أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كوره جي - ستيغ داغرمان: شاعر القلق وساعي النجاة















المزيد.....


ستيغ داغرمان: شاعر القلق وساعي النجاة


حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8419 - 2025 / 7 / 30 - 04:52
المحور: الادب والفن
    


وُلد الكانب السويدي ستيغ داغرمان في الخامس من أكتوبر عام 1923 وسط أجواء ريفية هادئة في قرية صغيرة تقع في منطقة "ألفكاره بي" بالسويد. نشأ في كنف جده وجدته من جهة الأب، حيث أحاطاه برعاية دافئة وحب لا محدود، وهو ما انعكس بوضوح في صفحات يومياته التي رسم من خلالها صورًا نابضة بالحيوية للأحداث والذكريات. أما والده، الذي كان يعمل في وظائف تتطلب مجهودًا جسديًا شاقًا مثل تفجير الجبال، فقد كان منشغلاً وغير مستعد بعد لتأسيس أسرة خلال تلك الفترة.

سمات الطفولة وتأثير البيئة

نشأ داغرمان في مرحلة تاريخية شهدت نهاية العصر الزراعي التقليدي الذي كان طاغيًا في السويد آنذاك. كانت هذه الحقبة مليئة بالمناظر الطبيعية البكر من مروج واسعة وخيول تجوب المكان بحرية إلى جانب مظاهر الحياة الريفية التي يصفها كاتب سيرته الذاتية، لاغركيرانتز، بأنها مزيج من البساطة والصخب. ارتسمت هذه البيئة في الكثير من أعماله، ولعل أكثر صورها وضوحًا تجلت في روايته الشهيرة "آلام العرس". عمل داغرمان مع جده في الحقل وتفاعل مع أحداث ذلك العصر المضطرب الذي أحاط به، خاصة مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت أوروبا والسويد خلال تلك الفترة. وقد ترك المتشردون الذين كانوا يعبرون مزرعة جده بصمات واضحة في ذاكرته، إذ ما زالت مشاهد ترحيب جدته بهم وكرمها الأخاذ حاضرًا في أعماله الأدبية كشاهد على تلك اللحظات الإنسانية.

الويلات الشخصية وأثرها العميق على مسيرته الأدبية

عاش داغرمان سلسلة من المآسي التي تركت ندوبًا غائرة في روحه وأثرت بعمق على مسيرته الإبداعية. البداية كانت مع وفاة جده وجدته، حيث لقي جده مصرعه بطريقة مفجعة على يد شخص مختل عقليًا أثناء تفقده للخيول، وهي حادثة أثّرت فيه بوضوح ودفعته لاحقًا إلى التعبير عنها ضمن إحدى قصائده المبكرة. لم تكد الأرض تستقر تحت أقدامه حتى واجه فقدان جدته بعد فترة قصيرة، مما عمّق شعوره بالخذلان والمرارة. كما جاءت صدمة أخرى بعد عامين حين فقد أحد أقرب أصدقائه في حادث انهيار ثلجي أثناء نزهة جبلية بسيطة تحولت إلى مأساة. هذه الوفيات المأساوية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كتاباته، حيث وظّف ألم الفقد بأسلوب أدبي مؤثر يعطي بعدًا إنسانيًا عميقًا لموضوعاته.

سنوات التكوين وبداية النشاط السياسي

قضى ستيغ داغرمان عدة سنوات في ستوكهولم خلال فترة شبابه، حيث تأثر بالأحداث المحيطة به. التحق بمعهد "سودرالاتين" الكلاسيكي عام 1942، ثم بدأ الدراسة في المعهد العالي في ستوكهولم لفترة قصيرة قبل أن يتجه إلى دراسة الصحافة. عمل فيما بعد في صحيفة "أربيتارن" (العامل). كان داغرمان ناشطًا في الحركة النقابية منذ سنوات دراسته الإعدادية، وهي حركة سياسية راديكالية تميزت بمواقفها المختلفة عن الأحزاب البرجوازية والاشتراكية الديمقراطية تجاه القضايا الكبرى.

النقابية والزواج الأول: بناء الوعي

لعبت النقابية دورًا حاسمًا في تشكيل رؤية داغرمان للحياة والعالم، حيث ظل ملتزمًا بمبادئها. أسهمت تجاربه وتواصله مع ضحايا الحرب والملاحقين سياسيًا في التأثير على مسار حياته الشخصية. تزوج من آنه ماريا، وهي لاجئة شيوعية فرت من أهوال الإرهاب والتعذيب في ألمانيا عام 1934، متنقلة أولاً إلى النرويج ثم إلى السويد. كانت آنه ماريا قد شاركت في الحرب الأهلية الإسبانية وفقدت خلالها أعز صديقاتها. التقى الاثنان لأول مرة عام 1942 في نادي الشباب النقابي، حيث كان داغرمان يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، بينما كانت آنه ماريا في الثامنة عشرة من عمرها.

الشهرة السريعة والتحديات المرتبطة بها

شهدت حياة الكاتب السويدي ستيغ داغرمان تحولًا عميقًا بعد نشر روايته الأولى، حيث إنه أصبح شخصية أدبية بارزة ومحبوبة على نطاق واسع، ليس فقط من خلال أعماله، بل على مستوى حياته الخاصة أيضًا. هذا النجاح المفاجئ أتاح له إمكانية تحقيق مستوى جديد من الرفاهية الشخصية، حيث امتلك سيارة فاخرة وفيلا أنيقة، وهي امتيازات كانت تُعتبر في ذلك الزمن حدثًا استثنائيًا. ومن جوانب الاستمتاع بهذه الحياة الجديدة، كان حب داغرمان لقيادة السيارات الكبيرة والفارهة ذات السرعة العالية، والتي تضيف لمسة من الإثارة إلى حياته.

ومع ذلك، لم تكن حياته الشخصية تسير بنفس الانسجام الذي بدأت عليه مسيرته الأدبية. فقد انتهى زواجه الأول بالفشل ليبدأ مرحلة جديدة بزواجه من الممثلة الشهيرة آنيتا بيورك. رغم هذه التحديات، نجح داغرمان في ترسيخ مكانته كواحد من أبرز الأدباء السويديين في مرحلة شبابه المبكرة. حيث كانت أعماله الأدبية سواء الروائية أو المسرحية محط أنظار الجمهور، تُناقش بجدية ويُسلط عليها الضوء، مما مهد الطريق أمامه لتحقيق مستوى غير مسبوق من الشهرة مقارنة بأقرانه، سواء الكبار منهم أو أولئك الذين ينتمون إلى نفس جيله.

لكن الموهبة الأدبية لداغرمان مرت بفترة صعبة بعد نشر روايته "آلام العرس" عام 1949، حيث شهد إنتاجه الإبداعي تراجعًا واضحًا. حاول مرارًا استعادة الزخم الذي ميز بداياته، إلا أن محاولاته قوبلت بالإحباط. ومع ذلك، عندما تمكن أخيرًا من تجديد قدراته الإبداعية، شعر كما لو أن الحياة قد عادت لتتدفق في عروقه من جديد. ففي رسالة خطها لصديق له، عبّر عن انطباعه بهذه المرحلة قائلًا: "يا إلهي، كم هو رائع أن أستطيع العمل مرة أخرى؛ أن أرى الجليد يتلاشى بعد سنتين من التجمد. لقد أصابني الأرق لليلتين متتاليتين ولم أستطع النوم؛ وفي الليلة الثالثة أصابتني الحمى لكنها كانت منعشة بشكل غريب؛ الآن أشعر وكأنني في حالة من النشوة اللطيفة."

هذا التصريح لم يكن مجرد تعبير عن حالته النفسية فحسب، بل يعكس أيضًا الألم والفرح المختلطين اللذين رافقا عملية استعادة الروح الإبداعية التي لطالما شكلت محور حياته.


الصراع مع القلق والبحث عن الإلهام

واجه ستيغ داغرمان تحديات متزايدة في حياته دفعت به إلى محاولة كبح قلقه وتخفيف أعبائه من خلال ارتياد السينما ومتابعة مباريات كرة القدم. كما حاول العثور على الإلهام عبر السفر واستكشاف بيئات جديدة، لكنه لم يصل إلى النتائج التي سعى إليها.

في أحد لقاءات زوجته الأولى، آنه ماريا، مع صحيفة "سفينسكا داغبلادت"، وصفت طبيعة العلاقة بينهما بقولها إنها جاءت من وسط اجتماعي حيث كان الحوار والنقاش المستمر عن الأشخاص والأحداث جزءًا لا يتجزأ من حياتهم. لكنها أشارت إلى أن ستيغ، رغم كونه إنسانًا قليل الكلام، كان يجد في صمته مساحة تعبر هي من خلالها عنه قائلة: "كنت أنا من يتحدث نيابة عنه عندما يختار السكوت".

وعلى الرغم من الحب العميق الذي كان يكنه ستيغ لآنه ماريا، إلا أن العلاقة كانت غير متبادلة، حيث اعترفت آنه بأنها لم تكن تشاركه نفس المشاعر بالشغف نفسه. ووصفت العلاقة بينهما كشراكة فكريّة قائمة على رؤية مشتركة لتغيير العالم. وأكدت على انسجامهما في فكرة "تربية الشعب" والتي كانت جزءًا من إيديولوجيتهما. لكنها أضافت أن ستيغ عانى من الوحدة ولم يستطع تقبّل فكرة افتقاده لشعور المحبة من الآخرين.

رواية "الثعبان": تجسيد لقلق جيل كامل

في روايته "الثعبان"، يعكس داغرمان بعمق حالات القلق الوجودي التي عاشها جيله خلال أربعينيات القرن الماضي. تدور أحداث الرواية في أحد معسكرات السويد، حيث يتحول "الثعبان" إلى رمز للمخاطر الكبرى التي تهدد أوروبا والبشرية بشكل عام. وتجسد الرواية مشاعر الخوف من الحروب والمآسي الإنسانية التي شكلت كابوسًا يطارد ذلك الجيل.
عاش ستيغ داغرمان تجربة مؤلمة ومليئة بالتحديات خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، حيث قضى تلك المرحلة في ألمانيا التي كانت لا تزال ترزح تحت وطأة الدمار الشامل. ومن هناك، كان يبعث بتقارير عميقة وصادمة إلى جريدة "أربيتارن" السويدية، معبّرًا عن رؤيته الشخصية للواقع الناشئ بعد الحرب وعن التحديات الإنسانية التي لمسها بنفسه. في إحدى رسائله المؤرخة بتاريخ 29 أكتوبر عام 1945، كتب داغرمان عبارة مؤثرة استحضرت مشاعره العميقة قائلًا: "لقد فقدت نفسي بين الخرائب هنا، وحين أحلم فقط في الليالي أسترجع ذاتي شيئًا فشيئًا." هذه الكلمات لم تكن مجرد تعبير عن مشاعره، بل كانت بمثابة نافذة تطل على الألم النفسي الذي اختبره آنذاك ورؤيته المؤلمة للدمار المترامي الأطراف.

لقد انعكست تلك المعاناة النفسية بوضوح في إبداعاته الأدبية، خصوصًا في قصائده الأخيرة التي جاءت محملة بالسوداوية العميقة والقلق المتفاقم، وهما العنصران اللذان لطالما تميزت بهما كتاباته. داغرمان لم يكن يخفي هذه المشاعر، بل كان صريحًا وصادقًا في الحديث عنها. ففي إحدى الرسائل التي بعث بها إلى صديقته المقربة إنجا لانغره، الممثلة المسرحية التي كانت تشاركه جزءًا من اهتماماته الفكرية، كتب داغرمان: "بشكل من الأشكال دخلت حياتي في ممر مسدود، ولا أدري كيفية الخروج. فلم أعد أستطيع الكتابة، ولا الضحك، ولا الكلام، ولا المطالعة، أشعر أنني أمسيت خارج اللعبة كلها." كانت هذه الكلمات شهادة مباشرة على انهياره النفسي والشعور العميق بالعزلة والعجز الذي سيطر عليه في آخر أيام حياته.

في الرابع من نوفمبر عام 1954، انتهت حياة داغرمان بشكل مأساوي وهو لم يتجاوز الحادية والثلاثين من عمره. تم العثور عليه متوفيًا داخل مرآب في قرية "أنه بلبري"، حيث توفي اختناقاً بغازات سيارته بعد تشغيلها. كان هذا الحادث بمثابة صدمة كبيرة للوسط الثقافي والأدبي، ليس فقط في السويد، ولكن أيضًا على نطاق واسع. العديد ممن تابعوا أعماله وتفكروا في كلماته رأوا فيه صوتاً نابضاً يعبر بصدق عن قلق وآلام جيله، صوتاً حلّق فوق هشاشة الوجود الإنساني وأسرار الظل النفسي الذي خلفته الحرب. وقد ترك ستيغ داغرمان وراءه إرثًا أدبيًا مليئًا بالتأملات المؤلمة والمشاعر المرهفة التي عبر عنها بعبارته الشهيرة: "قلقي هو الأعظم في الدنيا". تلك المقولة لم تكن مجرد كلمات، بل ميراثاً يعكس عمق روحه ومعاناة جيله بأكمله.
كان فرانز كافكا مصدر إلهام ومرجعًا فكريًا وإبداعيًا لداغرمان، مما يجعله شخصية مؤثرة في الأدب الحديث. ويستحضر داغرمان في أعماله الكاتب الإيراني المنتحر صادق هدايت، الذي كان معاصرًا له، مما يبرز سياقًا أدبيًا مشتركًا يحمل هموم القلق الوجودي والمآسي الإنسانية. داغرمان كان إنسانًا عميق التفكير، يسعى إلى إحداث تغيير إيجابي في العالم لخدمة البشرية جمعاء.

رواية "الطفل المكتوي بالنار" تُعد تعبيرًا صادقًا عن أعماق النفس البشرية وتجارب داغرمان الشخصية وصراعاته الداخلية. تبدأ الرواية بمشهد وداع الأم المتوفاة آلما، حيث يتقدم كل من الأب كنوت والابن بنكت موكب المشيعين. ولكن مأساة الابن تبدأ عندما يكتشف رغبة والده في الزواج من غون، عاملة شباك التذاكر في السينما، قبل انقضاء عام على وفاة والدته. هذه الحقيقة تُشعل غضبه بشكل كبير، خاصة أنه يرى العلاقة ضربًا من الخيانة لذكرى الأم.

الرواية تتعرّض لصراع المشاعر وتعقيد العلاقات الإنسانية بشكل مؤثر. تتغير مشاعر الابن التي تبدأ بالكراهية تجاه غون؛ حيث يعتبرها دخيلة على حياته وأسرته، إلى مشاعر حب قوية تنشأ بينهما لاحقًا. هذا التحول يعقد الأمور بشدة ويضع الأسرة أمام تحديات أخلاقية واجتماعية عميقة.

الأب، الذي يبدو سعيدًا بظنه أن علاقة الابن بزوجته الجديدة مجرد تفاعل بريء بين ابن و"أم بديلة"، يواجه الحقيقة المؤلمة حين تتكشف العلاقة الحقيقية بينهما. الرواية تصعد وتيرتها الدرامية بشكل مذهل، متضمنة تعقيدات الحب والعاطفة داخل أسرة عمالية بسيطة. وفي إحدى اللحظات الحاسمة، يصرّح الأب بجملة تلخص جوهر القصة: "الجميع يخدع الجميع". إنها ليست مجرد حكاية حب، بل تحوّلت إلى مأساة إنسانية عميقة تحمل في طياتها ألغاز النفس البشرية وآلامها العاطفية.

تظهر في السياق لاحقًا شخصيتان بارزتان من أسرة الأب، حيث تنقسم الصفات بينهما بشكل واضح؛ الأولى تُعرف بملامحها القبيحة التي قد تلفت النظر سلبًا للوهلة الأولى، لكنها تحمل في داخلها نقاءً أخلاقيًا وروحًا طيبة مليئة بالحب والحنان. أما الأخت الثانية، فهي ذات جمال ساحر ومظهر جذاب يفرض تميزها بين الجميع، مما يدفع شقيقها "كنوت" إلى محبتها حبًا يتأسس بشكل أساسي على جاذبيتها الخارجية دون الغوص في أعماق شخصيتها. يعرض المؤلف بدقة استثنائية هذا التشابك العاطفي الذي يحيط بالعائلة، ويمزج ببراعة بين تناقضات المشاعر الإنسانية ليعكس مدى التعقيد الذي يتخلل العلاقات البشرية، خاصة حين تتداخل العواطف مع الانحيازات السطحية.

أما بالنسبة لـ "بنكت"، فهو شخصية واعية تمامًا بجوهر التفاعل الإنساني المليء بالخداع والمراوغة. يعود بذاكرته إلى ماضي الطفولة ليعبر عن الصدمة التي تمثلت في اكتشافه لخيانة والدته سابقًا لوالده، مما ترك أثرًا عميقًا في نفسه. ومع ذلك، يُظهر النص بوضوح أنه صار الآن جزءًا من هذه الحلقة المفرغة من الخداع، حيث يعيش صراعًا داخليًا مريرًا يجسد معاناته المستمرة. ومع تفاقم هذا الوضع النفسي المعقد، نجده يسعى جاهدًا للبحث عن مخرج ينقذه من تلك الدوامة ويعيد له استقرار حياته بأي وسيلة ممكنة.


محاولة الانتحار كتطهير روح وبداية جديدة

بعد سنوات من الصراع النفسي العميق والمعاناة التي أثقلت كاهله، يصل "بنكت" إلى قرار مأساوي بالانتحار، وهو اختيار يعتقد أنه سيحرره من أعباء الرغبات المكبوتة والغضب الداخلي الذي يكمن في نفسه. يحدد له تلك اللحظة الحاسمة ليلة شهر العسل لوالده، وهي مناسبة تحمل دلالات رمزية متمثلة في فوضى العلاقات المعقدة التي يعيشها مع أسرته. ومع ذلك، تتعرض محاولة الانتحار للفشل بسبب حادثة غير متوقعة، بسيطة لكنها تحمل أثرًا كبيرًا فتشتت انتباهه في آخر لحظة حاسمة. لم يكن في وسع أفراد عائلته أن يدركوا عمق الألم الذي يعانيه أو أن يلاحظوا العلامات التي كانت تكشف عن أفكاره تلك. تنتهي اللحظة المؤلمة بجرح بسيط لا يرقى للخطورة الجسدية، لكنه يحمل معنى أعمق بالنسبة لـ "بنكت"، إذ يشعر بنوعٍ من الفرح المباغت كون الموت الذي كان يسعى إليه لم يتحقق، مدركًا أنه ما زال في دائرة الحياة.

يمكن النظر إلى تلك المحاولة الفاشلة باعتبارها تجربة "تطهير" نفسي، حيث يرى "بنكت" في فشله نوعًا من العقاب الذي فرضه على ذاته كجزء من عملية استبطان الألم. هذه التجربة تفتح الباب أمام تحول داخلي واضح في حياته، حيث يبدأ فصلًا جديدًا يتمثل في علاقة مكشوفة ومعلنة مع زوجة أبيه، المرأة التي تجسد في نظره صورة الأم البديلة والتي يجد فيها تعويضًا عن الفراغ العاطفي الذي تركته وفاة والدته. هذه العلاقة التي كانت في السابق سرية تتحول الآن إلى اختيار واعٍ يعكس قبولًا وتحديًا للنظم الأخلاقية المعقدة في سياق الأسرة المفككة.

الرواية كصدى لسيرة حياة ستيغ داغرمان الشخصية

تتطابق قصة "بنكت" بشكل مدهش مع بعض جوانب السيرة الذاتية للأديب ستيغ داغرمان، حيث تعكس الرواية تفاصيل معاناة شبيهة بتلك التي كان يعيشها الكاتب ذاته. داغرمان كان شخصية مثقلة بأزمات الندم ولوم الذات، وأدت به تلك المشاعر إلى محاولة الانتحار المتكررة بحثًا عن نهاية لفوضى عاطفية اجتاحته. من خلال سيرته الذاتية، يتضح أنه رغم ارتباطه العاطفي العميق بزوجته آنه ماريا ووجود حب مشترك يجمع بينهما، فقد شكلت علاقته الملتبسة مع زوجة والد زوجته بعدًا إضافيًا بالغ التعقيد، وهي علاقة شائكة حملت أبعادًا مشابهة لتلك التي نراها في الرواية.

تكشف رواية "الطفل المكتوي بالنار" عن حقيقة مريرة تتجلى فيها صور العائلات المفككة وعوالم الأطفال الذين يعانون من تبعات الانفصال بين الوالدين. تصوير شخصية الطفل "بنكت" يُبرز حجم الأثر النفسي العميق لهذه الظروف على مراحل تطوره. فبينما يسعى للبحث عن الراحة النفسية عقب صدمته بوفاة والدته، يجد نفسه محاصرًا بمشاعر الوحدة القاسية واللامبالاة المزعجة التي يبديها الآخرون تجاه معاناته الشخصية، ما يعمق رغبته في فهم ذاته والبحث عن معنى يتجاوز آلامه. هذه الرواية تقدم صورة مُركبة للمشاعر الإنسانية المتصارعة داخل السياقات الأسرية المعقدة والمضطربة.


الكتابة كعزاء ورمزية العنوان

يجد "بنكت" في كتابة الرسائل لنفسه ملاذًا يلجأ إليه وسط دوامة حياته المضطربة والمشحونة بالعزلة والمعاناة الداخلية. من خلال هذه الرسائل، يسعى إلى تقديم المواساة لنفسه والتعبير عن مشاعره التي يصعب الإفصاح عنها بشكل مباشر. لقد نشأ "بنكت" متأثرًا بنصيحة والدته التي أخبرته أن الكتابة الذاتية تُعد علاجًا نفسيًا يُخفف من وطأة الحزن والقلق العميق. كانت تقول له إن كتابة أي رسالة تجعل الهموم وكأنها تتلاشى فور الانتهاء منها، مما يُعطي الشخص فرصة للتصالح مع ذاته بشكل أعمق.

النص الروائي يحمل بين ثناياه أزمة الانتحار وموضوع "زنا المحارم" كتجسيد رمزي لمعاناة بطل الرواية، وتتحول هذه العناصر إلى أدوات للشفاء والتحرر من قيود الصدمات النفسية التي تكبل "بنكت". واستطاع من خلالها تجاوز الصحراء النفسية القاحلة التي جمّدته في حالة اللاشعور، كما يعترف بذلك في سرده الداخلي. اختارت الرواية عنوان "الطفل المكتوي بالنار"، حيث يحمل ذلك دلالة عميقة على تجربة الطفولة المليئة بالبراءة والسعي لإدراك الحقيقة. مشهد احتراق يدي "بنكت" وهو طفل يتكرر في ذكرياته ويُبرز تعبيرًا رمزيًا عن الألم والحقيقة التي يطاردها الطفل بفضول لا حدود له. تجري أحداث الرواية خلال سنة واحدة، ويُعتبر الشتاء فيها رمزًا للإثارة والانفجار العاطفي الكامن في النص.

يمثل أدب داغرمان انعكاسًا واضحًا لصراعات الإنسان داخل أروقة الذات وتأثير العوامل الخارجية الحادة على التوازن النفسي والعاطفي. يظهر هذا بوضوح في الطريقة التي تتميز بها أعماله بتناول قضايا إنسانية معقدة بأسلوب يُحرك القلوب بصدق.

الوصية الأخيرة: صورة مُكثفة للقلق الوجودي

تُجسد القصيدة "الوصية الأخيرة" واحدًا من أكثر التعبيرات الأدبية المُفعمة بالمشاعر والأفكار العميقة حول القلق الذي ملأ كيانه في سنوات حياته الأخيرة. النص يُجسد مواجهة مباشرة مع غياب المعنى والفراغ الذي بات يشكل محركًا أساسيًا لتأملاته بشأن وجود الإنسان وهدفه في الحياة. على الرغم من أن داغرمان رحل عن العالم في سن مبكرة، إلا أنه تمكن من الوصول إلى حالة من الإدراك الفلسفي العميق حول محدودية الزمن وتعقيد المفهوم الإنساني للوجود.

تميزت القصيدة بلغتها الواضحة والمباشرة التي استطاعت أن تُحاكي إحساس القارئ بالعزلة والوحدة، وهما موضوعان محوريان يتكرر تناولهما في نصوصه الأدبية الأخرى. يمكن اعتبار "الوصية الأخيرة" بمثابة رسالة مُوجّهة ليست فقط لأجياله، بل للعالم أجمع، حيث يضع بين يدينا فهمًا مُضنيًا للألم البشري ومحدودية قدرته على التغلب عليه. يظهر هذا النص كوسيلة لتوثيق رحلة فكرية وإنسانية لمسيرة شاقة، تتحدث عما عجزت عبارات الحياة اليومية عن نقله بشكل كامل.

دلالات القصيدة وتأثيرها

"الوصية الأخيرة" تُعد شهادة على قدرة داغرمان على التعبير عن المشاعر الأكثر تعقيدًا وإيلامًا بأقل الكلمات الممكنة. إنها ليست مجرد قصيدة عن اليأس، بل هي أيضًا تأمل في طبيعة الوجود البشري وحدود الفهم. يُنظر إليها غالبًا كواحدة من القصائد التي تُجسد جوهر الأدب السويدي في فترة ما بعد الحرب، والذي اتسم بالكثير من التساؤلات الوجودية والتعبير عن القلق.

على الرغم من أنها قد تكون مؤلمة في محتواها، إلا أنها تُقدم نافذة فريدة على عقل ستيغ داغرمان، وتُوضح لماذا لا يزال يُعتبر واحدًا من أهم الكتاب السويديين في القرن العشرين.

نص قصيدة ستيغ داغرمان القصيرة والمؤثرة "الوصية الأخيرة" (بالسويدية:"Det sista ordet"). هذه القصيدة تُعتبر من أعماله المميزة التي تعكس قلقه الوجودي العميق:

الوصية الأخيرة

Det sista ordet

Jag har skrivit färdigt.
Böckerna brinner i elden.
Jag har rest mig upp och går ut i natten.
Där är det alldeles tomt.
Och nu är jag död.

ترجمتها إلى العربية:

الوصية الأخيرة

لقد انتهيت من الكتابة.
الكتب تحترق في النار.
لقد نهضتُ وخرجتُ خلال الليل.
هناك فراغ مطلق.
والآن أنا ميت.

هذه القصيدة، على الرغم من قصرها الشديد، تحمل دلالات عميقة حول اليأس، النهاية، والشعور بالفراغ الذي لازَم داغرمان في أواخر حياته.



#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)       Hamid_Koorachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غرفة المراقبة
- يوميات السرطان: صرخة من الألم إلى الأمل
- هل الإيرانيون يكرهون العرب؟
- لماذا لم تنهار الصين مثل الاتحاد السوفييتي؟
- مم تخاف الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟
- مهاجرون غدت الدنيا لهم جزيرة العذاب
- حين يترشح متهمون بجرائم الحرب لجائزة السلام
- مراجعة نقدية لمقال -أي شرق أوسط جديد يخدم مصالح شعوب المنطقة ...
- الأوليغارشيا الروسية في التسعينيات: طبقة مستحدثة أم امتداد ل ...
- الرسائل المطوية في خطاب -النصر- للمرشد الأعلى خامنئي
- وجه الحرب الحقيقي: دعوة إلى الصمت والتأمل
- الاقتصاد السوفيتي: نموذج فريد يتجاوز التصنيفات التقليدية
- مثقفات ايرانيات والصراع بين الكوجيتو والوحدة في زمن الحداثة، ...
- الهولوكوست الجديد لنتنياهو: من الإبادة الجماعية المباشرة في ...
- كيف ينبغي أن يكون موقف الحزب الشيوعي والشيوعيين من الأدب وال ...
- إرث رضا شاه: لوحة معقدة من التناقضات
- عنف لم نألفه في لوس أنجلوس
- هل الإعلام مرآة للواقع أم أداة لتشكيله؟
- أسباب الفظائع وتجريد الإنسان من إنسانيته
- كيف يحتفل القوميون بانتصار الحقبة السوفيتية التي يمقتونها؟


المزيد.....




- لجنة الشهداء ترفض قائمة السفراء: أسماء بعثية ومحسوبية تهدد ن ...
- رحيل الممثل المصري لطفي لبيب عن عمر ناهز 78 عاما
- تحوّلات مذهلة لفنان حيّرت مستخدمي الإنترنت.. وCNN تكشف ما ور ...
- مدير مهرجان أفينيون يشرح أسباب اختيار اللغة العربية كضيفة شر ...
- عنوان: مهرجان أفينيون يحتفي باللغة العربية بالشعر والرقص
- اكتشاف بصمة يد تعود إلى 4 آلاف عام على قطعة جنائزية مصرية
- -عائلة فوكر تتوسع-.. الإعلان عن موعد عرض الجزء الرابع من فيل ...
- الهادي آدم.. الشاعر السوداني الذي كتب لفلسطين و غنت له أم كل ...
- -صاحب البهجة-.. وفاة الفنان المصري الشهير لطفي لبيب
- منهم أحمد زايد والفلسطيني سليمان منصور.. مصر تعلن الفائزين ب ...


المزيد.....

- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كوره جي - ستيغ داغرمان: شاعر القلق وساعي النجاة