حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 14:17
المحور:
الصحافة والاعلام
د. حمدي سيد محمد محمود
الهندسة الاجتماعية الرقمية ظاهرة معقدة متعددة الأبعاد تجمع بين نفسية التأثير البشري، واساليب تصميم الأنظمة الرقمية، والبنية التحتية الاتصالية، والقواعد القانونية والثقافية التي تحكم سلوك الأفراد والمؤسسات في الفضاء الإلكتروني. في صلبها تقف فكرة بسيطة ومخيفة في آنٍ واحد: أن أكثر الثغرات خطورة في أي نظام ليست دائماً تقنية، وإنما بشرية — توقعاتنا، عاداتنا، رغباتنا، مخاوفنا، وطرقنا في الثقة والتواصل يمكن استغلالها لإحداث تأثيرات عملية واسعة النطاق. لكن هذه الحقيقة تحمل أبعاداً نظرية وبيئية وتنظيمية يمكن تفكيكها وتحليلها بعمق من أجل بناء مناعة رقمية مجتمعية تستند إلى فهم متداخل للعوامل التقنية والاجتماعية والسلوكية.
لفهم الظاهرة يجب أولاً إدراك أن الهندسة الاجتماعية الرقمية لم تعد مفهوماً يقتصر على محاولات فردية لخداع موظف أو سرقة كلمة مرور. لقد تطورت لتصبح منظومة أدوات وأساليب تستخدم بيانات ضخمة، قدرات تحليل سلوكية، محركات توصية، وتقنيات التزييف العميق لصياغة رسائل وواجهات ذرائعية متقنة الهدف. المنهج الذي يتبناه الخاطف الرقمي اليوم يبدأ بجمع معلومات مفتوحة ومغلقة عن الهدف: منشورات على وسائل التواصل، شبكات العلاقات، قواعد بيانات عامة، وحتى نمط استخدام التطبيقات. تُستخدم هذه البيانات لبناء نماذج تصنيف وتنبؤ تُمكن المهاجم من تحديد نقاط الضعف النفسية والاجتماعية—مثل الميل إلى الثقة بمصدر محدد، الخوف من فقدان فرصة، أو الرغبة في الانتماء—ثم تصميم رسائل أو واجهات رقمية تبدو في ظاهرها مألوفة وشرعية بما فيه الكفاية لإخضاع السلوك المرغوب به. ما يجعل الأمر أكثر خطورة هو قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على توليد نصوص وصور وصوتيات تبدو طبيعية جداً؛ فالرسالة المخادعة قد تُعدّل تلقائياً لتلائم استجابات الضحية أو لتستغل لحظة من الانشغال أو الضغوطات.
سياسياً واجتماعياً، للهندسة الاجتماعية الرقمية آثار واسعة: تُستخدم أحياناً في الحملات السياسية للتأثير على السلوك التصويتي، وفي ترويج معلومات مضللة تُغيّر من وعي الجماهير، وفي استهداف مجموعات هامشية بهدف زرع الفرقة أو تقويض الثقة المؤسسية. اقتصادياً، تأثيرها يمتد من الاحتيال المالي المباشر إلى زعزعة سلاسل التوريد عبر اختراق ثقة الموظفين والموردين، ما يؤدي إلى خسائر مالية وضياع بيانات استراتيجية. على المستوى النفسي والثقافي، تؤثر هذه العمليات في معايير الثقة الجماعية: كلما ازداد اعتماد المجتمع على الوسائط الرقمية، ازداد احتمال أن تصبح الوظائف الاجتماعية التقليدية — كالتوصية الشخصية أو الشهادة المجتمعية أو الاعتماد على المؤسسات المحلية — أسهل في التزييف والتحايل.
الاستجابة الفعّالة للهندسة الاجتماعية الرقمية تستلزم تحوّلاً شاملاً في التصميم الأمني والسياسات العامة والتعليم. من منظور تقني، حماية هوية المستخدمين وتطبيق مبادئ الحدّ من المعرفة (least privilege) وتقنيات التحقق متعددة العوامل تعد جزءاً ضرورياً ولكنها غير كافية بمفردها. يجب أن تُصمَّم الأنظمة بحيث تقلّل من فرص الاستدراج عبر تقليل المعلومات المكشوفة التي يمكن استغلالها، عبر سياسات خصوصية صارمة تُقلّص مقدار البيانات المتاحة للعموم أو للوسطاء، ومن خلال واجهات تستخدم إشارات سياقية توضح متى تكون الرسائل أو الطلبات ذات حساسية عالية وتطلب تحقيقات إضافية قبل اتخاذ إجراء. أما على مستوى المؤسسات فتصميم العمليات ينبغي أن يأخذ في الحسبان احتمال قيام جهة داخلية أو خارجية بمحاولات للتلاعب بالموظفين؛ ذلك يتطلب سياسات تفويض واضحة، آليات تحقق متعددة القنوات، وسلاسل قرار لا تعتمد على إشارة واحدة يمكن تزويرها.
تعليمياً وسلوكياً، لا يكفي إجراء تدريب سنوي تقليدي على "كيفية التعرف على رسائل الاحتيال"؛ فالتدريب يجب أن يكون تجريبياً، مستمراً، ومصمماً حول سيناريوهات واقعية متغيرة تُظهر متى وكيف تتغيّر التكتيكات. ينبغي تدريس مبادئ علم التأثير وأساليب الحماية الذاتية الرقمية: فهم لماذا تنجذب النفس البشريّة لرسالة ما، وكيف يمكن لإطار القرار البسيط أن يُعدّل أو يُقوِّي مقاومة الاحتيال. كما يجب أن يغدو التعليم شمولياً ليشمل صناع المحتوى، مطوري البرمجيات، ومديري المنتجات الرقمية لأن واجهات الاستخدام المصممة بإهمال يمكنها أن تُسهّل عمليات الهندسة الاجتماعية بغضّ النظر عن نوايا المهاجمين.
الإطار القانوني يلعب دوراً حاسماً في تشكيل بيئة رادعة. يجب أن تتوازن التشريعات بين حماية الحريات العامة والحق في التعبير من جهة، وبين فرض عقوبات رادعة على استغلال البيانات والاحتيال وتقنيات التزييف. كما أن تنظيم منصات التواصل ووسطاء البيانات أصبح ضرورة؛ سياسات الشفافية في الخوارزميات، واجبات الإخطار عند تسريبات البيانات، ومسؤولية المنصات عن آليات التوصية التي قد تُسهِم في استقطاب أو استهداف جماعات يجب أن تكون منطلقات تشريعية واضحة. إلى جانب ذلك، يجب أن تُنشأ آليات تعاون دولي وإقليمية لأن الطبيعة العابرة للحدود للهجمات الرقمية تجعل من التعاون عبر الدول والشركات أمراً لا مفرّ منه، ويشمل ذلك تبادل معلومات التهديدات، معايير الاستجابة للحوادث، واتفاقيات بشأن استخدام تقنيات التزييف العميق في السياقات السياسية.
أخلاقياً، يثير موضوع الهندسة الاجتماعية الرقمية أسئلة جوهرية عن الحدود المقبولة للتأثير والنفوذ. الإعلان السياسي المستند إلى بيانات دقيقة يستهدف شرائح محددة قد يكون قانونياً لكنه يُعيد تشكيل المجال العام بطرق تقلل من إمكانية النقاش العام المتنوّع؛ استهداف أفراد لممارسة ضغط نفسي من أجل تغيير سلوكهم له أبعاد أخلاقية خطيرة حتى لو لم يترتب عليه ضرر مالي مباشر. لذلك يجب أن تتجاوز السياسات الأمنية مقاربة الخسائر المباشرة لتشمل حماية الحقول العامة للثقة والكرامة الإنسانية، ويتطلب ذلك وضع مبادئ أخلاقية لعلم البيانات والتسويق الرقمي مع آليات مساءلة شفافة.
من منظور المؤسّسات والمدن والدول، التحصّن يأتي عبر نهج متعدد الطبقات: الجمع بين بنى تحتية تقنية متينة، ممارسات مؤسسية مرنة، تعليم واعٍ للمواطنين، وإطار قانوني وأخلاقي واضح. في هذا الإطار، تعد الممارسات التالية مفصلية: إنشاء "قنوات آمنة" للتواصل الداخلي تؤكد على توثيق الطلبات الحساسة، سياسات تقليل المعلومات المتاحة للعامة، برامج إعادة تدريب منتظمة تدمج محاكاة هجمات اجتماعية رقمية، وتطوير استراتيجيات كشف مبكر تعمل على مقاييس سلوكية غير حساسة بحيث تكتشف أنماط استهداف غير اعتيادية دون اختراق خصوصيات المستخدمين. كما ينبغي للمنصّات التقنية تبنّي معايير للتعرّف على المحتوى المزيّف ووسائل لبصمة الأصالة (provenance) تُمكّن المستخدمين من التأكد من مصدر المحتوى وشرعيته، مع الاحتفاظ بحقوق المستخدمين في الخصوصية والحرية.
على مستوى البحث العلمي، هناك حاجة لنهج متعدد التخصصات يجمع علم النفس المعرفي، علم الاجتماع الرقمي، علوم البيانات، هندسة الحاسوب، والقانون. أبحاث قياس أثر الهندسة الاجتماعية الرقمية يجب أن تتجاوز حالات التداعيات الفردية إلى نمذجة تأثيرات الموجات والانتشار؛ كيف تنتشر رسائل زائفة عبر شبكات اجتماعية معينة؟ ما الذي يجعل شبكة معينة قابلة للاستهداف أكثر من غيرها؟ كيف تؤثر خصائص المنصة (خوارزميات، تصميم واجهة، اقتصاد المنصة) في تعميق نتائج هذه الحملات؟ إجابات هذه الأسئلة تولّد أدوات سياساتية ممنهجة، مثل ضبط واجهات التوصية أو تصميم حقوق وصول تمنع تكوين "فقاعات استهداف" شديدة القابلية للتلاعب.
أخيراً، عند التفكير المستقبلي، يجب أن نواجه حقيقة أن تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي سيجعل الخط الفاصل بين النص الحقيقي والمزيّف أكثر غموضًا، وأن البيانات الشخصية ستظل عملة ثمينة تُستغل. لذلك ينبغي أن يكون محور العمل المستقبلي ليس فقط في تطوير أدوات دفاعية تقنية، بل في إعادة تصميم النظام الاجتماعي الرقمي بحيث يُقلّل من الاعتماد على إشارات الثقة الفورية والسهل تزويرها. يتطلب ذلك استثماراً في بنيات تحقق جديدة قائمة على التحقق عبر مجموعات متعددة من المؤشرات، قياسات موثوقية المصدر، شبكات مجتمعية محلية قادرة على التدقيق المتبادل، وسياسات بيانات تمنع تراكم قواعد بيانات ضخمة قابلة للاستغلال. الأمر أشبه بإعادة هندسة اعتماد المجتمع نفسه: جعل الثقة أمراً مكتسباً ومتحققاً، لا أمراً افتراضياً يُمنح تلقائياً عبر بضع نقرات.
الهندسة الاجتماعية الرقمية إذن ليست مجرد تهديد تكنولوجي يمكن حله بتحديث برمجيات أو تشفير أفضل؛ إنها انعكاس للتحركات العميقة في طريقة تفاعل المجتمعات مع الأدوات الرقمية، وتستدعي تحولات في التصميم المؤسسي، التعليم، التشريع، والأخلاق. الحلّ الحقيقي يكمن في مقاربة نظامية متكاملة تُعيد توزيع السلطة والمعرفة والحق في التدقيق، وتحوّل المساحات الرقمية من ساحات سهلة للاستغلال إلى فضاءات ذات مقاومة بنيوية للتلاعب، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الحقوق الأساسية للخصوصية والتعبير.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟