|
من غربي كوردستان إلى البيت الأبيض تجارة ترامب وأوهام أردوغان العثمانية
محمود عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 09:51
المحور:
القضية الكردية
دونالد ترامب يقود أعظم إمبراطورية عسكرية واقتصادية في العالم، تملك الجيوش المنتشرة في أكثر من مئة وخمسين دولة، وتفرض إيقاعها على النظام العالمي، ومع ذلك، ما إن يتحدث أو يتصرف، حتى تتكشف هشاشة استراتيجيته، فيغدو المشهد أقرب إلى تاجر عقارات يعرض بضاعته في أسواق مفتوحة، يقيس السياسة بموازين الربح والخسارة، ويبيع التاريخ كما يبيع الأبراج الزجاجية. إنه الوجه الأبرز للدولة العميقة العصرية، حيث لم تعد القرارات تصاغ في أروقة السياسة والدبلوماسية، بل في مجالس الشركات العملاقة وخوارزمياتها المالية، ملايين الدولارات قد تغيّر تصريحاته اللحظية، بينما التريليونات تعيد توجيه استراتيجيته العالمية، حتى لو جاء ذلك على حساب تاريخ شعوب عريقة كالكورد والعرب، أو حضارات الشرق الأوسط الممتدة، وفي هذا السياق لم يتردد في تمجيد الرواية التركية على حساب غيرها، تمامًا كما لم يتردد في عقد صفقات تجارية صغيرة أو كبيرة، مادام ميزان الربح يميل لصالحه. وفي خضم هذه الجدلية "الترامبية" التي تقوم على منطق الصفقة أكثر من منطق الدولة، تظهر القضية الكوردية كواحدة من أعقد ملفات الشرق الأوسط، فبينما تحاول تركيا أن تحصرها في زاوية ضيقة من العلاقات التركية–الأمريكية–الكوردية، بعيدًا عن عمقها القومي والدولي، تظل هذه القضية في قلب الصراع الأكبر في المنطقة، بما له من انعكاسات على أمن إسرائيل وأوروبا وأمريكا ذاتها. فالقوة الكوردية، ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والبيشمركة ووحدات حماية المرأة، لم تكن مجرد طرف محلي، بل حليفًا رئيسيًا ضمن تحالف دولي قادته الولايات المتحدة مع أكثر من سبعين دولة للقضاء على أحد أبشع التنظيمات الإرهابية في العصر الحديث، هذا التنظيم الذي كانت تركيا، وبكل وضوح، توظفه كأداة ضمن مخططاتها لمحاربة الشعب الكوردي وتطويعه. على إثر هذه التضحيات، باتت القوى الكوردية تُعرف بأنها المنقذ الفعلي لأوروبا وأمريكا وإسرائيل، بل وبعض القوى الإقليمية، من شبح الإرهاب الذي تمدد كالنار في هشيم المنطقة، وحدها الدول الراعية له، كتركيا وقطر، ظلّت خارج هذا الاعتراف العالمي، لكن، ورغم وضوح هذه الحقيقة، ظلت استراتيجية ترامب الغريبة تلقي بظلالها على التحالف الكوردي–الأمريكي، إذ ربطها دومًا بميزان المصالح الاقتصادية أكثر من ارتباطها بالأمن القومي الأمريكي أو الأوروبي أو حتى الإسرائيلي. إن الاستراتيجيين الأمريكيين يدركون تمامًا أن من دون ضمان الأمن، ستبقى المصالح الأمريكية مهددة بالانهيار الدائم، ومع ذلك، يقود ترامب إدارة منقسمة على ذاتها، صراع داخلي بين تيارات ترى أن دعم المسألة الكوردية ضرورة استراتيجية، وأخرى تعتبرها مجرد ورقة ثانوية أمام المصالح مع تركيا. صحيح أن أمريكا إمبراطورية تملك جيوشًا منتشرة في أكثر من 150 دولة، لكن التحديات التي فرضتها التنظيمات المتطرفة، بدعم تركي–قطري–إيراني، تجاوزت حدود داعش وأذرع إيران، وأعادت صياغة معادلة الأمن في المنطقة، وهنا يظل الصراع قائمًا بين الدول الراعية للإرهاب وبين إسرائيل، بما يفرض على أمريكا وأوروبا العودة، مرة بعد أخرى، إلى الاعتماد على الحليف الكوردي، ليس فقط لأنه القوة الأكثر كفاءة في المواجهة، بل لأنه أيضًا الأكثر ثقة، بما يمتلكه من وعي ذاتي، ورؤية عصرية، وقاعدة ثقافية–سياسية تُكسب الحراك الكوردي شرعية متجددة. في الداخل الأمريكي، تظل القضية الكوردية، بما تمثله من قوة عسكرية وحراك قومي، محط دعم واضح من وزارة الدفاع والخارجية وأقطاب مؤثرين في الكونغرس، وبينهم أصوات بارزة من الحزب الجمهوري ذاته. هؤلاء يشكلون الجدار المقابل للقسم الآخر من الإدارة الأمريكية، الذي يُغَلِّب لغة الأرباح التجارية وصفقات الشركات العملاقة على اعتبارات الأمن الاستراتيجي. ولولا هذه المواجهة الداخلية الحادة، لكانت تركيا نجحت في تحييد إدارة دونالد ترامب وتمرير مخططاتها لغزو غربي كوردستان عسكريًا، لقد حدث ذلك بالفعل في ولايته الأولى، حين سمح لتركيا باحتلال سري كانيه وكري سبي، وكان مخطط الانسحاب الكامل من غربي كوردستان قائمًا على خلفية الصفقات العقارية والتجارية المشتركة في إسطنبول وغيرها، التي ربطت بين كوشنر صهر ترامب وابنته إيفانكا، وبين بيرات بيرقدار صهر أردوغان وابنته. غير أن المواجهة الصلبة داخل المؤسسة الأمريكية، والتي بلغت ذروتها باستقالة وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي في اليوم التالي للانسحاب من تلك المدن، حالت دون اجتياح تركي شامل كان من شأنه أن يضع نصف سوريا تحت الاحتلال التركي، وهو الحلم الذي لم يتخلَّ عنه أردوغان يومًا. ذلك الحلم ظل يطارده قرابة عقدين من الزمن، وهو لا يفتأ يعيد صياغة المؤامرات والخطط كلما فشل، وقد بلغت أكثر من خمس وعشرين محاولة، تارة عبر مؤتمرات دولية كـ "سوتشي" وأستانه"، وتارة عبر تنازلات لروسيا وإيران، أو عودة إلى أحضان واشنطن بعد أن لفظه الرئيس السابق جو بايدن. واليوم، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، استغل أردوغان اللحظة من جديد، فبصفقات ضخمة وعقود تجارية مغرية، تمكن من أن يجلس ترامب خلفه، مسحوبًا بكرسيه كظلٍّ تابع بعد توقيع الاتفاقيات، في مشهد لم يخلُ من رمزية التبعية. أردوغان يتوقع أن ينجح هذه المرة، لكنه يعرف أن المعارضين داخل الإدارة والكونغرس ليسوا بالهينين، فمن بينهم وزير الخارجية ماركو روبيو، والديمقراطيون المتشددون، وإلى حد ما السيناتور المخضرم ليندسي غراهام، ومعه تيد كروز وآخرون من الجمهوريين، الذين يعارضون صفقة الطائرات إف-35 وأنواعًا أخرى من الأسلحة المحظورة. لكن أردوغان، وفي إطار لعبة المقايضة الدائمة، لم يتردد في القبول بطلب ترامب بقطع شراء الغاز الروسي، كوسيلة ضغط على موسكو لإجبارها على قبول شروط واشنطن لوقف الحرب، خطوة تبدو في ظاهرها جريئة، لكنها في حقيقتها رسالة موجهة إلى ثلاث جهات: أولها بوتين، الذي لن يرضخ لشروط تركيا أو ترامب في معادلة كهذه؛ وثانيها تركيا ذاتها، التي لن تستطيع أن تستغني عن الغاز الروسي الأرخص بكثير من نظيره الأمريكي؛ أما الثالثة فهي القوى الكوردية، التي يراد إخضاعها وإرغامها على التنازل عن مشروعها في اللامركزية السياسية، وحلّ قوات قسد وتسليم سلاحها والانضواء تحت لواء ما يسمى بـ"الجيش الوطني السوري". غير أن مثل هذه المطالب لا تجد صدى، لا لدى قوات قسد والإدارة الذاتية، ولا لدى التحالف الدولي، وبالأخص وزارتي الدفاع والخارجية في الإدارة الأمريكية. المفارقة أن أردوغان، الذي أبعد عن البيت الأبيض أربع سنوات في عهد جو بايدن، عاد ليجد طريقه إلى قلب ترامب مجددًا عبر صفقات الغاز والسلاح. فشراء الغاز الأمريكي بأسعاره المضاعفة، وهي نفس السياسة التي فُرضت على أوروبا بعد حرب أوكرانيا، جاء مقرونًا بصفقات مع "بوينغ" وشركات الأسلحة الأمريكية. كل ذلك على أمل أن يمنحه ترامب الضوء الأخضر للتخلي عن التحالف مع قوات قسد وسحب القوات الأمريكية من غربي كوردستان، أي عمليًا ترك سوريا ساحة مفتوحة للهيمنة التركية. غير أن هذا المشروع يصطدم بعقبات كبرى، أولها الأمن الإسرائيلي، الذي يرى في أدوات تركيا خطرًا لا يقل عن خطر أدوات إيران على استقراره واستقرار أوروبا؛ وثانيها أن طموحات أنقرة تتجاوز سوريا، فهي تسعى إلى شرق أوسط بلا وجود أمريكي، وهو ما أقرّ به ترامب نفسه في لقائه الأخير مع أردوغان في البيت الأبيض بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 2025، حين كرر عبارته الشهيرة "تركيا تريد سوريا لألفي عام"، بما يعنيه من رغبة دفينة في إقصاء المصالح الأمريكية، لا في سوريا وحدها، بل في مجمل المنطقة. هنا تتقاطع الخيوط في عقدة جدلية معقدة، من جهة هناك العامل الاقتصادي الذي يلهث وراءه ترامب والدولة العميقة الأمريكية العصرية، ومن جهة أخرى يقف العامل الأمني الذي يشكل أولوية قصوى لإسرائيل، ووزارة الدفاع والخارجية الأمريكيتين، ومعهما أقطاب نافذون من الكونغرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب. هذه الموازين، في نهاية المطاف، ترجّح استمرار الدعم العسكري الأمريكي المتزايد لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وللبيشمركة، مقابل طموحات تركية ظلت تفشل على مدى أكثر من عقد من الزمن، وهكذا، تبدو سوريا متجهة نحو نظام فيدرالي لا مركزي سياسيًا، وربما نحو التقسيم، إن استمرت أنقرة في تعنتها، وهو ما بدأت ملامحه تظهر في التراجع التدريجي لمواقف بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل المبعوث الخاص إلى سوريا ولبنان توماس باراك، الذي انتقل من لهجة حادة إلى خطاب دبلوماسي أكثر مرونة.
د. محمود عباس الولايات المتحدة الأمريكية 27/9/2025م
#محمود_عباس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فضيحة الألف عام والألفي عام، ترامب يقرأ من كتاب أردوغان
-
لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال
...
-
من العشيرة إلى الأمة وليس العكس
-
الكورد أصل الأرض وأكذوبة الهجرة سلاح البعث والجولاني
-
ثلاثة محاور أساسية
-
مسرحية القمة العربية والإسلامية وخطاب الجولاني الفارغ
-
الجولاني وسط الحوار المرئي، الحقائق تُكشف
-
الكتلة الوطنية لماذا تتنكرون للفيدرالية وتعيدون إنتاج خوف ال
...
-
قمة قادة العرب في قطر لحظة إعلان نهاية حماس
-
لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال
...
-
يُمنح الإرهابيون المنابر ويُحرم الكورد من مقعدهم في هيئة الأ
...
-
تراجع شعبية إسرائيل وصعود المأزق الفلسطيني
-
منطق القوة لا يرحم الكورد بين عجز المجلس الوطني وهيمنة الإدا
...
-
منطق القوة لا يرحم الكورد بين عجز المجلس الوطني وهيمنة الإدا
...
-
منطق القوة لا يرحم الكورد بين عجز المجلس الوطني وهيمنة الإدا
...
-
هل تعطّلت مخرجات مؤتمر قامشلو؟ 2/2
-
هل تعطّلت مخرجات مؤتمر قامشلو؟ 1/2
-
الحكومة السورية الانتقالية بين خطاب الوحدة وممارسة التجزئة
-
كوردستان وقادم الشرق الأوسط تحولات كبرى وصراع على المستقبل
-
قسد بوابة خلاص سوريا من الاستبداد والإرهاب
المزيد.....
-
طالبان تقطع الإنترنت في أفغانستان والأمم المتحدة تحذر!
-
من الأمم المتحدة.. كوريا الشمالية تؤكد تمسكها ببرنامجها النو
...
-
نتنياهو يخاطب كراسي الأمم المتحدة وانقسام الإعلام الغربي حول
...
-
مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: نواجه محاولة لإنكار وجودنا وحقو
...
-
الأونروا: نصف مليون إنسان في غزة محاصرون في 8 كيلومترات مربع
...
-
الأونروا: نصف مليون إنسان في غزة محاصرون في 8 كيلومترات مربع
...
-
المغرب: اعتقالات لمنع احتجاجات -جيل زد 212- الشبابية المطالب
...
-
الأمم المتحدة: استشهاد 1911 فلسطينيا أثناء الحصول عن المساعد
...
-
تفاصيل إعدام السلطات الإيرانية لجاسوس للموساد الإسرائيلي
-
اليونيسف: طفل من كل 5 بغزة يعاني من نقص بالوزن عند الولادة
المزيد.....
-
“رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”.
/ أزاد فتحي خليل
-
رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر
/ أزاد خليل
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
المزيد.....
|