أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كوره جي - لتخلّد نار بروميثيوس















المزيد.....

لتخلّد نار بروميثيوس


حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 01:54
المحور: الادب والفن
    


لقد أثارت عملية سرقة بروميثيوس للنار غضب زيوس إلى حدٍّ كبير، حيث أشعل هذا الفعل شرارة انتقامه وولَّد لديه شعورًا بالخيانة العظمى والتحدي لسلطته. وبناءً على ذلك، أمر بمعاقبة بروميثيوس أشد العقاب، فحُكم عليه بأن يُقيد على صخرة شاهقة ترتفع وسط منطقة قاحلة بعيدة ومنعزلة في جبال القوقاز. وقد وقع الاختيار على هيفايستوس، إله النار وصانع المعادن، لتنفيذ تلك العقوبة. ولكن، بالرغم من ولائه لأوامر زيوس، أبدى هيفايستوس ترددًا وتوترًا خلال تنفيذ المهمة، إذ إن الاحترام المتبادل بينه وبين بروميثيوس، وكذلك تقديره للبشر، جعله يعيش صراعًا داخليًا بين الطاعة والتضامن.
تفتح هذه القصة الأسطورية نافذة لما يمكن أن يحدث عندما يتم التمرد على السلطات العليا أو التحايل على قراراتها، وهو موضوع يوازي ما نشهده في عصرنا الحاضر من محاولات البشر للتفاوض حول أنظمة السلطة أو مقاومتها بوسائل مبتكرة.
وقد تجسدت تفاصيل العقوبة بشكل يومي من خلال نسر ضخم يُرسل لينهش كبد بروميثيوس المُقيد على الصخرة. وفي كل ليلة، تنمو أنسجة كبده لتعود إلى حالتها الأولى، مما يجعله عُرضة لنفس النوع من الألم على مدار اليوم التالي. لقد استمر هذا النوع الشديد والمرعب من العذاب لآلاف السنين، وذلك لأن بروميثيوس، مثله مثل الآلهة الأولمبيين، يمتلك حياة أبدية لا تحدها نهاية، مما جعل العذاب جزءًا دائمًا من وجوده. هذه القصة ليست مجرد سرد لعقوبة إلهية، بل هي تعبير عن التناغم بين الكبرياء البشري والإرادة التي تتحدى الحدود مهما كان الثمن.
في مسرحية "بروميثيوس المكبّل" التي كتبها آيسخولوس، نُواجه صرخة مؤلمة من أعماق المعاناة، حيث يعلو صوت البطل الممتلئ بالألم ليخاطب الكون حوله قائلاً*:

"أيها الفضاء المقدس، أيتها الرياح المحلقة بسرعة،
يا منابع الأنهار ويا محيطات الكون الشاسعة التي تفيض بأمواج لا تنتهي،
أيها الأرض، الأم التي تحتضن الجميع، ويا عين الوجود كله،
أيتها الشمس المشرقة، أصرخ لكم:

انظروا كيف أتعذب، أنا الإله المقيّد بسلاسل الانتقام الإلهي.
شاهِدوا الجرح الغائر الذي أصابني والإهانة التي أعانيها،
إنها معاناة لا تعرف نهاية وتمتد لآلاف السنين الثقيلات.

لقد ثبّتني الحاكم الجديد لعمالقة الأولمب بقيود القهر والإذلال.
آهٍ يا للحسرة! صدري يتنهد بعبء هذه الحالة الجائرة.

متى يا ترى تنقشع هذه الغيمة الثقيلة؟
متى ستنتهي هذه الآلام التي فرضتها الأقدار عليّ؟"

هذه الكلمات تسبر أغوار المشاعر الإنسانية وتكشف عن عمق الألم الذي يخلّده الكاتب في واحدة من أبرز المسرحيات الأدبية الكلاسيكية. بروميثيوس، الشخصية الرئيسية هنا، لا يقتصر على التعبير عن وجع شخصي فحسب، بل يتحول إلى رمز للصراع الإنساني الأبدي بين الطموح والقيود، وبين الحرية والقهر.

تُعتبر هذه العبارات بمثابة صرخة مدوية ومؤلمة مأخوذة من مسرحية "بروميثيوس المكبّل" للكاتب الإغريقي المبدع آيخولوس. هذه المسرحية الأسطورية تروي المأساة المستمرة للعملاق بروميثيوس الذي عوقب بوحشية على يد الإله زيوس بعد أن تحدى الآلهة وسرق النار ليمنحها للبشر، مضحياً بحرية نفسه ليزرع الشرارة الأولى للحضارة.

يبدأ بروميثيوس خطابه بنداء حزين ومليء بالشجن إلى العناصر الطبيعية التي تحيط به: الفضاء الواسع، الرياح التي لا تهدأ، الأنهار الجارية، البحار الهادرة، الأرض الخصبة، والشمس الساطعة. هذا النداء ليس لاستجداء النجدة، بل دعوة لهذه القوى الكونية لتكون شاهدة على معاناته المروعة. في لحظة حزينة من العزلة والخوف، يلجأ إلى الطبيعة باعتبارها الشاهد الوحيد الذي يمكن أن يستوعب حجم ألمه ويفهم وجعه العميق.

حقاً، شخصية بروميثيوس تقدم درساً أدبياً وإنسانياً عظيماً عن الثبات أمام الظلم وعن التضحية في سبيل الخير العام، وهو ما يجعل هذه المسرحية تحفة فنية خالدة في تاريخ الأدب العالمي.

بروميثيوس يعبر عن معاناته البالغة مما يمكن تسميته بـ "ثأر الآلهة"، مما يوحي بأن العقوبة التي أنزلت به ليست مجرد جزاء طبيعي على أفعاله، بل هي تجسيد لانتقام شخصي من قبل زيوس. يظهر زيوس في هذا السياق كحاكم مستبد لا يرحم، يمزج بين الغطرسة والرغبة العارمة في الانتقام، مما يجعل من العقوبة أكثر وطأة وأشد قسوة.

بروميثيوس لا يكتفي بوصف ألمه الجسدي الناتج عن العقاب، بل يسلط الضوء أيضاً على أبعاد المعاناة النفسية التي يعيشها. فهو يعبر عن إحساسه بالإذلال عبر كلمات مثل "الذل الذي أنا فيه" وعبارة "سُمّرت بحبال التحقير". هذه التعبيرات تكشف عن جانب آخر من العقاب، حيث إن الإهانة النفسية والشعور بالمهانة تتساوى في شدتها مع الألم الجسدي الذي يتجسد في نهش الكبد بشكل دائم.

وينتهي خطابه بسؤال مفعم بالوجع واليأس العميق: "متى ستزول هذه المعاناة التي فرضتها عليّ الأقدار؟". من خلال هذا التساؤل، يتجلى شعور بروميثيوس بعدم وجود أي بصيص أمل في الخلاص القريب، إذ يدرك أن مصيره قد حُكم عليه بالعذاب الأبدي الذي لا انفكاك منه، وأن حريته قد انتزعت منه بلا رجعة.

كلماته تحمل في طياتها أبعاداً أخرى تتجاوز مجرد الألم الجسدي. فهي تجسد الصراع الأزلي بين سلطة القوة الغاشمة، ممثلة بزيوس، وبين الإرادة الحرة والقدرة على التضحية في سبيل الآخرين التي يقدمها بروميثيوس كنموذج مثالي. هذا الصراع العميق يجعل من بروميثيوس رمزاً خالدًا لكل من يواجه الظلم ويتحداه لأجل تحقيق الخير والصالح العام، حتى لو كان الثمن الذي يدفعه كبيراً وغير محتمل.

ما يجعل أسطورة بروميثيوس ذات جاذبية خاصة هو أنها تتجاوز كونها مجرد قصة خيالية عن صراع قائم بين الآلهة، لتصبح انعكاساً دقيقاً للطبيعة البشرية وتجسيداً لجدلية مستمرة بين القوة المهيمنة والسعي نحو الحرية. إنها ليست مجرد حكاية عابرة، بل رمز لرحلة العقل البشري في مواجهة العقبات وتحدي السلطات الظالمة.

يُنظر إلى شخصية بروميثيوس على أنها مثال أعلى للبطل الإنساني بكل ما يحمله من تضحية وإيثار. لم يكن عمله في سرقة النار عملاً أنانياً لتحقيق منفعة ذاتية، بل كان خطوة جريئة وهامة لنقل شعلة المعرفة إلى البشر، مما منحهم القدرة على إنشاء الحضارة، والتوغل في أسرار الكون، والتحرر من ظلام الجهل والهيمنة الإلهية. هذه المبادرة الجريئة جعلت منه رمزاً خالدًا لكل من يناضل لإحداث تغيير جوهري لصالح المجتمع، ولو كان ذلك يتطلب ثمناً باهظاً يتمثل في المعاناة المستمرة التي تُفرض عليه.

تجسد الأسطورة أيضاً الصراع العميق بين أجيال الآلهة، حيث نرى تنافساً محموماً بين التيتان القدامى، وعلى رأسهم بروميثيوس الذي يمثل الحكمة والتبصر، وبين الأولمبيين الجدد بقيادة زيوس الذي يعبر عن السلطة المطلقة والقوة الطاغية. هذا السجال بين القوى المختلفة يعبر عن صراع أكبر يدور في حياة البشر بين التقاليد القديمة والحاجة إلى التقدم المستمر، وبين النمط السلطوي الذي يسعى دائماً للحفاظ على قبضته والسيطرة، والعناصر المتجددة التي تنادي بتحقيق التغيير وإعادة تشكيل الموازين.

وفي جوهرها، قصة بروميثيوس تأريخ لأحد أكبر أشكال التمرد على الاستبداد والطغيان. لم يخضع بروميثيوس لإرادة زيوس ولا لقوانينه الطاغية، بل تحدى سلطته وأصر على الدفاع عن حقوق البشر رغم العواقب الوخيمة التي دفع ثمنها بعذاب أبدي. من خلال هذه القصة، يُسلط الضوء على إرادة الإنسان الأزلية في الوقوف بوجه الظلم والمطالبة بتحقيق العدالة والحرية، قيمٌ نبيلة تظل محورية ومستدامة بغض النظر عن الزمن أو المكان.

* ترجمت المقطع المسرحي عن السويدية



#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)       Hamid_Koorachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الصين دولة شيوعية ونظامها اشتراكي؟
- قصيدة الشرق الأوسط
- تحولات النظام العالمي ومستقبل الغرب
- سيرة صلاح نيازي الذاتية: امتاع ومؤانسة
- صراع العقل والوحي: نظرة عميقة إلى الشرق والغرب
- أغنية الفلاح الأخيرة
- مقارنة فاشلة بين ترامب وروزفلت
- السياسة الجيوسياسية للرجل العظيم
- رعب العيش
- الشيوعي والشيعي
- في زاوية العالم المائلة
- ما وراء الذكاء الاصطناعي: دوافع اقتصادية وأيديولوجية
- ميشيل فوكو والثورة الإسلامية بقيادة الخميني
- هل توجد -الخروتشوفية-؟
- الوطن الحقيقي خبز وحرية وقيمة إنسانية
- على شفا الأفق الأحمر
- الماركسية: تحليل علمي لا نبوءة حتمية سقوط الرأسمالية
- ستيغ داغرمان: شاعر القلق وساعي النجاة
- غرفة المراقبة
- يوميات السرطان: صرخة من الألم إلى الأمل


المزيد.....




- -هنا رُفات من كتب اسمه بماء- .. تجليات المرض في الأدب الغربي ...
- اتحاد أدباء العراق يستذكر ويحتفي بعالم اللغة مهدي المخزومي
- -ما تَبقّى- .. معرض فردي للفنان عادل عابدين
- فنانون إسبان يخلّدون شهداء غزة الأطفال بقراءة أسمائهم في مدر ...
- فنانون إسبان يخلّدون شهداء أطفال غزة بقراءة أسمائهم في مدريد ...
- الفنان وائل شوقي : التاريخ كمساحة للتأويل
- الممثلة الأميركية اليهودية هانا أينبيندر تفوز بجائزة -إيمي- ...
- عبث القصة القصيرة والقصيرة جدا
- الفنان غاي بيرس يدعو لوقف تطبيع رعب الأطفال في غزة.. الصمت ت ...
- مسرحية الكيلومترات


المزيد.....

- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كوره جي - لتخلّد نار بروميثيوس