أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - الشرق الأوسط في لحظة الحساب الكبرى















المزيد.....

الشرق الأوسط في لحظة الحساب الكبرى


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 10:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كأنّ الشرق الأوسط قد بلغ لحظته الفاصلة، لحظةَ الحساب الكبرى التي لا تشبه ما سبقها من صراعاتٍ ولا ما تلاها من تسوياتٍ شكلية، فالمشهد لم يعد ساحةَ نزاعٍ بين دولٍ وجماعاتٍ، بل ميدانًا لإعادة تركيبتها الجيوسياسية وتعريف الوجود ذاته، من يملك الشرعية؟ من يحتكر القوة؟ ومن يحق له أن يتحدث باسم الشعوب؟ هنا، في قلب الخراب المتراكم، تتبدّل موازين التاريخ ببطءٍ وصرامة، ويخرج الوعي من تحت رماد الميليشيات والخطابات المذهبية.
ما يجري اليوم في الشرق الأوسط، ليس حربًا جديدة فحسب، بل عملية تطهيرٍ طويلةٍ من ثقافاتٍ راكمت في الوعي الجمعي فكرة القوة كحقٍّ إلهي، والدولة كأداةٍ للهيمنة، والإنسان كذريعةٍ للعقاب.
آتونكم الحساب والتغيير الحقيقي، يا حزبَ الله في لبنان، ويا جماعاتِ الحوثي، ويا أذرعَ الحشدِ الشعبي، ومن ثم يا حكومة الجولاني. ليس كلامًا شعريًا ولا رغبةً ثأرية، بل قراءةٌ واقعية لمسارٍ إقليميٍ بدأ يتبلور عمليًا منذ لحظة اغتيال قاسم سليماني في مطار بغداد، تلك اللحظة لم تكن حادثة عابرة فحسب، بل زرعت بذور تساؤلٍ جيوسياسيٍ وثقافيٍ لا رجعة عنه، كيف نعيد رسم خرائط النفوذ، ونستبدل منطقَ الوصاية بمنطقِ الشرعية الوطنية والدولة المدنية؟
ما يجري ليس مجرّد مناورة عسكرية، إنما هو مشروع لإزالة الدور العسكري لأدوات طهران في المشرق، وإحالة المسألة من حلبة السلاح إلى قاعة التاريخ والسياسة. في التاريخ، لا تختفي الإمبراطوريات بعنفٍ دائم، بل تتبدل عبر تراكمٍ من الوعي والضغوط والأحداث التي تفضح هشاشتها. هكذا سيتبدى مصير حزبِ الله، ليس كعدوٍ مفترضٍ للشعوب، بل كظاهرةٍ شرعت، عبر امتلاك السلاح واحتكار القرار، في أن تجعل من نفسها دولةً داخل الدولة.
تلك الظاهرة لم تعد قابلة للاستمرار في عالمٍ يعيد قراءة حدود السيادة ويطالب بمبدأٍ واحد، سلطة القانون قبل سلطة السلاح. إما أن يعيد الحزب تشكيل دوره داخل الدولة والمجتمع، وإما أن يفقد الشرعية الرمزية والسياسية التي بنى عليها وجوده.
والحوثيّون أيضاً جزء من هذه الخريطة التي لا تحتمل أدواتٍ مسلّحةً تعمل ككرتٍ إقليميٍ على رقعة الشطرنج. لقد حوّلوا اليمن البائسة إلى حلبة تجاربٍ للصواريخ والطائرات المسيَّرة، لكن التجارب حين تخرج عن سياقها تتحوّل إلى عبءٍ لا يحمد عقباه. القمم الإقليمية التي كانت تقايض مصالحها بالتحالفات المؤقتة بدأت تدرك أن بقاء أدواتٍ مسلّحةٍ خارج إطار الدولة يفكك الخيوط الدقيقة للاستقرار، فالتلاقي الآن ليس لإعلاء دورٍ، بل لتقليصه، لإحلال شرعيةٍ موحدةٍ عن طريق السياسة والقانون، لا عن طريق الوصاية والميليشيات.
وفي سوريا تتساقط الأقنعة أبطأَ مما يظنّ البعض، لكن بثباتٍ أكبر مما يريده الآخرون. هيئة تحرير الشام وحكومة الجولاني لم تولدا من فراغ؛ بل نتجتا عن فراغٍ دوليٍّ واحتياجاتٍ إقليميةٍ آنية. الآن، زمن الفراغات انتهى أو يوشك أن ينتهي، المشهد السوري يواجه احتمالين تقليديين، بناء نظامٍ لامركزيٍّ وفيدراليٍّ يحترم تعددية المجتمعات وحقوقَ الشعب الكوردي والأقليات المذهبية، أو الانحدار في طريقِ انقساماتٍ مؤلمةٍ يعجز بعدها المدنيون عن استعادة ما تبقى من تماسكٍ اجتماعي. تركيا، بوصفها قوةٍ إقليميةٍ ذات إمبراطوريةٍ تاريخيةٍ وحاضرٍ معقّد، تقف أمام مفترق، إما أن تنزل من عرش الخطاب السلطوي وتقبل قواعدَ جديدة للعبة السياسية، أو تُحاصر سياسياً واقتصادياً حتى تتهاوى أنماطُ هيمنتها المفروضة. هذه الحقيقة ليست تهديدًا، بل وصفٌ لنتيجةٍ منطقيةٍ للتاريخ، الإمبراطورية العثمانية وغيرها، التي عاندت تحولات الزمان سُحِبت عنها الشرعية، والتاريخ لا يرحم من يرفض قراءة واقعه.
إنما الأسئلة الجذرية هنا ليست عسكرية بحتة، بل فلسفية، ماذا يعني أن نؤسّس دولة؟ هل الدولة عبارة عن جيشٍ يحمي حدودَها، أم عن نظامٍ قانونيٍّ يحمي كرامة إنسانها؟ الفلسفة السياسية التي تبنّيناها لعقودٍ في منطقتنا، خطاب المقاومة كغاية ووسيلةً معًا، أفضت في كثيرٍ من الحالات إلى استبدال مفهوم المواطنة بمفهوم الولاء الحركي. والآن يُطلب منّا أن نعود لنقاشٍ أساسي، كيف نبني مجتمعًا تتقاطع فيه الحريات الفردية مع الاعتراف الجماعي بالحقوق الثقافية واللغوية والسياسية؟ كيف نحول شحنات الكراهية التاريخية إلى مناخٍ يسمح بالحوار والمساءلة بدلاً من الإقصاء؟
قد تقولون إن الخطاب الحازم لا يردع من يملك السلاح؛ لكن الواقع يعلّمنا غير ذلك، الحازم الحقيقي هو الذي يقنع المجتمع الدولي والإقليمي، ويُكسب البديل شرعيةً واسعة. لذا ستلعب الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية والشرعية دورها أمام القوة العسكرية التقليدية ومن بينها القوة العسكرية التركية. ليست معركةٌ واحدة، بل سلسلة معارك، سياسية، اقتصادية، ثقافية؛ لعلّ الأهمّ فيها أن تُحرَّك الأجيال وقواها المدنية لا أن تُضاف ميليشيا جديدة، كالحمزات، والعمشات، إلى سجل النزاعات.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال دور الكورد والفاعلين السياسيين الحقيقيين في المنطقة. فالتصريحات التي صدرت عن قيادات إقليمية، مثل ما قاله السيد نيجيرفان برزاني بشأن قسد وغربي كوردستان، ليست مجرد إشارات عابرة؛ هي انعكاس لحواراتٍ استراتيجيةٍ تُدار في غرفٍ مغلقةٍ وتُشكّل ركائزَ لخططٍ إقليميةٍ قادمة. قيادةُ إقليم كوردستان ستبقى لاعباً مركزياً في رسم مآلات المنطقة، وأيّ تسويةٍ مستقبليةٍ ستمرّ بلا ريب عبر تفاهماتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تحددُ قواعدَ اللعبة. قسد وغربي كوردستان ليسا سوى شقٍّ من هذه الحقيقة المركبة؛ أيّ حلٍ دائمٍ لا يملك استبعادهم دون أن يجرّ معه مقاومةً مستمرةً وفشلًا في تحقيق استقرارٍ حقيقي.
نحن أمام زمنٍ يطلب منا إعادة قراءة التاريخ بعينٍ فلسفيةٍ وعمليةٍ معًا، فلسفيةٍ لأنّ الأسئلة حول العدالة والدولة والهوية تُعيد نفسها بقوة، وعمليةٍ لأنّ ضغوط الواقع تفرض حلولاً ملموسة، إنّ اغتيال سليماني كان حلقةً في سلسلةٍ، لكنه أيضاً علامةُ بدايةٍ لمسارٍ طويلٍ من إعادة التشكيل، هذا المسار لا يهدف إلى الثأر، بل إلى استعادةِ عقيدةٍ واحدة، لا شرعيةَ لمن يحتكر السلاح خارج إطار الدولة، ولا مشروعيةَ لمن يحمّل شعوباً تبعات انتهاكاتٍ تُرتكب باسم القِيَمِ أو الدينِ أو المقاومة.
إنها لحظةٌ تاريخيةٌ تتطلب من الجميع، قوىً دوليةً وإقليميةً ومحليةً، أن يختاروا بين ما يحفظون به مستقبل شعوبهم أو ما يدفعون به تلك الشعوب إلى دائرةٍ لا نهاية لها من التوترات. وفي قلب هذا الاختيار، تقف مهمةٌ أخلاقيةٌ وسياسيةٌ بقدر ما هي استراتيجية، تحويل الساحات من ميادين قتالٍ إلى مراكزِ صنعِ قرارٍ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ، حيث تحكمُ قوانينٌ تُصان الكرامةُ والحقوق، وليس حساباتُ الولاءات العابرة للحدود.
هكذا تُقاسُ حضارةُ الأمم، ليس بقسوة خطابها فحسب، بل بجرأتها على مساءلة نفسها وبقدرتها على تحويل قسوة الحقائق إلى آلياتٍ لبناء مستقبلٍ أفضل. فإذا كانت القسوة في لغةٍ ما تُستعمل لفضح الظلم، فليكن ذلك، لكن لتُتبع دوماً بقوةٍ حضاريةٍ تتيح للمجتمعات أن تخرج من دور الضحية أو الجلّاد، وتدخل في عهدٍ جديدٍ من الدولة الحريّة والكرامة.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
11/10/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكومة السورية الانتقالية تُقصي الكورد وتستدعي الاحتلال
- قسد تفجّر الصراع التركي–الأمريكي على سوريا
- رعب أنقرة من الوعي الكوردي
- بيان التحالف الأمريكي من أجل سوريا الديمقراطية
- إلغاء عيد نوروز تكفير مقنّع وإنكار صريح للقومية الكوردية
- لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال ...
- الشرق الأوسط الجديد بين أوهام سايكس–بيكو وحقائق الكورد المؤج ...
- لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال ...
- من غربي كوردستان إلى البيت الأبيض تجارة ترامب وأوهام أردوغان ...
- فضيحة الألف عام والألفي عام، ترامب يقرأ من كتاب أردوغان
- لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال ...
- من العشيرة إلى الأمة وليس العكس
- الكورد أصل الأرض وأكذوبة الهجرة سلاح البعث والجولاني
- ثلاثة محاور أساسية
- مسرحية القمة العربية والإسلامية وخطاب الجولاني الفارغ
- الجولاني وسط الحوار المرئي، الحقائق تُكشف
- الكتلة الوطنية لماذا تتنكرون للفيدرالية وتعيدون إنتاج خوف ال ...
- قمة قادة العرب في قطر لحظة إعلان نهاية حماس
- لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال ...
- يُمنح الإرهابيون المنابر ويُحرم الكورد من مقعدهم في هيئة الأ ...


المزيد.....




- الإمارات تعزي قطر في وفاة 3 دبلوماسيين بحادث شرم الشيخ
- شاهد.. فلسطينيون يهرعون للحصول على المساعدات من الشاحنات الم ...
- وكالة: إيران لن تشارك في قمة شرم الشيخ بمصر رغم تلقيها دعوة ...
- قمة شرم الشيخ: مصر تستضيف قادة العالم لإنهاء حرب غزة
- وثائق مسربة تكشف عن تعزيز دول عربية للتعاون العسكري مع إسرائ ...
- اشتباكات دامية بين باكستان وأفغانستان.. تضارب في حصيلة القتل ...
- لبنان يستعد لتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد إسرائيل
- عشرات القتلى باشتباكات بين باكستان وأفغانستان وإسلام آباد تت ...
- سباق الرئاسة في غينيا يشتعل.. 50 حزبا و16 مستقلا يعلنون ترشح ...
- مسعد بولس: السلام في الكونغو -مسار طويل لا يُدار بمفتاح-


المزيد.....

- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - الشرق الأوسط في لحظة الحساب الكبرى