أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الفرح في حضرة الأم الغائبة















المزيد.....

الفرح في حضرة الأم الغائبة


رانية مرجية
كاتبة صحفية وموجه مجموعات

(Rania Marjieh)


الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 11:22
المحور: الادب والفن
    


إلى الأرواح التي لا ترحل، بل تتسع.

١. الحضور الذي يتخفّى في الغياب

لا أحد يغيب تمامًا.

حتى أولئك الذين ظننا أن الأرض قد ابتلعتهم،

هم لا يغادروننا، بل يتحوّلون إلى شكلٍ آخر من الحضور.

كانت أمي، قبل أن ترحل، تقول:

“كلّ شيءٍ جميلٍ يترك ظلًّا من نفسه بعد أن يختفي.”

لم أكن أفهم.

الآن، وأنا أعيش في ظلّها، أدرك أن الغياب ليس نهاية، بل بدايةٌ جديدة للوجود في صيغةٍ أعمق.

الروح لا تفنى، بل تتخفّى كي تتسع،

كي تتمدد في الأشياء التي نلمسها دون أن ننتبه،

في نسمة هواءٍ تمرّ بلا صوت،

في ضوءٍ يعبر الغرفة كما لو أنّه يعرف طريقه إلى القلب.

رحيل الأم لا يصنع فراغًا، بل فضاءً مقدّسًا تتردد فيه الذاكرة كصلاة.

إنها لم تعد إلى التراب،

بل عادت إلى العناصر التي خُلِق منها كلّ ما يحيينا: الماء، النور، والرحمة.

أصبحت هي القانون السرّي للحنان في الكون.

٢. من رماد الألم يولد النور

ليس الحزن ضدّ الفرح،

بل هو طريقٌ إليه.

الفرح الحقيقي لا يُمنَح، بل يُنتَزع من رماد الخسارات.

أولئك الذين لم يعرفوا الغياب لا يعرفون الامتلاء،

كما أن من لم يُكسر، لم يتعلم كيف يحتضن العالم برفق.

الفقدُ يُربّينا على الحكمة،

يجعلنا نرى الجمال في ما لا يُرى،

ويُعلّمنا أن الفرح ليس ضحكة، بل صوت داخليّ يقول: “أنا ما زلتُ هنا.”

حين رحلت أمي، ظننت أن الضوء غادر عالمي.

لكن بعد زمنٍ من الصمت، أدركت أن الضوء لم يذهب،

بل انتقل إلى الداخل.

صار يعيش في عينيّ، في نظرتي إلى الحياة، في لغتي حين أكتب.

لقد علّمتني أمّي درسًا لم يُدرّسه فيلسوف:

أن الحزن، إن طُهِّر بالحبّ، يُصبح نورًا.

وأن الدموع، إن خرجت من شكرٍ لا من شكوى، تتحوّل إلى صلاة.

٣. حكمة الأمهات: فلسفة غير مكتوبة

الأم هي أول فيلسوف في حياة الإنسان.

لكنها لا تكتب كتبًا،

ولا تعقد ندوات،

إنها تُدرّس الوجود من خلال الحياة اليومية:

من طريقة إعدادها للطعام،

من صمتها حين يغضب الآخرون،

من تلك اللمسة التي تقول أكثر من ألف جملة.

كلّ أمّ تعرف سرّ الزمن:

أن لا شيء يبقى كما هو،

وأن البقاء لا يكون في الجسد بل في الأثر.

حين كانت أمي تزرع شتلة في حديقة البيت، كانت تمارس الفلسفة دون أن تدري.

كانت تؤمن أن كلّ ما يُمنح للحياة — حتى لو كان زهرة صغيرة — يعود إلينا بطريقةٍ ما.

وهكذا حين رحلت، عادت، لكن في شكلٍ مختلف:

في شجرةٍ كبرت،

في طائرٍ لا يملّ من زيارة الشرفة،

في قلبٍ لم يعد يعرف الكراهية.

إن الأمهات لا يرحلن…

هنّ فقط يتحوّلن من أشخاص إلى عناصر في نظام الكون.

من لحمٍ إلى معنى،

من حضورٍ إلى ذاكرةٍ تُربّي الوجود نفسه.

٤. الفرح بوصفه وعيًا لا شعورًا

كثيرون يخلطون بين الفرح والمتعة.

لكن الفرح الحقيقي ليس انفعالًا لحظةً، بل حالة وعيٍ ممتدّ.

إنه إدراكٌ عميقٌ لجمال الوجود رغم تناقضاته،

رؤيةٌ للعالم من وراء الحجاب،

حين ندرك أن كلّ شيءٍ هشّ، فنحبّه أكثر لأنّه زائل.

الفرح الذي يأتي بعد فقد الأمّ،

هو أرقى أشكال الوعي الإنساني:

فرحٌ لا يجهل الحزن، بل يتصالح معه ويمنحه معنى.

حين نضحك بعد الموت، لا نخون الراحلين،

بل نمنحهم الخلود — لأنهم صاروا في ضحكتنا،

في حركتنا، في استمرارنا.

الفرح بعد الفقد هو الفعل الأكثر فلسفةً:

أن نختار الحياة رغم إدراكنا أن الموت جزءٌ منها،

أن نزرع شجرةً ونحن نعرف أننا لن نراها تُثمر،

أن نحبّ العالم رغم أنه مؤلم.

٥. الأم الكونية: الفكرة التي لا تموت

كل أمّ هي تجلٍّ للأم الكبرى — الأرض، الوجود، الله في رحمته.

وحين تغيب أمّك الشخصية، يفتح الكون ذراعيه ويقول:

“لقد عُدتِ إليّ.”

الأم هي البوابة الأولى التي نعرف من خلالها الحبّ،

وحين تغيب، نبحث عنها في كلّ شيءٍ حيّ:

في وجهِ امرأةٍ مبتسمة،

في دفءِ قطةٍ تتمدد في الشمس،

في أغنيةٍ قديمةٍ تبكينا لأننا نعرف أنها كانت تغنّيها.

وهكذا يصبح الوجود نفسه أمًّا،

تُرضِعنا الحنان من يد الفقد،

وتُعلّمنا أن ما نحبّه لا يُؤخَذ منّا،

بل يُعاد إلينا في صورةٍ أخرى — أنقى، أوسع، وأبدية.

٦. من الأم إلى الإنسانية

في غياب الأم، نفهم معنى الإنسانية الحقيقية.

نفهم أن العالم لا يُصلَح بالقوانين بل بالمحبة،

وأن كلّ حربٍ تبدأ حين ننسى أن أحدًا ما، في مكانٍ ما،

هو ابنُ أمٍّ تنتظر عودته.

الأم تزرع فينا الضمير قبل أن نعرف اسمه.

وحين تغيب، نكتشف أن جزءًا من السلام الذي فينا

هو استمرارٌ لها.

كلّ عطفٍ نقدّمه، كلّ غفرانٍ نمنحه، كلّ دمعةٍ نكفكفها عن غيرنا،

هي صدى لرحمتها الأولى.

وهكذا، يصبح حبّ الأم هو النواة التي تدور حولها الإنسانية.

وحين نحبّ كما كانت تحبّ — دون شرط، دون خوف، دون حساب —

نصير نحن أيضًا امتدادًا لها،

ونستحقّ أن نُدعى أبناء النور.

٧. ختام: ما لا يُفنى

أمي،

ما زلتِ في تفاصيل أيامي،

في ضحكتي حين أُخفي الدمع،

في سلامي مع ما لا أفهم.

لقد علمتِني أن الفرح ليس رفاهية، بل مقاومة ناعمة ضدّ الفناء.

أن نحبّ رغم الخسارة،

أن نحيا رغم الغياب،

أن نضيء رغم أن المصباح مكسور.

يا من علّمتِني كيف أقرأ العالم بعينٍ رحيمة،

اعلمي أنني لم أعد أبحث عنك في السماء،

بل في نفسي.

فكلّ مرة أُحبّ فيها الحياة، ألتقيكِ.

وكلّ مرة أغفر فيها، أسمعكِ.

وكلّ مرة أفرح رغم كلّ شيء،

أعرف أنكِ تبتسمين في مكانٍ لا أعرفه…

لكنّه بي.

🌺

النهاية – البداية

وهكذا، لا ينتهي هذا النص إلا كما تبدأ كلّ الحكايات الكبرى:

بالحبّ.

فالحبّ هو الاسم الآخر للخلود،

والأمّ هي أول تجسيدٍ لهذا الخلود.

ومنها، نتعلّم أن الفرح ليس ما نملكه،

بل ما نُصبحه.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)       Rania_Marjieh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة وارفة في ديوان «أنّات وطن» للشاعرة سلمى جبران ✦
- الإنسان يبكي ثم يرى
- قراءة في كتاب طفل الطيف رحلة في الحب والمعنى -بقلم الدكتور ع ...
- الوبش… حين يمرض المعنى ويغدو الجسد مرآة الوعي قراءة فلسفية ع ...
- 🕊️ توجيه المجموعات ثنائية اللغة في ظل الأزمات
- ذات مرة في غزة.. حين يصبح الوجع ذاكرةً جماعيةً للنجاة فيلم ف ...
- ‏قراءة أدبية في رواية -وجوه ناقصة- لرانية مرجية بقلم الدكتور ...
- قراءة أدبية في قصيدة -القصيدة التي تشبه شاعرها- لرانية مرجية ...
- دراسة أدبية لكتاب هلوسة للكاتبة رانية مرجية //بقلم الدكتور ع ...
- دراسة تحليلية لكتاب -كن أفضل صديق لنفسك: سفر الروح في مواجهة ...
- يا رب قصيدة ملحمية فلسفية وجدانية
- زهير دعيم… المعلم الذي علّمني أن الكلمة وطن
- حين يدفن الفلسطينيّ قلبه لئلّا يذوب في رواية برد الصيف لجميل ...
- قوياء بالمسيح
- صدور كتاب جديد بعنوان -طفل الطيف: رحلة في الحب والمعنى-
- بين الجليل والسويداء: قصة أمّهات لا ينهزمْن
- فلسطين… جرح الإنسانية المفتوح وفضيحة القرن
- هايكو
- كنَّ أفضلَ صديقٍ لنفسِك – سفرُ الروحِ في مواجهةِ الصِّعاب
- الموت الأخير


المزيد.....




- من بينهم الفنّان خالد النبوي.. مهرجان -القاهرة السينمائي- ال ...
- شاركت في -العراب- وتألقـت في أفلام وودي آلن .. نجوم هوليوود ...
- -تانيت إكس آر-: منصة غير ربحية توثق التراث التونسي رقميا
- اكتشاف قلعة عسكرية على طريق حورس الحربي في شمال سيناء
- انطلاق الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح
- ظهرت في أكثر من 60 فيلما..وفاة الممثلة ديان كيتون عن 79 عاما ...
- حربٌ هزمت المجتمعَين وأسقطت كذبة وحدة اللغة والتاريخ المشترك ...
- ظهرت في أكثر من 60 فيلما.. وفاة الممثلة ديان كيتون عن 79 عام ...
- بيت المدى يستذكر الأديب الباحث الدكتور علي عباس علوان
- -كتاب الرياض- يناقش صناعة المحتوى الثقافي


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الفرح في حضرة الأم الغائبة