذا ما كان يمنحني مزيدا" من الصبر، ومزيدا" من الأمل، موهبتي، أحلامي. فالأحلام شكوك أخرى تمنحك الأمل، و تقويك على الصعاب وتجعلك تحتمل وتصبر. كان راشد مندهشا" لمدى هشاشتي، وصعوبة قيامي بأمور بسيطة بالنسبة له، لم يكن ليدرك مدى هشاشتي ولن يفهم بالطبع ما تربيت ونشأت عليه في كنف والدي، من رغبة في التفوق رغم كل الضعف الجسدي والهشاشة النفسية. إلا أنني قوي كما أخبرتكم، قوي بأملي، بشكوكي، بأحلامي، وبموهبتي. أنا ماض نحو ادلب المحررة لأنتقم لوالدي بالكلمة، بالموهبة وذلك ستكون نتيجته حتما" سقوط نظام الأسد. نعم الشك سيسقط يقين الأسد الشرير ولو بعد حين.
فور وصولنا إحدى البلدات التي تقع على الحدود التركية السورية، والتي كانت قرية أجداد (راشد) توجهنا إلى منزل جده القديم والذي لم يزره منذ صغره. أخبرنا القس بداية بمجيئنا ولجوءنا للبلدة، ثم نزلنا باتجاه المنزل الذي يقع في نهاية البلدة، ويبرز كحلم مختلف في أمسية شاعرية، أو كشمس تبرز من خلف التلال في مشهد استثنائي للفجر. كان المنزل محاطا" بشجيرات الأنكي دينيا والليلك وأزهار فم السمكة والسجاد والنرجس و الدفلى، حيث تسلقت النباتات وتشابكت بما يغلق باب المنزل الحديدي المنقوش عليه باللغة التركية. كان أجداد راشد من الأتراك، قدموا من أضنة هربا" من المشاركة في الجيش العثماني آنذاك. كان جده رساما" وتاجر أقمشة معروف، هذا ما أخبرني به حالما دخلنا المنزل. اختار جد راشد شكوك الموهبة كي يستمر في الحياة وهي التي أعانته على السلام، فعاش هو وعائلته في رخاء وسعادة تامتين. لقد رفض جده أن يحمل سلاحا" أو أن ينتمي إلى جيش، فهذا كان يقينا" لم يستسيغه يوما". من كان يتوقع أن أجيء بعد كل تلك السنوات وأستمتع بهذه المناظر التي رأيتها هناك في منزل جد راشد. كان ثمة حاكي يعود إلى فترة الخمسينيات حيث شغله راشد و استمعنا إلى أم كلثوم وأغنيتها (عودت عيني على رؤياك). الفن هو أصل الشكوك وأروعها، فكرت في سري ثم تأملت الستائر التي خاطها جد راشد بنفسه. لم تثر راشد كل تلك المظاهر الفنية فقد كان معتادا" عليها، وكان لأفكاره اليسارية يكره البذخ والمبالغة في مظاهر الثراء الفاحش. لكنني أحببت كل مافي المنزل، لوحات تشكيلية لرسامين عالميين، ديلاكروا وفان كوخ في القسم العتيق للمنزل، وبيكاسو في الجزء الحديث للمنزل. فوجئت أكثر ما فوجئت بوجود أقمشة قديمة في خزانة حجرية لم يمسسها ضر رغم كل تلك السنوات. قال راشد بأن والدته تحب هذا المنزل وكانت قبل أن تموت تأتي إلى المنزل وتتفقده وتهتم به. ومنذ بدأت الثورة وانقطع الطريق إلى ادلب حيث كان هو في اللاذقية يدرس في الجامعة ، لم يزر أحد المنزل. وهاهو قدر المنزل أن يعيش فيه أقل أفراد العائلة انبهارا" به. بالنسبة لي كان المنزل بما فيه ساحرا"، وأعجبني هذا الإرث العثماني من الأقمشة والمظاهر واللوحات التاريخية التي تشعرك بأنك تختبر حقبة تاريخية فاتت وولت بمجرد التنقل بين غرف هذا المنزل المبتدع المليء بأصل الشكوك، بالرغبة في الإبداع. وخطرت في بالي فكرة رائعة بتحويل هذه الأقمشة إلى أزياء وبيعها لأهل البلدة بحيث نجني المال اللازم لاستمرارنا لدفع أجار الطرقات من أجل الوصول لادلب المدينة واستكمال الدراسة في جامعة ادلب المحررة. لم أخبر راشد بفكرتي بل أجلتها قليلا" ريثما يصبح المنزل جاهزا" بعد تنظيفه وترتيبه.
أول ما فعلناه فور وصولنا هو إعلام قس البلدة الكاثوليكي بوصولنا حيث جلب راشد مفتاح منزل أجداده منه، فقد كانت والدته قد عهدت بالمفتاح للقس بعد وفاة والده إبان خروجه من المعتقل، حيث قضى نصف عمره في معتقلات الأسد لانتمائه لحزب العمل الشيوعي. ثم توفيت والدته من بعده قهرا" عليه، فتوكل القس بأمر المنزل والعناية به وتفقده. وكان يرسل فتاة يتيمة عاشت حياتها في خدمة الدير لتنظيفه دائما" والعناية به. قال القس بأن( ريتا) الفتاة التي تعتني بالمنزل قد عثرت على أقمشة نادرة تعود إلى الحقبة العثمانية، وأنه من الأفضل استثمارها. كان الثوار قد سيطروا على البلدة ووقفوا على أطرافها يحرسونها و يحفظون الأمن والأمان لأهلها. حين رافقنا القس إلى المنزل، حياه الثوار باحترام كبير، فقد كانوا يقدرونه لمكانته الدينية المباركة. لقد كان القس مثل والدي رحمه الله،يحبه الجميع ويحترمونه مع أن والدي لم يكن ذا مكانة دينية، لكنه كان رجلا" طيبا" شوهه نظام الأسد وظلمه وسرق منه حياته. رافقتنا ريتا إلى المنزل لما دخلناه أول مرة، وهي من دلتنا على مكان الأقمشة، التمست فيها تلك الهشاشة ذاتها وقهر اليتم الذي أعرفه أنا. كانت نحيلة الجسد تضع نظارات كبيرة على عينيها، إلا أنها كانت سعيدة، وكان ثمة يقين وراحة وطمأنينة في ملامحها،وهذا الذي لم أتمتع به يوما" بسبب إصرار والدي على أن أتفوق وأشك دوما" وأتعلم على الدوام وأن أقلق من كل شيء لمواجهة يقينية نظام الأسد الفاشي. لقد اكتفت ريتا بخدمة الدير كوسيلة لمقاومة الأشرار وهزيمتهم، بينما أنا لم أستطع أن أعيش ذات الركود، كان علي أن أثور لكن ثورة تليق بهشاشتي، تليق بشكوكي وهي الكتابة، وتوقيع بياني الجامعي ثم اللجوء إلى بلدة راشد حيث سنعمل من هنا وننجز لنتمكن يوما" من أن نسقط الطاغية الأسدي.،وسنتمكن حتما".
في اليوم التالي لمجيئنا للبلدة، استيقظت ورحت أتأمل البلدة عبر زجاج النافذة المحاطة بشجيرات الخوخ والرمان، والحجر المنقوش بالأسلوب العثماني. كانت أحجار المنازل كبيرة الحجم وكلها مبنية على الطريقة الباريسية وهذا يعود إلى فترة الاحتلال الفرنسي. ماعدا منزل أجداد راشد الذي احتفظ بطابعه العثماني وبدا مختلفا" عن أقرانه، لقد كان منزلا" مفعما" بالشكوك متمثلة بالفنون التي تكتسحه بكل ضراوة وجرأة وجمال. كان الثوار الشرفاء قد تحلقوا حول البلدة لحمايتها، وسمعتهم يقولون بأن قذيفة أطلقها نظام الأسد الفاشي باتجاه البلدة ليلا" وأنها سقطت في ساحة الدير، لكنها لم تصب أحدا" بأذى. أيقظت راشد من نومه، وعزمنا على زيارة القس من أجل الاطمئنان عليه. قدمت لنا ريتا الشاي وجلست في محضرنا، وراحت تبكي وتصف لنا لحظات سقوط القذيفة في بركة الدير وأن الله قد أنجا القس برحمته. شعرت لأول مرة برغبة في أن تبقى أنثى جالسة بالقرب مني، لأول مرة في حياتي تهمني الأنثى وما تفكر به وما تقوله. كانت ريتا هي أول فتاة ربما ستجعلني أشك في الحب وأعيش معها قصة حب أثبت فيها شكوكي عنه، وأصل إلى يقيني فيه، أنني أحب ريتا .
حين كنت أدرس في جامعة مدينتي اللاذقية، ولشكوكي الكثيرة عن التفوق في الدراسة وتفوقي في مجال الخياطة إلى جانب اهتماماتي السياسية لم ألتفت لأي من زميلاتي في الدراسة، كنت أتبع نصيحة والدي بكل بساطة، مع أنني التمست في الكثيرات حبهن لي، لكن المرأة كانت كائنا" غريبا" عني ولم أجد فيهن ما عشته أو ما شعرت به. إلا أن ريتا قد غيرت مفهومي عن المرأة، فقد أحببت معها طباع الأنثى، كالضعف والمشاعر الصادقة وحنانها أثناء سرد ما يحصل حولها من وقائع. إلا أنه في اليوم الذي قررت فيه أن أخبر راشد عن فكرتي بافتتاح مشروع أزياء مستعملا" الأقمشة التركية التي وجدناها في منزل أجداده في الخزانة الحجرية، و عزمت على أن نبدأ فيه لنتمكن من الالتحاق بالجامعة لمتابعة دراستنا، في ذلك اليوم علمت بأن ريتا مخطوبة من رجل آخر، كان يعمل في المشفى الميداني حيث يسعف المتضررين من بطش نظام الأسد الفاشي وقذائفه التي تمطر على الأبرياء من المدنيين والثوار. أخبرتني بهذا فتاة بدوية تعيش في المنزل المجاور لمنزل أجداد راشد ، كان خطيبها من الثوار الذين يقاتلون عصابات الأسد المجرمة. شاهدت تلك البدوية التي تدعى (حمدة) الأقمشة التركية حين غسلتها وعلقتها في الخارج كي تجف، فانتابها الفضول في ما سأستخدمها، حينها أخبرتها بكل القصة، فاقترحت علي أن تشاركني المشروع وبأنها مستعدة أن تجلب الكثير من العاملات اليدويات لتخطن وتطرزن الملبوسات من تلك الأقمشة الفاتنة، فوافقت على اقتراحها. لقد كانت متحمسة وقالت بأن ذلك خطوة هامة في الثورة أيضا"، أن نستمر في العيش والعمل بجد والإبداع والابتكار، كل هذا جزء من الثورة، فحين تكثر أعمالنا نقوى ونستطيع أن نهزم الطغيان الأسدي. كانت حمدة امرأة ساحرة الجمال، بسمرة عربية صرفة وعينين شهلاوتين وقد تحجبت بحجاب أسود اللون مطرز بالخرز الذهبي اللماع ، وكانت قد تكحلت بالكحل العربي الحجري الذي يبرز جمال عيني الفتاة وحدتها كعيون الصقور القوية. جلبت لي بالفعل صديقاتها البدويات أيضا"، وخطيبها من الثوار الذي جاء لحماية المكان الذي سنعمل فيه. اتخذت من دكان ملحق بمنزل أجداد راشد مكانا" للعمل، بعد أن استشرته في الموضوع ووافق. كان راشد بعيدا" تماما" عن عالم الأقمشة و الفنون وكل ما يصفه بمظاهر برجوازية وانشغل في توثيقه عبر كاميرته الفوتوغرافية، توثيقه لانتهاكات النظام وقصفه للمدنيين والمشفى الميداني، ووثق جرائمه بالصوت والصورة. قال لي بأنني حر التصرف بالمنزل كما يحلو لي، فاستقبلت الفتيات البدويات اللواتي سيعملن إلى جانبي في صنع الألبسة وتطريزها، سيكون مشروعا" فنيا" بامتياز. و بالفعل بدأنا في هذا المشروع، وأشغلني ذلك عن التفكير بريتا، حيث عزمت على الوقوف عن التفكير فيها كي لا تخيب ظنوني في النهاية، طالما أنها تعزم على الزواج بآخر. افتتحنا متجرنا بعد حوالي شهر من التحضيرات، وقدمنا فيه أول قطع من الملابس التي طرزتها الفتيات صديقات حمدة بكل شغف و جمالية وحسن تدبر وصبر عظيم. عرضنا أولى ملابسنا بعد أن دعم مشروعنا من قبل الدير الكاثوليكي حيث مدونا بآلات الخياطة اللازمة وبمبلغ من أجل أن ننطلق منه. بعنا الجلابيات المطرزة والحجابات بأنواعها إلى جانب العباءات المطرزة والكنزات والنسائية وفساتينا" للأعراس مطرزة ومبتكرة. لم يقتصر عملي في البلدة على التطريز والخياطة فقد خدمت في المشفى الميداني التابع للثوار حين احتاجوا عددا" كبيرا" من المسعفين، وذلك بحكم خبرتي الطبية البسيطة. شاهدت الجرحى من الثوار والمدنيين الذين قصفهم النظام بطائراته الروسية،وأنقذت العديد منهم إلا أن بعضهم قد استشهد بعد صراع طويل مع جراحه. لأول مرة شعرت بأن اليقين يتملكني، يقين حلو تحلو معه الحياة، بأنك تعمل من أجل إنقاذ حيوات الناس ومن أجل أن تمدهم بكل ما يجعل من الحياة جميلة ،إلى جانب رغبتي في توثيق كل جرائم نظام الأسد. كان اليقين في بعض أشكاله رائعا"، وليس كل اليقينات مرة وشريرة كيقين النظام الأسدي الفاشي والمجرم. لم ينقصني لأستمر في الحياة وأنفع الناس سوى وجود ريتا بقربي، والتي هي من شجعتني على كل ذلك. وحتى لو استشهدت وأنا أسعف الجرحى من الثوار والمدنيين، لن تكون حتما" نهايتي، لأن الشهيد حي يرزق وخصوصا" إذا قضى عمره في خدمة الحق والحقيقة. نعم أقولها بكل يقين، أن الحق معنا، وسوف تنتصر ثورتنا يوما" ما.
راشد تعرفت بنور على دفعات، فنور من الشخصيات التي من الصعب أن تكسب ثقتها بهذه السهولة. جمعنا الماضي السياسي لعائلتينا، لكن نور كان دائم الخوف على الدوام، هشا"، غير قادر على أن يقرر بسرعة،لكنه كان ودودا" على الدوام وهذا ما أعجبني فيه. حين اعتقلنا سوية، قاومت رجال أمن الأسد فضربوني ضربا" مبرحا" إلا أن نور لم يقاوم، كان مسالما" زيادة عن اللزوم. كنت قد خرجت في المظاهرات السلمية مع بداية الثورة فيما هو لم يخرج بل اكتفى بإصدار البيان الجامعي في جامعتنا اللاذقية،الذي ندين فيه ممارسات أمن النظام الأسدي الفاشي. كان نور يخشى الموت كثيرا"، رغم أنه يدعي العكس، كان ثمة دوما" في عينيه رغبة في العيش ولم يكن مستعدا" للموت في سبيل مبادئه بينما أنا على عكسه. لقد تربيت أن المبادئ أهم من الحياة نفسها وسط عائلة شيوعية ملتزمة، رغم أنها تنحدر عن سلالة عثمانية برجوازية جاءت من أضنة بعد رفض جدي الأكبر المشاركة في الجيش، فقد كان مرهف الحس يشبه إلى حد كبير شخصية نور صديقي. أقولها اليوم صديقي بكل تأكيد، فقد أصبح نور قريبا" مني للغاية رغم الفروقات الكبيرة بيننا. حيث كان هو متذوقا" للفنون بينما كنت أنا أعتبرها ابتذالا" لا فائدة منه. حين خرجنا من المعتقل اكتشفت بأنه يصلح صديقا" لي، فقد كان يجمعنا الحلم ذاته، والحلم يزيل كل الفروقات، وليس أقوى من صداقة تبنى على الحلم ذاته. لقد رغبنا سوية في أن يسقط نظام الظلم والطغيان وكان هذا كفيلا" بجعلنا نمد أيدينا لبعض. لم يؤمن نور بيقين طوال حياته سوى يقينه بضرورة إسقاط هذا النظام، ولم يثبت حتى على توجه واحد في اهتماماته فكان يحب الكتابة و كتب الكثير من المقالات الالكترونية يوثق فيها انتهاكات أمن الأسد وشبيحته بحق المتظاهرين السلميين، وتعلم الخياطة إلى جانب دراسته في الطب، كان إنسانا" مميزا" يصلح صديقا" لكونه مناقضا" لما في دواخلي من إنسان يصر على مبادئه وهو يستعد للموت من أجلها. لم أكن أؤمن إلا بالفعل، وكنت أؤمن بأنه لو أردنا أن نسقط النظام الأسدي فعلينا محاربته، ولو بأبسط الطرق كأن نساعد في إسعاف الجرحى، بأن نفعل أقصى ما بيدينا فعله. لذا اقترحت عليه بأن نقصد بلدة جدي التركي هناك على الحدود السورية التركية في ادلب المحررة،فأعجبه اقتراحي. مضينا معا" في البراري الموحشة، وقطعنا الدروب المقفرة والنهر كي نصل إلى تلك القرية البعيدة. حين وصلنا افتتن نور بمنزل أجدادي بينما أنا كنت أجده بذخا" فارغا" لا فائدة منه. بهر بالنقوش التركية على باب المنزل وبالمزروعات المحيطة فيه، وبلوحات ديلاكروا وبيكاسو في ممرات المنزل. وحين عثرنا على أقمشة تعود إلى عصر العثمانيين، أعجب بها واقترح بأن نستثمرها كما حضنا قس البلدة. وبالفعل حول كلامه إلى فعل للمرة الثانية ربما في حياته بعد أن كانت المرة الأولى عند توقيعه لبيان الجامعة هناك في كليتنا في اللاذقية. لقد بدأت أتأثر به وأؤثر فيه، وبينما كان يعمل بجد في تصنيف الأقمشة وترتيبها ونقل آلات الخياطة كنت أنا مكتفيا" بأخذ الأقراص المنومة والمهدئات لأتمكن من تجاوز تلك المرحلة من الضياع وعدم الاتكاء على صلب. للمرة الأولى شعرت بهشاشتي أمامه، لقد بدا أقوى مني وعرف ما الذي يريده، كان يرغب بأن يبث الحياة في القرية بينما أنا كنت عاجزا" عن فعل شيء بداية. ثم في يوم من الأيام نهضت من سريري وقصدت المشفى الميداني التابع للثوار وعرضت تطوعي ومساعدتي، فقبلوا بي كمسعف رغم أنني لم أدرس في الطب سوى عامين،بشرط أن أخضع لدورة تدريبية في الإسعاف. هناك في المشفى الميداني بدأت في تقدير قيمة الحياة، بأن تكون نافعا" لمن يشاركونك الحلم ذاته، كان ذلك ربما معنى الحياة الذي لم أدركه يوما"، وأدركته بفضل نور، و انفتاحه ورغبته في الحياة والنصر.
ريتا عشت يتيمة كسيرة طوال حياتي ووحيدة، كنت أخدم الدير علّ القدر يخدمني ويرسل لي من يعطف علي. نعم أنا مخلوقة تحتاج العطف والحنان، ببساطة لأنني لم أمتلكها يوما". لم أحب يوما" الفلسفة ولا المتفلسفين، وأرى الأمور بواقعية محضة، لأنه ببساطة عشت محرومة من الحياة الطبيعية لفتاة مثلي أو في مثل عمري في جميع مراحل حياتي. في كل يوم منذ صغري، أستيقظ وحيدة و أنهض لتجهيز نفسي وأنظر في المرآة إلى الوجه ذاته الذي لم ولن يتغير، أقوم بواجباتي من التنظيف والعناية بمسكن القس ثم ألتحق بالصلاة في الكنيسة. ثم أقصد مدرستي وأنا في أقصى حماسي للقاء البشر، لذا كنت أصل قبل الجميع. لكن ما كنت أجده ليس ما أتوقعه، لقد كان الجميع مختلفين عني، كل منشغل بأشياء لا أعلم عنها شيئا"، وحتى مهما بلغت ابتسامتي في وجوههم لن تجدي نفعا" في جعلهم يتنبهون إلي، كنت وحيدة على الدوام وانطوائية رغما" عني فما أذكره أنني كنت أرغب في أن أكون قريبة منهم لكنني لم أجد اسلوبا" لإيصال رغبتي. لذا لم أكمل دراستي بعد الثانوية، وفضلت أن أحيا حياة مضمونة الفهم ومعتادة وواقعية إلى حد كبير، بأن أعيش لخدمة الدير والأب. وحتى لما اقترح علي القس الأب بأن أوافق على خطبة شاب مؤمن يعمل طبيبا" سمعته وإيمانه تدلان عنه وافقت على اقتراحه، وخطبت لذلك الشاب. لكنني لم أكن سعيدة يوما"، وظننت بداية أن السعادة وهم وأن معنى الحياة لن يتحقق إلا بالمعاناة. إلى أن جاء ذلك الشاب الذي يدعى (نور) بانفتاحه على الحياة وهدوئه و روحه الثائرة لكن الحكيمة في ذات الوقت، شعرت للمرة الأولى بأنه ثمة في الحياة أناس يشبهونني. شعرت به قريبا" مني وربما عانى ذات معاناتي، لذا اطمأننت له كل هذه الطمأنينة. أحببت شغفه بالفنون ورغبته في خدمة البلدة وإضفاء الجمال عليها، وبث الحياة مجددا" فيها،إلى جانب مبادئه الثورية ورغبته في إسقاط الظلم عن المظلومين. رافقته حين نقل آلات الخياطة من الدير وساعدته في ترتيب تلك الآلات في المتجر الذي افتتحه في الملحق التابع لمنزل أجداد راشد. أحببت لمساته الفنية وعاملني بكل ذوق واحترام. لقد كانت الحياة معه تمنحني فرصة للسعادة، هذا ما كنت بداية لا أجرؤ حتى على التفكير فيه.
حمدة منذ انطلاق الثورة السورية، انضم أشقائي إليها، رغبة في الخلاص من الطغيان الأسدي الفاشي واستشهدوا على أيدي عصابات الأسد المجرمة. ماتت والدتي من القهر عليهم، فبقيت وحيدة. أحببت بعدها شابا" من الثوار، وخطبت له. جاء إلي (محمد) لينقذني من السقوط في الكآبة والاستسلام، كان بمثابة جرعة الحياة التي ستحفظ لي البقاء على قيد الحياة. أصبحت معه فتاة قوية لا تخشى من شيء بتاتا"، فقد مدني بقوته وصبره وقوة تحمله، وعرفت معه العزة وحفظت معه كرامتي. كان يشبه أشقائي في رغبته في رفع الظلم عن شعبنا، وفي شجاعته في مواجهة الرصاص والمصفحات الحديدية لنظام الأسد المجرم بصدره العاري من كل شيء سوى المجابهة بعزة وكرامة،دون الخوف من الشهادة. كان لدي رغبة على الدوام بأن أفعل شيئا" أخدم به الثورة، ولو بأبسط الطرق إلى أن جاء ذلك الشاب الذي يدعى نور إلى بلدتنا. كان شابا" مفعما" بالحيوية والنشاط، ورغبة كبيرة في خدمة الثورة، قال بأنه يوثق جرائم الأسد وينشرها الكترونيا"، فقصصت قصتي عليه علّه يضيفها إلى قصص المضطهدين و ضحايا ذلك النظام الفاشي. كانت ريتا محقة كل الحق في حبها له، لكنني لم أخبره بذلك فقد كانت لا تجرؤ على فسخ خطبتها، لكنني سأقنعها بذلك، فنور شاب يستحق العيش بسعادة معها وهي أيضا" تستحق. ذات يوم شاهدت الأقمشة التركية التي عثر عليها نور في بيت أجداد راشد صديقه، فانتابني الفضول لمعرفة ما الذي ينوي فعله بها فأخبرني بأنه يرغب في افتتاح مشروع لخدمة البلدة بتحويل كل تلك الأقمشة إلى ملابس وخياطتها وبيعها إلى أهل البلدة. كان مشروعا" فنيا" جماليا"، وكنت أنا أعشق الفن والجمال، وكان التعامل مع شخص كنور مريحا" ويضفي على الحياة أملا" ورغبة في الإنجاز. حصلنا على آلات الخياطة من قبل الدير الذي ساهم في مدنا أيضا" بالمال اللازم لافتتاح المشروع. جلبت صديقاتي معي ورحن ننجز ونسعد لأننا نقدم شيئا" ولو بسيطا" للحياة في المناطق المحررة. أنجزنا ذات مرة فساتين الشعنينة لأطفال إخوتنا المسيحيين، وكذلك فساتين و بدلات المناولة. خطنا أيضا" الحجابات و العباءات وقمنا بتطريزها بأجود الخيوط وأروعها جمالا". شعرنا مع نور بأهمية وجودنا، وبالأمل بأن ثورتنا ستنتصر بالفكر أيضا" ذات يوم. كان هذا هو اليقين الذي زرعه فينا قدوم نور إلى البلدة، أننا سننتصر يوما" على نظام الطاغية الأسدي.
خاتمة نور في الثامن من ديسمبر عام ٢٠٢٤ انتصرت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد بفضل ما قدمه الثوار الأغرار من تضحيات. تقوس ظهري واحدودب بفعل الزمن ومنحني مزيدا" من الوقت لأعيش إلى جانب زوجتي ريتا.. منحني مزيدا" من الوقت لأعيش معها ومع أبنائي يقيني الجميل...
تمت.
#الحسين_سليم_حسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنثروبولوجيا الخوف
-
فردوس جهنم
-
يتيمة بيروت
-
قصيدة الحياة
-
التحرر (٧_٨_٩)
-
التحرر (٣_٤_٥_٦)
-
التحرر (الجزء الثاني)
-
التحرر (الجزء الأول)
-
القمع (كاملة)
-
ما الذي لم يقنعني في الأديان؟ (محاضرة)
-
أزهار أبدية(الجزءالثاني)
-
أزهار أبدية (الجزء الأول)
-
القمع (٨)
-
القمع (٨)
-
القمع (٧)
-
القمع (٦)
-
القمع (٥)
-
القمع (٤)
-
القمع (٣)
-
القمع (٢) منقحة
المزيد.....
-
المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي.. سيرة البحث عن إشراق الم
...
-
ترامب: ضجيج بناء قاعة الرقص في البيت الأبيض -موسيقى تُطرب أذ
...
-
لقطات نادرة بعدسة الأميرة البريطانية أليس... هل هذه أول صورة
...
-
-أعتذر عن إزعاجكم-.. إبراهيم عيسى يثير قضية منع عرض فيلم -ال
...
-
مخرجا فيلم -لا أرض أخرى- يتحدثان لـCNN عن واقع الحياة تحت ال
...
-
قبل اللوفر… سرقات ضخمة طالت متاحف عالمية بالعقود الأخيرة
-
إطلاق الإعلان الترويجي الأوّل لفيلم -أسد- من بطولة محمد رمضا
...
-
محسن الوكيلي: -الرواية لعبة خطرة تعيد ترتيب الأشياء-
-
من الأحلام إلى اللاوعي: كيف صوّرت السينما ما يدور داخل عقل ا
...
-
موهبتان من الشتات تمثلان فلسطين بالفنون القتالية المختلطة في
...
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|