حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)
الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 00:58
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يُعَدّ تقييم الشخصيات المختلفة بخصوص النظام الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي السابق من المواضيع المعقدة التي تحمل العديد من التفسيرات المتناقضة، وهو ما يستدعي استعراض وجهات نظر الشخصيات التاريخية وفهم معتقداتهم وأفكارهم بشكل دقيق. على سبيل المثال، كان المنظر البلشفي الراحل فؤاد النمري يصر بحدة على أن الاتحاد السوفيتي استطاع تحقيق الاشتراكية بقيادة ستالين، مشيرًا إلى أن هذا الإنجاز كان السبب الأساسي في انتصار الاتحاد السوفيتي على النازية. من وجهة نظره، لو لم يكن النظام اشتراكياً لما تمكن من تحقيق هذا النصر العظيم.
على الجانب الآخر، عارضه أحد القراء بشكل جذري بحجته أن القيصر الروسي نفسه سبق وأن تغلب على نابليون، الذي يُعتبر أكثر قوة وجبروتاً من هتلر، وهزمه دون الحاجة إلى أن يكون النظام السائد آنذاك اشتراكياً. النقاش حول هذه المسألة – بما يتضمن مقالات الراحل النمري ومقالات أخرى ذات صلة – تم توثيقه وحفظه في أرشيف موقعنا في "الحوار المتمدن".
أما بالنسبة لموقف لينين تجاه الاتحاد السوفيتي خلال فترة حكمه، فقد شاع الفهم الخاطئ بأنه كان يعتبر الدولة وحدة اشتراكية مكتملة. في الحقيقة، استخدم لينين مصطلح "رأسمالية الدولة" لوصف الوضع الاقتصادي السائد الذي بدأ بالظهور خاصة خلال تنفيذ السياسة الاقتصادية الجديدة التي انطلقت عام 1921. هذا المصطلح يعكس إدراك لينين للطبيعة الانتقالية للاقتصاد آنذاك، حيث لم تصل الدولة بعد إلى الاشتراكية الكاملة.
نظر لينين إلى هذه المرحلة باعتبارها انتقالية، حيث تقدم بالقول إن دولة ذات اقتصاد قائم بالغالب على الزراعة وطبقة عاملة صناعية صغيرة بحاجة إلى فرض السيطرة على الصناعات الأساسية، مع السماح لبعض المؤسسات الخاصة بالعمل تحت رقابة الدولة. كانت رؤيته تهدف إلى إنشاء قاعدة صناعية قوية تسهم في تحقيق المجتمع الاشتراكي الحقيقي مستقبلاً. وبالنسبة له، اعتبر هذه السياسة خطوة حتمية ومؤقتة للانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى نموذج أكثر تطورًا يعتمد على التخطيط المركزي.
على الجانب الآخر، تبنى ستالين وجهة نظر مغايرة تمامًا. ففي أواخر عشرينيات القرن العشرين، أعلن أن الاتحاد السوفيتي قد أنجز "الاشتراكية في بلد واحد". واعتبر أن بناء مجتمع اشتراكي قد تحقق من خلال القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وإقامة اقتصاد مخطط مركزياً.
مثل هذا الإعلان تحولاً أيديولوجيًا كبيرًا عن بعض الأفكار الماركسية السابقة، التي كانت ترى أن الثورة الاشتراكية يجب أن تكون عالمية النطاق. وقد قدمت نظرية ستالين تبريرًا لعزلة الاتحاد السوفيتي وتركيزه على التنمية الداخلية بدلاً من انتظار اندلاع الثورات في بقية الدول. ورأى أن التحكم الكامل للدولة في الاقتصاد والملكية الجماعية للأراضي يمثلان جوهر الاشتراكية بحسب رؤيته.
تعد الآراء النقدية التي قدمها العديد من المفكرين الماركسيين الآخرين تجاه الاتحاد السوفيتي، سواء كانوا داخله أو خارجه، محورًا للعديد من المناقشات الفكرية. وقد تركزت انتقاداتهم حول رفض ادعاء جوزيف ستالين بأن الاتحاد السوفيتي قد حقق النظام الاشتراكي، حيث اتفق هؤلاء المفكرون على أن النظام السوفيتي انحرف بشكل كبير عن المبادئ الاشتراكية الحقيقية حسب تصوراتهم. ومن أبرز أفكارهم ومصطلحاتهم في وصف النظام السوفيتي:
"الدولة العمالية المشوهة": كان هذا المصطلح واسع الاستخدام بين شخصيات مثل ليون تروتسكي. فقد رأى تروتسكي أن القطيعة مع الرأسمالية قد تحققت بفضل الثورة الروسية، إلا أن النخبة البيروقراطية المتجسدة في الحزب الستاليني هيمنت على الدولة وأبعدت العمال عن حقوقهم ومصالحهم، ما أدى إلى إنشاء دولة ليست اشتراكية بالمفهوم الحرفي ولا رأسمالية بمفهومها التقليدي.
"اشتراكية الدولة" أو "رأسمالية الدولة": اعتمد الماركسيون الغربيون وغير الستالينيين على هذه التسميات لتوصيف طبيعة النظام الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي. فقد كانوا يعتقدون أن السيطرة على وسائل الإنتاج لم تكن بيد الطبقة العاملة كما تُعد أساسًا للمجتمع الاشتراكي، بل كانت تحت هيمنة الدولة نفسها. وبذلك رأوا في النظام السوفيتي نوعًا جديدًا من الرأسمالية التي تديرها الدولة، وليس وصفًا حقيقيًا للاشتراكية.
"الجمعية البيروقراطية": هذا المصطلح شكل تحليلًا مختلفًا لبعض النقاد الذين اعتبروا النظام السوفيتي ليس مجرد تشوه للنظام الاشتراكي، بل نمطًا جديدًا من المجتمعات الطبقية حيث هيمنت طبقة بيروقراطية منفصلة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً على عامة السكان.
تميزت هذه الانتقادات بالتنوع والغنى الفكري الذي سلط الضوء على زوايا متعددة لواقع الاتحاد السوفيتي تحت حكم ستالين، مما ساهم في إثراء النقاشات حول ما إذا كان هذا النظام يمثل تطبيقًا حقيقيًا للفكر الاشتراكي أم أنه انحراف عنه.
يكشف النقاش حول ما إذا كان الاتحاد السوفيتي قد شكّل نموذجًا "اشتراكيًا" حقيقيًا عن وجود انقسامات أيديولوجية عميقة داخل الحركة الماركسية. المفردات المستخدمة من قِبَل قادة مثل لينين وستالين، إلى جانب انتقادات معارضيهم، تعكس الخلاف الجوهري حول طبيعة الدولة السوفيتية والمسار الواجب اتباعه نحو تحقيق الشيوعية.
إحدى النقاط الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الاتحاد السوفيتي تتمثل في التوازن بين الإنجازات الصناعية الهائلة التي أُحرزت خلال حكم ستالين والتكلفة الإنسانية الباهظة التي صاحبت تلك الإنجازات. لا جدال في أن فترة ستالين شهدت تحولات جذرية شملت جوانب الاقتصاد والمجتمع، لكن هذه التحولات جاءت مع تداعيات مأساوية كبيرة.
بالنسبة للتحولات الصناعية السريعة، أطلق ستالين خططًا خمسية طموحة استهدفت تحويل الاتحاد السوفيتي من اقتصاد يعتمد على الزراعة إلى قوة صناعية كبرى خلال فترة زمنية قصيرة. ركزت هذه الخطط على الصناعات الثقيلة مثل صناعة الفولاذ، واستخراج الفحم، وصناعة المعدات، وتوليد الكهرباء.
- في المجال الزراعي: تم تطبيق نظام التجميع القسري الذي أُجبر فيه الفلاحون على التخلي عن أراضيهم والانخراط في مزارع جماعية تديرها الدولة. الهدف الأساسي كان توفير المواد الغذائية لتلبية احتياجات المدن المتنامية بالإضافة إلى تصدير الحبوب لتمويل الخطط الصناعية. ومع ذلك، تسببت هذه السياسات في كوارث إنسانية كتجويع واسع النطاق، كان أبرزها مجاعة هولودومور في أوكرانيا التي أسفرت عن وفيات بالملايين.
- في المجال الصناعي: اعتمدت الدولة على القمع والرقابة الصارمة لتنظيم العمل والإنتاج في المصانع والمشاريع الكبرى. تم إنشاء مدن صناعية جديدة بالكامل في مناطق نائية وصعبة مثل جبال الأورال وسيبيريا. غالبًا ما كان العمل في هذه المشاريع يعتمد على نظام العمل الإجباري (غولاغ)، حيث أجبر السجناء السياسيون والمعتقلون على العمل في ظروف بالغة القسوة وغير إنسانية، ما أدى إلى وفيات هائلة بين هؤلاء العمال.
على الرغم من أن هذه السياسات ساهمت في تحقيق نمو صناعي هائل وأدت إلى إنشاء مدن وقرى جديدة بالكامل، إلا أن الثمن الذي دفعته البشرية كان باهظًا وغير مسبوق في فظاعته. يخوض المؤرخون نقاشًا واسعًا حول تقدير حجم الضحايا الذين قُدرت أعدادهم بملايين الأرواح التي أُزهقت نتيجة المجاعات الكارثية التي اجتاحت البلاد، بالإضافة إلى الملايين الآخرين الذين لقوا حتفهم إما في معسكرات العمل القسري تحت ظروف مهلكة أو من خلال عمليات الإعدام الوحشية التي طالت كل من اتُّهم بأنه يشكل تهديدًا للنظام. وجاء التطهير الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين ليُضيء على واحدة من أحلك فصول هذا القمع، حيث استُهدفت فئات واسعة ممن وُصفوا بأنهم "أعداء الشعب" المفترضين، مما أدى إلى موجات من الاعتقالات والإعدامات التي لم تستثنِ أحدًا.
من الصعب أن نفصل الإنجازات الصناعية عن العنف والاضطهاد اللذين تزامنا معها بشكل واضح. فالازدهار العمراني وإنشاء المصانع والمجمعات الصناعية لم يكونا محض نتيجة للتخطيط الاقتصادي البحت، بل كانا ثمارًا لنهج استغل العمالة بأقصى درجات القسوة، وتخلص بلا تردد من كل معارضة محتملة للنظام، واعتمد بشكل كبير على نظام العمل الإجباري كركيزة أساسية لتحقيق الأهداف الاقتصادية.
يمكن النظر إلى إرث ستالين على أنه مفارقة تاريخية تُثير جدلًا كبيرًا: فمن ناحية، شهدت الدولة تحولًا دراماتيكيًا وسريعًا من اقتصاد زراعي بدائي إلى قوة صناعية عظمى تنافس على المستوى العالمي، ولكن من ناحية أخرى، جاء هذا التحول بفاتورة مروعة دفعها المواطن العادي ثمنًا من حياته وكرامته. إن الجدل المستمر حول فلسفة "الغاية تبرر الوسيلة" الذي أثير بقوة خلال هذه الحقبة يبقى جزءًا لا يتجزأ من محاولاتنا لفهم طبيعة هذه الفترة وآثارها الممتدة حتى يومنا هذا.
#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)
Hamid_Koorachi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟