حسين علي محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 00:52
المحور:
المجتمع المدني
منذ أن قدم عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو نظريته الشهيرة عام 1943 في بحثه "نظرية الدافع الإنساني"، أصبح ما يُعرف بهرم ماسلو للاحتياجات البشرية أحد أهم المفاتيح لفهم الإنسان وسلوكه.
هذه النظرية لا تفسّر فقط دوافع الأفراد، بل يمكن أن تُقرأ أيضًا كمخطط لفهم حركة المجتمعات وتطورها الحضاري.
فما هو هذا الهرم؟؟
وكيف يتجلى في بناء كيان الإنسان والمجتمع؟؟
وأين تقف مجتمعاتنا العربية على سلّمه اليوم؟؟
■ ماهو الهرم وما فكرته الأساسية؟؟
يرى ماسلو أن الإنسان يتحرك في حياته بدافع سلسلة من الاحتياجات المتدرجة.
فلا يمكن للإنسان أن يسعى إلى مستوى معين من الإشباع قبل أن يُشبع المستوى الأدنى منه.
وقد صاغ ماسلو هذه الاحتياجات على شكل هرم متصاعد يبدأ بالاحتياجات المادية وينتهي بالروحية.
كل مستوى من الهرم يمثل طبقة من طبقات الوجود الإنساني، تبدأ من غريزة البقاء وتنتهي بالبحث عن المعنى.
■ مستويات هرم ماسلو الخمسة
● الاحتياجات الفسيولوجية
وهي القاعدة الأساسية للهرم، وتشمل كل ما يرتبط ببقاء الإنسان الجسدي :
(الطعام والشراب، النوم، التنفس، المسكن، والجنس بوصفه حاجة استمرار للنوع)
لا يمكن للإنسان أن يفكر في الفن أو الفلسفة وهو جائع، فالبقاء هو أول دوافع الوجود.
مثال : عامل يبحث عن لقمة العيش أو لاجئ يبحث عن مأوى، كلاهما يعبّر عن الإنسان في المستوى الأول من الهرم.
● احتياجات الأمان
عندما تُشبع الحاجات الجسدية، ينتقل الإنسان إلى الحاجة إلى الأمان والاستقرار :
(الأمان الجسدي من العنف والخطر، الأمان الصحي والوظيفي، الأمان المالي والاجتماعي)
الإنسان لا يستطيع الإبداع وهو خائف، فالشعور بالأمان هو الجسر نحو الطمأنينة والإنتاج.
مثال : شخص يمتلك طعامه وشرابه، لكنه يعيش في منطقة مضطربة سياسياً، سيبقى قلقاً حتى يجد الأمان.
● احتياجات الانتماء والحب
بعد أن يشعر الإنسان بالأمان، يبدأ في البحث عن العلاقات الإنسانية الدافئة :
(الصداقة والعائلة والمجتمع، الحب والعاطفة، الشعور بالقبول والانتماء)
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وحين يُعزل يفقد جزءً من إنسانيته.
مثال : الطالب الذي يمتلك بيتاً آمناً لكنه يعيش عزلة في المدرسة، سيعاني رغم توافر كل مقومات الراحة المادية.
● احتياجات التقدير
هنا يبحث الإنسان عن الاعتراف بقيمته، من نفسه ومن الآخرين :
(احترام الذات والثقة بالنفس، المكانة الاجتماعية، الشعور بالإنجاز والنجاح)
بعد الانتماء، يريد الإنسان أن يُرى ويُقدر، فغياب التقدير يولد الإحباط والاغتراب.
مثال : المبدع الذي يعمل بجدّ دون أن يجد اعترافاً من مجتمعه، سيشعر أن وجوده بلا أثر.
● احتياجات تحقيق الذات
وهي قمة الهرم، حيث يسعى الإنسان إلى تحقيق أقصى إمكاناته، وأن يصبح ما يمكن أن يكونه بالفعل :
(الإبداع الفني والعلمي، النمو الفكري والروحي، السعي وراء الحقيقة والجمال والمعنى)
في هذا المستوى، لا يسعى الإنسان إلى الكسب المادي بل إلى تحقيق رسالته في الحياة.
مثال : فنان يرسم لأنه يحب الجمال، أو فيلسوف يتأمل في الكون بحثاً عن الحكمة، كلاهما يعيش في مستوى تحقيق الذات.
■ من الفرد إلى المجتمع، الامتداد الجماعي للهرم
بالرغم أن ماسلو وضع نظريته لتفسير سلوك الأفراد، فإن تطبيقها على المجتمعات يكشف بوضوح كيف تتطور الأمم.
فالمجتمع أيضاً يملك "جسداً" و "روحاً" و "حاجات" تشبه حاجات الفرد، ويمكنه أن يصعد أو يهبط في سلم الهرم. ويمكن توضيح ذلك :
- المستوى الفسيولوجي : البنية الاقتصادية والمعيشية، حيث أن المجتمع الذي يعاني من الجوع والفقر ونقص الموارد يبقى في مرحلة البقاء.
فيه ينشغل الناس بتأمين الغذاء والماء والطاقة، وتغيب الثقافة والسياسة.
مثال : المناطق الخارجة من الحروب، حيث يصبح تأمين الخبز أهم من أي مشروع ثقافي أو وطني.
- المستوى الأمان : الاستقرار السياسي والمؤسسي، حين تُؤمَّن المعيشة، يصبح الأمان هو الهدف : (وجود دولة مستقرة، وقانون عادل، ومؤسسات تحمي المواطن لا تراقبه.)
بدون الأمان، لا ينشأ الإبداع ولا يتكوّن الثقة بين الفرد والدولة.
مثال : نهضة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بدأت حين ضمنت حكوماتها الأمان أولًا.
- مستوى الانتماء : الهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي، إذ أن المجتمع المزدهر لا يقوم على الاقتصاد فقط، بل يحتاج إلى شعور عميق بالانتماء : (تماسك بين فئاته، هوية وطنية جامعة، وثقة متبادلة بين المواطن والدولة.)
لذا فإن غياب الانتماء يخلق انقسامات طائفية ومناطقية تضعف النسيج الوطني.
مستوى التقدير : العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، عندما يشعر المواطن أنه يُقدَّر لكفاءته لا لانتمائه أو نسبه، يولد مجتمع منتج.
أما حين تسود المحسوبيات والفساد، يولد الإحباط الجمعي وتهاجر العقول.
العدالة الاجتماعية ليست ترفاً أخلاقياً، بل شرط للبقاء.
- مستوى تحقيق الذات : النضج الحضاري، هنا يبلغ المجتمع ذروة تطوره : (إبداع فكري وفني، ازدهار علمي وتكنولوجي، حرية فكرية ومسؤولية جماعية.)
إنه المجتمع الذي يسأل : ما رسالتنا في التاريخ؟؟
وليس فقط : كيف نعيش؟؟
■ موقع المجتمعات العربية اليوم داخل هرم ماسلو
يمكن القول إن المجتمعات العربية تتوزّع على مستويات مختلفة من الهرم.
عند النظر إلى واقع المجتمعات العربية عبر مستويات هرم ماسلو، نلاحظ أنها لا تتوزع بالتساوي، بل تتكدس غالباً في المراتب الدنيا، مع محاولات محدودة للصعود نحو القمة.
- ففي المستوى الأول (الاحتياجات الفسيولوجية)، نجد شعوبًا ما زالت تخوض صراع البقاء اليومي؛ يعيش أفرادها في ظل الحروب، والفقر، وانعدام الخدمات الأساسية، فلا مجال لديهم للتفكير في قضايا عليا تتجاوز لقمة العيش.
- أما في المستوى الثاني (الأمان)، فهناك مجتمعات مستقرة ظاهريًا لكنها تعاني خوفًا داخليًا عميقًا؛ يخاف الناس من السلطة أكثر مما يثقون بها، ومن المستقبل أكثر مما يخططون له. الأمان هنا مشروط، لا نابع من العدالة.
- وفي المستوى الثالث (الانتماء)، تظهر أزمة اجتماعية متكرّرة: غياب الهوية الجامعة، وتفكك الروابط بين المواطنين، وانتشار العصبية الطائفية أو المناطقية. في هذا المستوى يبحث الفرد عن جماعة تمنحه الأمان بدل أن يجد وطنًا يحتضنه.
- بينما المستوى الرابع (التقدير) يشهد اختلالًا واضحًا، إذ يُهمَّش المبدعون وتُكافأ الولاءات أكثر من الكفاءات، مما يولّد شعورًا عامًا بالإحباط ويُضعف الرغبة في الإبداع والمبادرة. في ظل غياب العدالة والتقدير، لا يشعر الإنسان بقيمته.
- أما المستوى الخامس (تحقيق الذات) فهو الهدف البعيد المنال الذي يطمح إليه الأفراد والمجتمعات. بعض الدول بدأت تقترب منه عبر دعم ريادة الأعمال، والانفتاح الثقافي، وتشجيع التفكير النقدي، لكن الصعود ما زال بطيئًا ومتفاوتًا. فالإبداع الفردي موجود، لكنه يفتقر إلى منظومة مجتمعية تحميه وتغذّيه.
وهكذا يمكن القول إن المجتمعات العربية اليوم تتحرك صعوداً وهبوطاً داخل الهرم، تتقدم في جانب وتتراجع في آخر، وكأنها لم تحسم بعد أولوياتها بين البقاء والكرامة، وبين الأمن والحرية، وبين الحاجة والمعنى.
■ قراءة تحليلية للمأزق العربي
● هيمنة البقاء على الوعي : حين يعيش الناس في فقر أو خوف، تصبح الغريزة أقوى من الفكرة.
يغيب الإبداع، لأن الخائف لا يفكر في الجمال بل في النجاة.
● غياب العدالة يولّد الإحباط : حين لا تُكافأ الكفاءة، يُقتل الحلم في مهده.
وتتحول المجتمعات إلى ساحات "نجاة فردية" بدل "مشاريع جماعية".
● انقسام الهوية يبدّد الطاقة الجماعية : الطائفية والعشائرية تجعل الناس يبحثون عن الأمان داخل دوائر ضيقة، لا في الوطن ككل.
● الحرية الفكرية شرط الصعود : تحقيق الذات الفردية والجماعية لا يتم إلا حين يشعر الإنسان بحرية التعبير والمبادرة دون خوف أو رقابة.
■ نحو تحقيق الذات الجماعية العربية
لكي تصعد المجتمعات العربية سلّم الهرم نحو القمة، لا بد من توازن واقعي بين الطبقات وذلك :
● القضاء على الفقر والجوع والبطالة.
● إصلاح المؤسسات واستقلال القضاء.
● نشر ثقافة المواطنة والهوية الجامعة.
● مكافأة الإبداع والتميّز لا الولاء.
● دعم الثقافة والتعليم والفنون.
الخلاصة :
هرم ماسلو ليس مجرد نظرية في علم النفس، بل هو مرآة لرحلة الإنسان والمجتمع معاً.
فمن الجوع إلى الأمان، ومن الانتماء إلى الإبداع، تتكشف مراحل الوعي الحضاري.
المجتمعات العربية اليوم ما زالت تبحث عن موطئ قدم بين الخوف والمعنى، لكنها تملك في شبابها وثقافتها بذور الصعود.
وحين تدرك أن التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي به،
عندها فقط يمكن أن نرى تحقيق الذات الجماعية، أي أن يصبح المجتمع العربي فاعلاً في التاريخ، لا مفعولاً به.
#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟