أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حميد كوره جي - ضرورة تحريم التقية: بين رخصة الضرورة وخطرها على المجتمع















المزيد.....


ضرورة تحريم التقية: بين رخصة الضرورة وخطرها على المجتمع


حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 01:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لعل موضوع التقية يشكل إحدى القضايا التي أثارت وتثير جدلاً واسعاً واختلفت بشأنه الآراء بين المذاهب الإسلامية. في اللغة، التقية مشتقة من الفعل "يتقي"، وتعني الحذر أو الوقاية أو الخوف. أما في المجال الديني، فتُعرَّف بأنها: إخفاء المعتقد الحقيقي أو إظهار ما يخالفه قولاً أو فعلاً بهدف تجنب ضرر مادي أو معنوي محتمل، مثل القتل أو التعذيب أو الإيذاء الشديد للنفس أو المال أو العرض.
هذا المفهوم تُعتبر أصوله مشروعة في الإسلام، لكن تطبيقه ومدى الالتزام به يتباين بين أهل السنة والجماعة والشيعة الإمامية الاثني عشرية.
تعتبر التقية عند أهل السنة والجماعة رخصة استثنائية تُستخدم فقط في حالات الضرورة القصوى، كحفظ النفس من الهلاك أو دفع ضرر كبير. هي ليست أصلاً من أصول الدين بل تعد استثناءً مؤقتاً، ويُفضل عندهم التمسك بالحق والصبر على الأذى لما في ذلك من أجر عظيم، إلا إذا كان الإصرار على الحق قد يؤدي إلى نتائج تضر بالدين أو بالآخرين. يستدل أهل السنة بآيات من القرآن مثل آية آل عمران: 28، وقصة عمار بن ياسر عندما اضطر للإقرار بالكفر تحت الإكراه، فأنزل الله آية في سورة النحل: 106. لكن بشروط محددة، فلا يجوز استخدام التقية في أمور يترتب عليها ضرر بحق إنسان آخر، مثل الإكراه على القتل أو ارتكاب الفاحشة.

أما عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فإن للتقية مكانة مختلفة تماماً. فهي عندهم أصل من أصول الدين ومنهج دائم وليس حالة طارئة. وتعد واجباً شرعياً لابد من الالتزام به في كثير من الأحوال، إذ وصفها بعض علمائهم بـ"تسعة أعشار الدين"، وقالوا إن من لا يعمل بالتقية لا يُعد متمسكاً بالإيمان الحقيقي. وقد لجأت الطائفة الشيعية إلى هذا المبدأ عبر التاريخ كوسيلة حماية لهم ولأئمتهم من الاضطهاد. توسعوا في استخداماتها إلى حد أنها شملت إخفاء الاعتقادات أمام الآخرين، سواء كانوا مسلمين يخالفونهم في العقيدة أو غير مسلمين، وذلك لحماية النفس والمذهب والأموال والمؤمنين. إلى جانب حفظ الأنفس، يرى الشيعة أن هذه الوسيلة تختلف أبعادها لتشمل الحفاظ على مذهبهم وتعاليمهم في ظل الأزمات والتحديات.
التقية في جوهرها الإسلامي تُعدّ رخصة سماوية تهدف إلى حماية النفس من الهلاك أو الإكراه الشديد، وتعتمد أساساً على ما يُظهره الإنسان من كلام أو أفعال، مع بقاء قلبه ثابتاً ومطمئناً بالإيمان. إلا أن الجدل بين المذاهب يدور حول توسيع نطاق هذه الرخصة وتحوّلها من حالة استثنائية تُفرضها الضرورة إلى مبدأ دائم وثابت ضمن أصول الدين.

هذا الموضوع يفتح باباً واسعاً للنقاشات العميقة حول أثر التقية على بناء الثقة والسلام الاجتماعي. من الطبيعي أن يُفهم هذا المبدأ، في سياقات معينة، على أنه قد يعيق الصراحة والوضوح في العلاقات الإنسانية.

فالغاية الأساسية لأي علاقة صحية تتمثل في تحقيق الصدق والشفافية. وعندما يسمح أي مبدأ بإخفاء الحقيقة أو التظاهر بعكس ما يُبطن المرء، حتى وإن كان ذلك تحت وطأة الخوف، فإنه يهدد الأمن النفسي ويزرع بذور الشك في النفوس. يصبح حينها من الصعب التمييز بين الكلام الصادق والكلام الناتج عن خوف أو مجاملة، مما يعطل بناء الثقة. وإذا استمر الإنسان في كتمان رأيه أو معتقداته خشية الآخر، تنطفئ لغة الحوار الصادق وتُستبدل بنفاق مجتمعي، وهو الأمر الذي يمنع تحقيق التفاهم المشترك وحل الخلافات بشكل حقيقي.
إن مفهوم التقية يُعتبر من المبادئ التي أثير حولها الكثير من النقاش والجدل نتيجة اختلاف التطبيقات والمعاني التي ارتبطت بها عبر الزمن. الأصل في التقية وفق الشريعة الإسلامية، سواء لدى أهل السنة أو الشيعة، هو أنها تُشرّع كحل استثنائي لمواجهة ظروف قهرية شديدة تهدد حياة الإنسان أو تعرضه للتعذيب الشديد. فالهدف منها يصب في إنقاذ النفس مع الحفاظ على استقرار الإيمان في القلب، تماماً كما يُباح للمضطر تناول المحرمات كاللجوء إلى أكل الميتة في حالات الضرورة القصوى.

ومع ذلك، المشكلة تنشأ عندما تتوسع تطبيقات هذا المبدأ ليخرج عن نطاقه الضيق والاستثنائي المحدد ليصبح قاعدة عامة أو ميداناً مستمراً في الحياة الاجتماعية والسياسية. حين تتحول التقية من كونها "رخصة اضطرارية" إلى "عقيدة مستدامة"، كما هو الحال مع بعض التفسيرات التي تعتبرها أساساً للتعامل اليومي أو تُعطيها أهمية تصل إلى تسعة أعشار الدين، فإن النتائج تثير القلق. هنا، يُحدث هذا التوسع آثاراً سلبية على الشفافية والمصداقية ويُفضي إلى تعزيز الغموض والتوتر بين أفراد المجتمع، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي في صميمه.

المسألة المحورية التي تحدد التفرقة بين الاستخدام المبرر لتقية الخوف والاستخدام الضار للمجتمع تكمن في الغاية وطبيعة التطبيق. هل هي ممارسة استثنائية ونادرة لإنقاذ الأرواح وحماية الدين، أم أنها تحولت إلى نهج دائم لإخفاء المعتقدات في التعامل مع الآخرين حتى في الأوضاع الطبيعية؟ هذا الفرق الجوهري هو ما يحدد نقطة النقاش الأخلاقي والفقهي حول مفهوم التقية.

تبرير التقية يصبح مشروعاً بشكل واضح في ظل الأنظمة الظالمة التي تمارس القمع والتعذيب وحتى التهديد بالقتل، حيث أشارت الشريعة الإسلامية إلى أهمية الحفاظ على النفس وصون الإيمان في مثل هذه المواقف. استناداً إلى قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" والغاية الأسمى المتمثلة في حماية الحياة، قد يُسمح للمؤمن بأن يظهر ما يخالف حقيقته عندما يكون تحت تهديد مباشر وغير عادل. في هذا الإطار، تكون التقية بمثابة وسيلة دفاعية بحتة يمكن فهمها من خلال قصة الصحابي عمار بن ياسر ومن الآيات القرآنية المتعلقة بالإكراه.

هذا النوع من التقية ليس خياراً للحصول على راحة شخصية أو تحقيق مصلحة ذاتية، بل هو إجراء مؤقت يُفرض تحت ظروف قاهرة للغاية. الهدف منه منح الإنسان فرصة للبقاء على قيد الحياة جسدياً ليحافظ على جوهر إيمانه ويستمر بسعيه لممارسة دينه الحقيقي، سواء سراً أو عبر اللجوء إلى مكان أكثر أمناً. لذلك يُطلق عليها الفقهاء "تقية الخوف"، وهي مقبولة فقط ضمن حدود الضرورة القصوى ولا تتجاوزها.

استخدام التقية في الحياة العامة يُعتبر اعتداءً على روح الإنسانية وأساس العلاقات الاجتماعية. إن تسليط الضوء على هذه الممارسة في سياق الحياة اليومية يكشف عيوبها ويدعو إلى التمسك بقيم الصدق والشفافية التي تُعد ركائز أساسية لبناء مجتمع صحي ومتوازن.

عندما يتحول استخدام التقية إلى سلوك عام في التعاملات اليومية، تتحوّل من كونها استثناءً إلى قاعدة تزعزع ثقة الأفراد فيما بينهم. العلاقات الاجتماعية تقوم على أساس أن ما يُعبَّر عنه يعكس حقيقة الأفكار والمشاعر، ولكن مع شيوع التقية، يُطمس هذا الأساس، ويعيش الناس في حالة من الشك المستمر إزاء نوايا وأقوال بعضهم البعض. هذه الحالة تؤدي إلى جو اجتماعي مملوء بالنفاق والخفاء، ما يمنع فرص الحوار البناء ويزيد من الفجوة بين الفئات المختلفة داخل المجتمع، ويحول دون تحقيق التفاهم والتعاون الضروريين لتحقيق تقدم مشترك.

موقف الإمام جعفر الصادق (ع) من التقية يظهر بوضوح في السياق التاريخي والظروف التي عاشها، حيث كانت ضرورة لحماية أتباع المذهب من القمع الشديد الذي مارسته الأنظمة الحاكمة آنذاك. المقولة المنسوبة إليه مثل "التقية ديني ودين آبائي" أو "لا دين لمن لا تقية له"، وفقاً للتفسيرات الشيعية، لا تُفهم على أنها دعوة عامة لإخفاء الحقائق أو الكذب بلا ضابط، بل كانت دعوة لتطبيق هذا المبدأ في حالات الضرورة القصوى فقط، كوسيلة لحفظ الأرواح ومنع انهيار المذهب في مواجهة الاضطهاد.

الفارق الأساسي يكمن في النية والسياق. فالتقية مقبولة إذا كانت تهدف إلى إنقاذ النفس أو حماية مصلحة كبرى، لكنها تصبح أمراً غير أخلاقي إذا استُخدمت بشكل تعسفي أو لتحقيق مكاسب فردية تخدم الفساد. في هذا الإطار، من المهم التأكيد أن مبدأ التقية لم يكن الغرض منه أن يكون نهجاً عالمياً يُمارَس في جميع نواحي الحياة اليومية أو التعامل مع الآخرين، وبخاصة من المؤمنين بمذاهب أخرى.

وعلى الرغم من وجود حالات قد يُبرَّر فيها هذا السلوك لحماية مصلحة عامة تتجاوز الأفراد، إلا أن إساءة استخدام هذا المبدأ، كما قد يحدث في مجالات مثل التجارة والصناعة، يشكّل خطراً حقيقياً. فالكذب وإخفاء الحقيقة في المجال الاقتصادي يعصف بأسس الثقة التي تُعتبر العمود الفقري لأي نظام اقتصادي ناجح. إضعاف هذه الثقة يؤدي بطبيعة الحال إلى دمار الأنظمة الاقتصادية وخسارة القيم الأخلاقية التي تُبنى عليها المجتمعات.
الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر إلا على أساس متين من الثقة واليقين. دخول مبدأ "التقية" في المعاملات المالية والتجارية يؤدي إلى أضرار جسيمة تضرب أهم مقومات التعامل التجاري، وهي الثقة. فعلى سبيل المثال، إذا أصبح المشترون يشككون في مواصفات أو جودة السلع التي يقدمها البائعون، فلن يقتنع أي طرف بالمعلومات المقدمة، متسائلين عمّا إذا كانت صادقة أم فقط وسيلة لإتمام الصفقة. وفي العقود التجارية، قد يتولد عدم اطمئنان بين الشركاء حول الالتزام بشروط الاتفاق أو التصريح الدقيق بالأرباح والخسائر، مما يؤدي إلى تراجع المشاريع الكبيرة أو توقفها كليًا. كذلك الحال في القطاع الصناعي، حيث يمكن أن تتحول سلسلة التوريد إلى عملية قائمة على انعدام الثقة، مما يزيد بشكل كبير من تكاليف الرقابة والمحاسبة.

الشريعة الإسلامية تحرم بشكل قاطع جميع أشكال الغش والكذب والتدليس في التجارة. وقد ورد في الحديث النبوي: "من غشنا فليس منا". هذا النص يشير إلى حكم عام واضح لا يسمح باستخدام التقية كمبرر إلا في حالات الإكراه الملحة لإنقاذ النفس أو المال من ظلم المتجبر.

الأصل في المعاملات التجارية هو الصدق والشفافية. استخدام التقية في مثل هذه الأمور يحولها من رخصة اضطرارية استثنائية إلى أسلوب دائم للعمل، وهو ما يتناقض تمامًا مع مبدأ العدل الذي يؤسس فقه المعاملات.

تعطيل المشاريع الضخمة هو نتيجة محتملة إذا افتقرت الاستثمارات والتمويلات إلى المصداقية المبنية على بيانات اقتصادية ومالية دقيقة. إذ إن احتمال إخفاء أو تزوير هذه البيانات تحت ذريعة "التقية" يجعل المستثمرين يحجمون عن المخاطرة بأموالهم، مما يؤدي إلى شلل التنمية الصناعية والاقتصادية.

النصوص الفقهية التي تبيح التقية في المال عادة ما تُربط بخوف حقيقي من تهديد الظالم الذي يسعى لانتزاع المال ظلمًا، كالعشّار أو من يستولي على ملكية الأفراد بالقهر. فعلى سبيل المثال، إذا اضطر تاجر للكذب على كمية أمواله أو سلعته ليحميها من الجور، فإن ذلك يقع تحت إطار الدفاع المشروع عن المال ويُعتبر استثناءً نادرًا، ولا يمتد إلى التعاملات التجارية اليومية بين الأفراد.

التقية ليست مبررًا لإلحاق الضرر المالي بآخر بريء، فلا يجوز استخدامها لإخفاء عيوب السلعة، أو التلاعب بأوزانها، أو التنصل من ديون مستحقة. هذه حقوق للآخرين ولا تسقط بمبررات التقية، تمامًا كما أن التقية لا تبيح القتل أو ارتكاب الفواحش.

المبدأ الأساسي في الفقه الإسلامي أن التقية تهدف إلى حماية المؤمن من أذى عدوه أو ظلم المتسلط عليه، لكنها لا تُجيز بأي حال التأثير السلبي على مصالح العامة أو إفساد المعاملات بما يضر بالآخرين.

للمزيد من النقاش حول هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى آراء مثل الشيخ عثمان الخميس لتوضيح معنى التقية عند الشيعة.

المبررات الفقهية لإعادة النظر في التقية
إن الدعوة المتزايدة إلى تحريم استخدام مبدأ التقية أو تقييد نطاق تطبيقها بشكل كبير في الزمن الحالي، خاصة في البلدان التي يتمتع فيها المجتمع الشيعي بوجود سياسي قوي أو تأثير اجتماعي ملحوظ، تعتمد على مجموعة من الاعتبارات الفقهية والسياسية المترابطة التي تدور حول مفهوم زوال العوامل التي أسست لاستمرار هذا المبدأ تاريخياً. الأساس الفقهي للتقية يستند إلى الحاجة إلى الحماية من المخاطر التي تهدد النفس أو المال أو العرض أو الدين، وهو أمر كان يرتبط عادة بظروف الاضطهاد والإكراه على العقيدة.

في الوقت الحاضر، ومع التغيرات الكبيرة التي طرأت على الوضع السياسي والاجتماعي في دول مثل العراق وإيران، حيث يشغل الشيعة مواقع بارزة في السلطة ويتمتعون بنفوذ واسع النطاق، لم يعد هناك وجود للإكراه العقائدي الذي كان سائداً في فترات تاريخية سابقة. بعبارة أخرى، فإن الظروف التي بررت ممارسة التقية سابقاً لم تعد قائمة في الوقت الحالي لهذه الدول.
وفقًا للقاعدة الفقهية الشهيرة القائلة بأن الحكم يرتبط بعلته فإذا زالت العلة زال الحكم، فإن انتهاء حالة الخوف المستمرة والمُمنهجة التي كانت تهدد وجود المذهب وتجبر أتباعه على إخفاء معتقداتهم يدفع للتساؤل العميق حول مدى الحاجة للاستمرار في تطبيق مبدأ التقية باعتباره عنصرًا جوهريًا من الدين وممارسة إلزامية، كما كان الحال في الأوقات التي شهدت ضغوطًا تاريخية كبرى. وفي سياق الحديث عن التقية وما قد يترتب عليها من تأثيرات على السلام الاجتماعي، هناك اتفاق عام بين الفقهاء، بمن فيهم كبار المراجع الشيعية، على عدم جواز التقية في سياقات تؤدي إلى وقوع مظلمة بحق الآخرين، مثل القتل أو الزنا أو الإضرار بالمال العام.

عندما يتم توظيف مبدأ التقية في التعاملات اليومية العامة التي تشمل التجارة أو الشهادة أو السياسة، فإن ذلك قد يسفر بشكل غير مباشر عن مظالم تؤثر على الثقة العامة بين الأفراد وتضر بأسس الدولة الحديثة التي تعتمد في بنيانها على قيم الشفافية والمساءلة. وإن الأنظمة السياسية الحديثة تتطلب من المسؤولين التزام الإفصاح والصدق في أفعالهم وأقوالهم، مما يجعل استخدام فكرة التقية في العمل الحكومي مسألة إشكالية؛ فهي تفتح المجال للتعتيم وإخفاء الحقائق، وهو الأمر الذي يناهض تمامًا مبادئ الحكم الرشيد.

حتى في أشد الظروف التي تتسم بالخوف أو الضغط، يُجمع كثير من العلماء على أن الصبر على العزيمة، بمعنى الثبات على الحق وتحمل التبعات المترتبة على ذلك، هو أفضل من اللجوء إلى الرخصة التي يمثلها مفهوم التقية، إلا إذا ترتب على العزيمة تضييع كامل للمذهب. ومع ذلك، فإن العصر الحالي يشهد تطورًا ملحوظًا في أدوات مواجهة القمع والاستبداد بصورة سلمية وعلنية، حيث أصبحت وسائل مثل حرية التعبير والنقد العلني ودور المنظمات المدنية أدوات فعالة قادرة على التأثير بصورة إيجابية. وتنبع قوة هذه الوسائل من اعتمادها على قيم الصدق والوضوح، التي تعد حجر الأساس لبناء مجتمع يقوم على العدل والتفاهم المشترك.
الدعوة إلى تحديث الفكر الفقهي ليتماشى مع متطلبات الدولة والمجتمع الحديث تعدّ ضرورة ملحّة. ومن بين الخطوات الأساسية التي يمكن أن تسهم في هذا التحديث إصدار فتوى من كبار المراجع تحدّد نطاق استخدام التقية وتقصرها على حالات استثنائية ضيقة، مثل الإكراه على الكفر أو التهديد بالقتل، أو حتى تحريمها تمامًا في المجالات المدنية والتجارية. مثل هذا الإجراء يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في تعزيز ثقة المجتمع وترسيخ مفاهيم الشفافية السياسية في الدول.

على مرّ التاريخ، جاءت معظم حركات الإصلاح والنجاحات الكبرى على المستوى الاجتماعي والسياسي نتيجة التخلي عن ما يُعرف بـ"تقية الخوف" والتمسك بالمجاهرة بالحق رغم الصعوبات والتهديدات. ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة التاريخية والمعاصرة التي أظهرت نجاحات محققة بفضل رفض التقية وتبني مبدأ المواجهة بشجاعة وإصرار:

في العصر الحديث، كان التمسك بمبادئ معلنة وواضحة هو الركيزة الأساسية لنجاح حركات التحرر المدني والسياسي. حيث يبدأ المصلحون عادة بحمل مطالب صريحة وأهداف واضحة تخص العدالة والحرية، دون لجوء إلى التخفي أو المداراة خوفًا من الأنظمة المستبدة. هذا النهج الشفاف يملك قوة جذب جماهيرية ويمنع تفسير المطالب بطرق ملتوية أو تحريفها، ممّا يشكّل قوة دفع قوية ضد حاجز الخوف في نفوس العامة.

وعندما تحقق حركات الإصلاح أهدافها وتصل إلى السلطة، فإن التزامها المستمر بمبادئ الشفافية ورفضها للسياسات الغامضة أو "التقية السياسية" يكون حاسمًا لاستمرار نجاحها. في المقابل، غالبًا ما تأتي إخفاقات الدول نتيجة التراجع إلى ممارسات الكتمان والإخفاء التي تقوّض الثقة بين الشعب والقيادة.
أكثر الحركات نجاحاً في تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي على مستوى العالم، والتي أدت إلى انهيار أنظمة قوية، اعتمدت على الصدق العلني والوضوح التام. عندما نتأمل مسيرة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، نجد أنه رفض بشكل قاطع اللجوء إلى أي نوع من النفاق السياسي أو المداراة مع نظام الفصل العنصري. استمرت مقاومته في السجن لسنوات طويلة، ومع خروجه منه، ظل ثابتاً ومتمسكاً بموقفه الواضح والصادق، مما منح حركته قوة أخلاقية لا تُقهر.

كذلك كانت حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة نموذجاً للوضوح والمصداقية في طرح مطالبها. لم تسلك هذه الحركة طريق الخفاء أو المراوغة، بل كانت واضحة وصريحة، وهو ما ضمن لها النجاح على المستويين الاجتماعي والقانوني.

التقية قد تكون أداة يستخدمها الأفراد لحفظ أنفسهم تحت الإكراه، إلا أن التخلي عنها والتحلي بالإرادة القوية والصدق العلني يمثل السلاح الأهم لتحقيق النجاح الجماعي، وإحداث تغييرات سياسية جوهرية، وبناء الثقة الاجتماعية. فالصدق وحده القادر على تحقيق تماسك حقيقي يُمكّن المجتمعات من مواجهة الاستبداد وتجاوزه.

من الناحية الأخلاقية، التقية لا تُعتبر فضيلة، لأن المبدأ الأخلاقي العام يرفض الكذب وإخفاء الحقيقة. فهذه الممارسات تشكل أساساً لتدهور العلاقات الإنسانية. الصدق هو القيمة الأخلاقية الأولى التي تحافظ على سلامة المجتمع. أما التقية فتُعتبر تخلياً عن هذا الصدق، بل وتحوله أحياناً إلى نفاق اجتماعي أو تزييف للحقيقة.

تبرير الكذب حتى بهدف حفظ النفس يحمل مخاطر كبيرة على النسيج الاجتماعي. فالبيئة التي لا تقوم على الصدق تصبح غير مستقرة، حيث تسود فيها الشكوك وينهار التعاون بين أفرادها. وفي حالة الإكراه الفردي، مثل الكذب لإنقاذ الذات من خطر مباشر، قد يكون الضرر محدوداً وغير مباشر، لكنه يفتح الباب لإضفاء المشروعية على الكذب كنهج عام، مما يضر بالثقة المتبادلة داخل المجتمع ويعقد العلاقات الإنسانية.

المجتمعات المستقرة سياسياً وأخلاقياً تُبنى على الشفافية والبساطة في التعبير عن الرأي والمعتقدات مع احترام الاختلافات. أما عندما يُفرض على الفرد التقية، فإنه يُجبر على خلق مسافة بين حقيقته الشخصية والعالم الخارجي، مما يؤدي إلى حالة من الازدواجية تُرهقه نفسياً وتفسد اتصاله مع الآخرين.

على مر التاريخ، لطالما شهدنا تقديراً واحتفاءً بمن تمسكوا بمبادئهم رغم التحديات الكبرى ورفضوا اللجوء إلى التقية، حتى لو كان الثمن حياتهم. هؤلاء الأبطال والشهداء يمثلون أعلى قيم الثبات على الحق والاستعداد للتضحية في سبيله.

مع ذلك، المنطق الأخلاقي قد يُبرر التقية في الحالات القصوى التي يكون فيها الفرد مهدداً بالموت حتماً. في هذه الظروف، يمكن اعتبار التقية وسيلة للبقاء البيولوجي أو دفاعاً أخيراً عن الحياة. لكنها تظل خياراً اضطرارياً يُفضل دائماً تجنب الحاجة إليه، لأنه لا يمثل فضيلة بحد ذاته وإنما هو اختيار أقل الضررين مقارنة بالخطر الأعظم وهو فقدان الحياة.



#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)       Hamid_Koorachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اختلاف الآراء في اشتراكية الاتحاد السوفييتي السابق
- ثلاثة قرون من الجمود: كيف دفع العرب والمسلمون ثمن حظر آل عثم ...
- تآكل الليبرالية
- اعتراف دون إيقاف حرب الإبادة
- بيت ليس للتحديث
- حول موت التراجيديا في الفن المعاصر
- لتخلّد نار بروميثيوس
- هل الصين بلد اشتراكي؟
- قصيدة الشرق الأوسط
- تحولات النظام العالمي ومستقبل الغرب
- سيرة صلاح نيازي الذاتية: امتاع ومؤانسة
- صراع العقل والوحي: نظرة عميقة إلى الشرق والغرب
- أغنية الفلاح الأخيرة
- مقارنة فاشلة بين ترامب وروزفلت
- السياسة الجيوسياسية للرجل العظيم
- رعب العيش
- الشيوعي والشيعي
- في زاوية العالم المائلة
- ما وراء الذكاء الاصطناعي: دوافع اقتصادية وأيديولوجية
- ميشيل فوكو والثورة الإسلامية بقيادة الخميني


المزيد.....




- مجلس التعاون الخليجي يدين اقتحام مسؤولين ومستوطنين إسرائيليي ...
- هجوم على كنيس في مانشستر.. الشرطة تكشف ولاء المهاجم لتنظيم ا ...
- بعد غياب عشر سنوات باسم يوسف يشعل مواقع التواصل بعد ظهوره في ...
- عشرات المستعمرين يقتحمون بلدة كفل حارس في سلفيت
- السعودية تدين اقتحام المستعمرين باحات المسجد الأقصى
- السعودية تدين اقتحام مستوطنين المسجد الأقصى وتطالب بمحاسبة إ ...
- الأردن.. أحكام بالسجن على 9 متهمين في قضية صواريخ وطائرات مس ...
- بتهم إرهابية - أحكام بسجن أفراد خلية مرتبطة بالإخوان في الأر ...
- السعودية تدين اقتحام مستوطنين المسجد الأقصى وتطالب بمحاسبة إ ...
- منها السعودية.. دول عربية تُدين صلاة بن غفير في المسجد الأقص ...


المزيد.....

- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حميد كوره جي - ضرورة تحريم التقية: بين رخصة الضرورة وخطرها على المجتمع