|
من الغزل إلى الالتزام: الحبيبة كقناع للوطن والفكر: في قصيدة -وهل غيرها أنهكتْني- للشاعر القدير جواد غلوم
سهيل الزهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 20:12
المحور:
الادب والفن
المقدمة تُعدّ قصيدة الشاعر جواد غلوم «وهل غيرها أنهكتني؟» نصًّا شعريًّا يتجاوز الغزل التقليدي ليقدّم الحبيبة بوصفها رمزًا مركّبًا يتداخل فيه الوجدان مع الفكر والوطن. تنبثق أهمية النص من كونه يعكس تجربة شاعرٍ عاش المنفى وعاد إلى وطنه محمّلًا بمشروعٍ فكري ونضالي، ما أضفى على قصيدته بعدًا مركّبًا يجمع بين العاطفة الفردية والالتزام الجمعي. ورغم حضور دراسات حول شعر الحداثة العراقية، يبقى النص مفتوحًا على قراءة متعددة المناهج تبرز تداخل بنيته الإيقاعية والدلالية مع أبعاده النفسية والوطنية. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة متكاملة للقصيدة من خلال خمسة محاور أساسية: تفسير العنوان، تحليل الأبيات، الكشف عن الاستعارات والانزياحات الدلالية، ثم تطبيق مناهج التحليل البنيوي والسيميائي والنفسي والوطني–الفكري، وصولًا إلى خاتمة تستخلص دلالات النص وراهنيته في المشهد الشعري المعاصر. تحاليل عنوان القصيدة والأبيات دلالة العنوان ووظائفه الجمالية والدلالية «وهل غيرها أنهكتني؟» العنوان كمفتاح بنائي يشكّل العنوان «وهل غيرها أنهكتني؟» مفتاحًا نصيًا ذا وظيفة إغرائية وتأويلية في آن. فهو صيغة استفهام لا تبحث عن جواب بقدر ما تُنتج التباسًا. «هل» أداة تفتح الاحتمال، و«غيرها» لفظة مبهمة تترك المرجعية معلّقة: أهي امرأة بعينها؟ فكرة كبرى؟ الوطن؟ أم المرجعية المدنية التي ينتمي إليها الشاعر؟ أما الفعل «أنهكتني» فيحمل ثِقَل الزمن المستمر، بما يوحي بأننا إزاء تجربة تراكمية لا لحظة عابرة. بذلك، يضع العنوان القارئ أمام سؤال وجودي/التزامي: ما مصدر هذا الإنهاك الذي ينفذ إلى عمق الذات؟ ومن هنا ينطلق النص لتفكيك الإجابة عبر الأبيات. المعلّمة كرمز منذ البيت الأول: «مُعلّمَتي لا تُحبّ اللقاء إذا ما استُطاب وجاز حدوده» ينزاح النص عن المعجم الغزلي المألوف، ليمنح الحبيبة صفةً تربوية/معرفية. المعلم ليس كائنًا عاطفيًا، بل مرجع يضع شروطًا صارمة للوصال. هذا التحويل من الحسي إلى الفكري يُعيد تشكيل العلاقة: فالحب هنا ليس مجرّد رغبة جسدية، بل التزام تجاه سلطة معرفية أو وطنية. ويتأكد هذا المعنى لاحقًا حين يقول الشاعر: «تعلّمت منك جمال الرويّ» و«تحبّ الكتاب وما يحتوي»، وهي إشارات تُنزِل الحبيبة منزلة المشروع الثقافي أو الوطني. الشوق كاختبار والإنهاك كحصيلة في الأبيات التالية: «بُليتُ بوجدٍ عسير المنال وفاتنةٍ في هواها عنيدة»، يبرز الشوق لا بوصفه متعة، بل ابتلاءً عسيرًا. الحبيبة/الفكرة فاتنة لكنها عنيدة، لا تمنح نفسها بسهولة، بل تجعل من طول العذاب شرطًا. وحين يعلن الشاعر: «عجزتُ وهُنتُ وهُدّت قواي»، يصبح الإنهاك المحوري في العنوان نتيجة منطقية، تجسّد تصدّع الذات أمام مشروع/حب لا يتحقق. ومع ذلك لا يستسلم لليأس، بل يسائل: «أمِن مسعفٍ في مساعٍ حميدة؟»، فيربط النجدة بمعيار أخلاقي يرفض المساومة والانتهازية. الحب كحرب ذروة التصعيد الدلالي تأتي مع: «هو الحبّ حربٌ ولا تنطفي وتضعف فيها العقول الرشيدة». هنا يرفع الشاعر الحب إلى مستوى الصراع الوجودي، حيث ينهك حتى «العقول الرشيدة» أي المتزنة. إنها صورة قريبة من تجربة الالتزام السياسي: فالنضال، مثل الحبّ، حرب طويلة تستنزف الطاقات وتضع العقل في مواجهة فتنةٍ تتجاوز قدرته على التحليل. وبهذا يتداخل الغزل مع الالتزام، فيتحوّل النص إلى مرآة لمعاناة المثقف الذي يعيش بين الحلم والخذلان. الحبيبة كمنبع للكتابة في الوحدة الثالثة، تتحول الحبيبة إلى ركيزة نصية: «قريضي تهاوى فصرتِ عموده». هنا لا تكون موضوعًا للقصيدة فحسب، بل بنيتها الداخلية التي تسندها. إنها مصدر الإلهام واللغة، ما يجعلها أقرب إلى رمز للفكر أو الوطن الذي يمنح الشاعر شرعية القول. كونها «تحب الكتاب وما يحتوي» يرسّخ هذه الرمزية الثقافية، ويبعد النص عن الغزل الجسدي التقليدي. الولادة من الألم «ترعْرتِ فيّ غرامًا بكى… نموتِ جنينًا وكنتِ الوليدة». هذه الصورة المركبة تُجسّد الحبّ/الفكرة كوليد لآلام الشاعر. الفعل «ترعّرت» يحمِل دلالة النموّ العضوي، لكن النمو هنا مرتبط بالبكاء لا بالفرح، أي أن الفكرة أو الوطن وُلد من رحم المعاناة والتضحية. ومن ثمّ تأتي مرارة الشاعر حين يواجه ولاءات الحبيبة المتعددة: «وأكره فيك الصدود العسير ولاءاتك المكثرات العتيدة». إنها إشارة إلى انقسام سياسي أو تبعية تيارات متعددة، تجعل المرجعية غير نقية، وتضاعف الإنهاك. النداء البراغماتي في الوحدة الأخيرة، يعلن الشاعر: «فإني المشوق بلا مطمع… أشيري إليّ تعال اقترب». يتجلّى هنا موقف أخلاقي صافٍ: حبّ بلا مصلحة، انتماء لا يطلب مكافأة. لكنه في الوقت نفسه يرفض أن يظل حلمًا معلّقًا: «إن كان حلمًا فلا، لن أريده». إنها لحظة مواجهة بين الوهم والفعل، بين الشعر والحياة. القصيدة نفسها تصبح ملاذًا حين يقول: «وإن باعدتنا دروب الحياة فقد ننزوي غفلةً في قصيدة». الشعر هنا وطن بديل حين يتعذّر اللقاء في الواقع. الخلاصة يتضح أن العنوان «وهل غيرها أنهكتني؟» ليس مجرد عتبة جمالية، بل بوصلة تفسيريّة تقود القراءة. فالإنهاك الذي يسائل عنه الشاعر يتوزّع بين الشخصي والرمزي: هو إنهاك الحبّ المستحيل، وإنهاك الانتماء السياسي الذي يرهق دون أن يمنح تحققًا. وتظهر الحبيبة كرمز متعدّد: امرأة، معلمة، وطن، فكرة، مرجعية حزبية، وكلها تتقاطع لتشكّل بنية مركّبة. من هنا يمكن القول إن القصيدة تجسّد انتقالًا من الغزل إلى الالتزام، ومن الشوق الفردي إلى مأزق المثقف أمام وطنه وفكرته. ولعل قوة النص تكمن في أنه لا يحسم المرجعية، بل يتركها مفتوحة، بحيث يشارك القارئ في استكمال المعنى الاستعارات والانزياحات الدلالية في قصيدة "وهل غيرها أنهكتني؟ تتميز هذه القصيدة بغنى الاستعارات والانزياحات الدلالية، التي تتجاوز المعنى المباشر لتعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والحبيبة بشكل رمزي مركب. هذه التقنيات لا تعمل كزخارف لغوية فحسب، بل تمثل أدوات فنية تخلق طبقات متعددة من المعنى، تتجاوز الغزل التقليدي لتلامس الفكر والسياسة والهوية الوطنية والمدنية. في مستوى الاستعارات المركزية، يبرز استخدام صورة المعلّمة، التي لا تدل فقط على المرأة التي تعلّم، بل ترمز إلى جهة فكرية أو وطنية أو مدنية توجه الشاعر، تحدد شروط اللقاء، وتضع ضوابط للعلاقة المعرفية والعاطفية على حد سواء. كما أن عبارة "الحب حرب" تمثل توترًا داخليًا بين الرغبة والالتزام، بين الشاعر وموضوعه الرمزي، حيث يصبح الحب معركة مستمرة، والارتباط علامة على صراع معرفي وفكري، يعكس تجربة الانتماء الوطني أو الالتزام بالقضية. رموز أخرى مثل الرحيق والورود تشير إلى لذة الحب، لكنها في الوقت ذاته تعكس تحقق الأهداف أو الاستجابة لمتطلبات الوطن والفكرة. كذلك، فإن القصيدة نفسها كمأوى تتحول إلى وطن بديل أو حضن رمزي يلجأ إليه الشاعر عند مواجهة ألم الاغتراب أو الخذلان، بينما يرمز الطير والسرب إلى وحدة وانفصال في آن، تصوير داخلي لمنفى الشاعر أو انفصاله عن الجماعة السياسية أو الوطنية. أما الانزياح الدلالي فيرتبط بالبنية الكاملة للنص، إذ يخلق تحولًا في المرجعية والهوية المخاطبة. فعلى سبيل المثال، ضمير المخاطبة "أنتِ"، بالرغم من توجيهه إلى الحبيبة، يحمل دلالات وطنية وفكرية، محوّلًا الحبيبة إلى رمز أكبر يمثل الوطن أو القضية أو المشروع المدني. ويتجلى الانزياح أيضًا في البيت "قريضي تهاوى فصرتِ عموده" حيث تصبح الحبيبة عنصرًا داخليًا في إنتاج النص الشعري، فتتجاوز وظيفتها التقليدية كموضوع غزل لتصبح شرطًا لإنتاج المعنى والبنية الفنية للنص. تتجسد كذلك فكرة التعقيد والطبقات في عبارة "أحبك بحرًا من المُلغزات"، حيث يتحول الحب إلى مشروع فكري غامض متعدد الأبعاد، يبتعد عن الرومانسية السطحية ليصبح تجربة معرفية متشابكة. وأخيرًا، يرفع البيت "فإني المشوق بلا مطمع" مستوى الحب من نزعة تملكية إلى موقف التزام وفكر، مؤكدًا أن الحب الحقيقي هنا مرتبط بالتضحية والمسؤولية، لا بالاستحواذ أو الملذات العابرة. من خلال هذه الاستعارات والانزياحات، يتضح أن القصيدة لا تكتفي بالغزل الرمزي، بل تحوّل كل صورة وجدانية إلى إطار للتأمل الفكري والسياسي، حيث تصبح الحبيبة وطنًا ومعرفةً وفكرة، والقصيدة مأوى وتجربة اختبار للالتزام الداخلي للشاعر. هذه الطبقات المتداخلة تؤكد أن النص الشعري في جواد غلوم ليس مجرد فضاء وجداني، بل ساحة رمزية لتجربة الذات بين الرغبة والالتزام، بين الحلم والواقع. التحليل البنيوي والسيميائي والنفسي لقصيدة و البعد الوطني والفكري في قصيدة " وهل غيرها أنهكتني؟" أولًا: التحليل البنيوي في ضوء مقولة رولان بارت (1) القائلة: «الذات لا تُدرك نفسها إلا عبر الآخر، الذي يُعيد تشكيل صورتها»، تقرأ قصيدة جواد غلوم "وهل غيرها أنهكتني؟" كنص يبني هويّة المتكلّم الشعري عبر علاقة انعكاسية مع الحبيبة/الآخر. لا يظل حضور الآخر هنا مجرد ظرف عاطفي أو موضوع غزلي، بل يتحوّل إلى آلية بنيوية مركزية تُعيد تشكيل بنية الذات داخل الخطاب الشعري. ولذلك، تصبح الحبيبة مرآة تُسائل الأنا وتكثّف داخلها تناقضات الانتماء والخذلان: فالهوية لا تُعطى كحقيقة مستقلة، بل تُنتَج لغويًا وإيقاعيًّا كلّما تكرّر النداء واستُعيدت أفعال الرغبة. من منظور بنيوي، تستثمر القصيدة بنية عمودية تقليدية — من حيث الوزن والقافية — كإطار شكلاني يُولّد توتُّرًا داخليًا بين الشكل الكلاسيكي والمضامين الحداثية/الاستبطانية. الوحدة الإيقاعية المتسقة تمنح النص تماسكًا صوتيًا يبدو، ظاهريًا، امتثالًا لقواعد الانضباط الفني؛ لكن هذه الاستمرارية المقطعية تعمل أيضًا كخلفية تخضع لها ديناميكية تصاعدية في الانفعال الشعري: انتقال النص من وصف الحبيبة إلى استبطان الأنا ثم إلى نداء القرب والمناجاة ينبني على منحنى تصاعدي واضح يصل إلى ذروة انفعال لفظي. وفي هذا السياق، يلعب التكرار البنيوي — في صور أفعال مثل «أحبك» و«أريدك» و«تعال» و«اقترب» — دورًا وظيفيًّا يتجاوز التوكيد البلاغي: فهو يؤسس محور الرغبة ويجعل من المسافة الوجدانية بين الأنا والآخر موضوعًا مركزيًا للنص، ومساحة إنتاج للذات الشعرية نفسها. ثانيًا: التحليل السيميائي تنطلق هذه القراءة السيميائية من فرضية أمبرتو إيكو(2) القائلة بأن «كلّ علامة هي شبكة من العلاقات ولا تُفهم إلا داخل نظامها» ، وبناءً عليه تُقرأ العلامات في قصيدة «وهل غيرها أنهكتني؟» ليس كوحدات مستقلة بل كمراكز دلالية تتكوّن وتتحوّل عبر علاقاتها الاقترانية والتقابليّة داخل النسق النصّي. بهذا المنطق، لم تعد المفردة البسيطة علامة ثابتة، بل نقطة التقاء لدوال ودلالات تتداخل لتشكّل حقولًا رمزية متعددة الطبقات. تتكثّف هذه الديناميكية في تحويلات دلالية واضحة: فـ«المعلّمة» لا تكتفي بدلالة المرأة المتعلمة بل تنفتح لتدلّ على مرجعيات مدنية وإيديولوجية — مؤسسات، فكر، ومواقف — تجعل منها علامة نظامية تحدّد موقع الشاعر الفكري والوجداني داخل الحقل النصّي. وتمامًا، تتحول صور «الرحيق» و«الورود» من إشارات لذة حسّية إلى مؤشرات على خصوبة المشروع الوطني أو فشلُه؛ بينما يخضع «الطير» و«السرب» لعملية تحويل دلالي تجعل منهما رمزين للمنفى والتشرذم بدلاً من رموز الحرية الأولى. تؤكد القراءة كذلك أن ضمير المخاطبة «أنتِ» لا يظلّ محصورًا في علاقة خاصة، بل يعلو ليصبح علامة عليا تمثّل الوطن أو الفكرة؛ إذ تجعل سلسلة النداءات («أحبك»، «أريدك»، «تعال») فعل النداء فعل انخراط وانتماء، وتحوّل المخاطَب إلى قناع تشكّلي يفرض شروطه على وعي الشاعر وسلوكه الوجداني–السياسي. لمزيد من الوضوح التطبيقي، تقدم هذه النقاط قراءات مختصرة لمظاهر الانزياح الدلالي في النص: الولادة المؤلمة دلالة على الدلالة، — في «ترعرتِ فيّ غرامًا بكى… نموتِ جنينًا وكنتِ الوليدة» تتحوّل الولادة إلى رمز لتكلفة نشوء الفكرة؛ حضور يولد بثمن آلامي. تعدّد الولاءات — في «وأكره فيك الصدود العسير ولاءاتك المكثرات العتيدة» تُقرأ «الولاءات» كدلائل على تشظّي المرجعية السياسية وضعف الإجماع القصيدة كمأوى/وطن بديل — عبارات مثل «فلمّم شتاتي فإني شريدة» و«فقد ننزوي غفلةً في قصيدة» تحوّل النصّ إلى فضاء إنقاذ رمزي يعيد بناء الذات أمام اغتراب الواقع. الرحيق والورود — «حتى متى قد يغيب الرحيق» تجعل من «الرحيق» مقياسًا لنجاح أو فشل المشروع الجماعي، وتربط الحزن الشخصي بخيبة الأمل العامة. الطير والسرب — التكرار والتحوّل في صور الطيور تبرز تحوّل رمز التحليق إلى مشهد منفى وتشرذم جماعي. ضمير المخاطبة «أنتِ» كعلامة كلية — تكرار نداءات الحب يرفع الضمير إلى مرتبة علامة فاعلة في بناء الهوية النصية والسياسية. في المحصّلة، تعمل السيمياء في القصيدة كآلية لإنتاج معانٍ متراكبة: العلامات تتقاطع لتولد دلالات لا تنحصر في الغزل الفردي، بل تتوسع لتشمل أفقًا وطنيًا–فكريًا واجتماعيًا. ثالثًا: التحليل النفسي تنبني هذه القراءة على فرضية جاك لاكان (3) القائلة بأن «الذات لا تُدرك نفسها إلا عبر الآخر الذي يُعيد تشكيل صورتها». في قصيدة «وهل غيرها أنهكتني؟» تتخذ الحبيبة ــ بوصفها الآخر ــ موقعًا وظيفيًا محوريًا لصياغة هوية المتكلّم الشعري؛ إذ لا تعمل كموضوع غزلي فحسب، بل كمرآة تُعاد عبرها تركيبَاته النفسيّة وتُقاس بها دوافِعه. يكشف الشطر «عجزتُ وهُنتُ وهُدّت قواي» عن مناخ انفعالي يسودُه انهيارٌ داخلي ناجم من صراع متكرر بين اشتياق الذات إلى القرب والوفاء، وبين إدراك استحالة تحقيق هذا القرب في إطار العلاقات الواقعية أو الرمزية. ينتج عن هذا الصراع إحساسٌ مستمرّ بالعجز والاغتراب، بحيث يصبح الآخرُ «المرجع الكبير» الذي تُحدَّدُ به مطالبُ الرغبة وتُستنسَخ عبره صورةُ الذات. في ضوء ذلك، تتحوّل الكتابة إلى عملية إنقاذ نفسي؛ تعمل القصيدة كمأوى رمزي واستعادي، إذ يعيد الشاعر ترتيبَ تقطيعاته الذاتية وترميمَها، مستفيدًا من الفضاء اللغوي لصياغة هويةٍ مؤقتةٍ تقاوم ذوبانَها الناتج عن الخذلان. بناءً على هذا الإطار، يُنصَح بدعم التحليل باقتباساتٍ نصيةٍ توضح التكراراتِ اللغويةِ أو الصورَ الرمزيةَ التي تُثبّتُ فكرةَ «الأنا في مرآة الآخر» وتُبرزُ ديناميكياتِ الانهيارِ وإعادةِ البناءِ داخلَ الخطابِ الشعري. رابعًا: البعد الوطني والفكري في قصيدة "وهل غيرها أنهكتني؟" رابعًا: البعد الوطني–الفكري في ضوء موقع سعيد النقدي ومفهوم السلطة الخطابية عند فوكو يتموضع النص الشعري ضمن أفق دلالي تتقاطع فيه ثنائية الانتماء والسلطة، حيث تُقرأ الحبيبة/الفكرة لا بوصفها استعارة غزلية فحسب، بل كبنية خطابية متشابكة تُنتج الذات وتعيد ترسيم حدود وعيها. ففي ضوء أطروحة إدوارد سعيد (4) حول موقع الناقد الذي «يظلّ في موقع نقدي، حتى تجاه ما يحبّ»، يتبدّى النص وقد انفتح على حقل وجداني–وطني تتخلله غواية الانتماء، إذ تنبض أبيات مثل «فلمّم شتاتي فإني شريدة» و «حتى متى قد يغيب الرحيق» بحنينٍ يتجاوز الفردي ليتمثل في وعد الجماعة بالتحقق والامتلاء. غير أنّ هذا البعد الغنائي لا ينفصل عن مفاعيل السلطة الخطابية بالمعنى الفوكوي (5)، حيث الخطاب ليس مجرّد انعكاسٍ للواقع، بل ممارسة سلطوية تُنتجه من هنا يصبح خطاب الحبيبة/الفكرة جهازًا معرفيًا–سلطويًا يرسم شروط الولاء، ويؤطر أفق التطلعات، ويعيد إنتاج موقع الشاعر داخل الحقل الوطني–المدني. إنّ الرغبة الموجهة نحو الوطن/الفكرة لا تتخذ هيئة نزعة تحريرية صافية، بل تظل محكومة بسلطان المعنى الذي يُقنن حدود الانتماء ويحوّل الحب ذاته إلى صراع دائم لا تخمده الخيبات. وإزاء هذا التشابك، يظل الشاعر في موقع مزدوج: فهو منجذب وجدانيًا إلى الخطاب الذي يعده بالخلاص، لكنه، انسجامًا مع الموقف النقدي الذي يشدد عليه سعيد، يحتفظ بمسافة مساءلة تعيد اختبار صدقية هذا الخطاب. ويتجسد هذا في السؤال الشعري «وهل غيرها أنهكتني؟» الذي لا ينطق بالاعتراف بالخذلان فحسب، بل يفضح كذلك المسافة الفاصلة بين الوعد السياسي–المدني وواقع الإخفاق في تجسيده. وعليه، فإنّ الحبيبة/الفكرة تتشكل كآلية خطابية مزدوجة: فهي في آنٍ واحد قوة جذب تُولّد شهوة الانتماء، وآلية سلطوية تُعيد إنتاج الحقل الوطني وتحدّد موقع الذات داخله الخاتمة تُبرز هذه القراءة أن قصيدة جواد غلوم «وهل غيرها أنهكتني؟» تمثل نصًا مركبًا يجمع بين تفاعلات بنيوية، سيميائية، نفسية ووطنية تعمل على تشكيل هوية المتكلّم وكشف أبعاد تجربته الشعرية. على المستوى البنيوي، يُظهر استخدام الإيقاع والتكرار (مثل «أحبك» و«تعال») دينامية تصاعدية تنظم التوتر العاطفي وتدفع النص نحو لحظة ذروة تجسد الانكسار والحنين. أما من الناحية السيميائية، تتحول المفردات إلى رموز ثقيلة بالمعاني (مثل المعلّمة التي ترمز للفكر والمدنية، والرحيق الذي يستعير الشفاء الوطني، والطير كصورة للمنفى)، وتتداخل هذه الرموز في شبكة دلالية متعددة الطبقات، ما يضفي عمقًا وغزارةً على النص ويطرح مجالًا واسعًا للتأويل. بفضل هذا التشابك، تتجاوز القصيدة حدود النص الغزلي التقليدي لتتحول إلى فضاء تأويلي لا نهائي، يعيد صياغة الهوية وتشكيلها بواسطة مرآة الآخر، مستفيدًا من توظيف اللغة والإيقاع والرموز لطرح أسئلة وجودية ووطنية في آنٍ واحد. ولتعزيز القيمة الأكاديمية لهذه القراءة، يُقترح دعم التحليل باقتباسات نصية محددة، بالإضافة إلى استعراض التحليل التركيبي الذي يحدد مواقع الرموز ضمن بنية الخطاب. كما يمكن فتح المجال لدراسات مقارنة تربط هذا العمل بمشاريع شعرية حداثية عراقية معاصرة، مما يُثري الفهم النقدي ويضع القصيدة ضمن سياقات أدبية أوسع. نص القصيدة وهل غيرها أنهكتْني؟ مُــعــلِــمَــتي لا تُــحــبّ الــلــقــاءَ اذا مــا استــطاب وجــازَ حــدودهْ بليــتُ بِــوجْــدٍ عــسيــر المَــنــالِ وفــاتــنــةٍ فــي هَــواها عَــنــيْــدةْ فلا تشــتهي غـيـر طول العــذاب ومشْــيَــتُــها للــغــرام وئــيْـــــدة عجــزتُ وهُــنْتُ وهُــدّت قــواي أمِنْ مسعِــفٍ في مســاعٍ حميدة؟ هــو الحــبّ حــربٌ ولا تنطفــي وتضعــف فيها العقول الرشيــدة تـعلّمْــت مــنْـك جَــمال الــرويّ وأرشَــدتِــني دائــما ان أزيْــــدَه حبــيــبة قلــبي وعَــقْــلي ســواء قريضي تهاوى فصرتِ عـموده تُــحــبّ الكــتاب ومــا يحــتـوي وتعشق في الصبح ما في الجريدة تـرعْــرتِ فــيّ غَــرامــا بَــكـــى نَـمَــوتِ جنــيــنا وكـنْــتِ الوليدة فإن خفَــتَ اللــحنُ في مسمعــي يــظلّ الفــؤادُ يـغــنّـي نـشــيــده أحبّــك بحْــرا مــن المُــلغِــزات طروحات فِـكْــرٍ ورؤيا سديْــدة وأكـره فـيْــكِ الصدود العَـسيــر ولاءاتِــك المكْــثرات العـتـيــدة فإنــي المــشوق بـلا مَــطْــمَـعٍ بــلا أمَــلٍ ارتجي ان أعــيْــده وحتى متى قد يغـيب الرحيق ويــنأى بعـيدا ليـنسى وروده أشيري إليّ تــعالَ، اقْــتربْ فان المسافات لـيست بعــيدة هــنا مُــلْـتَــقاكَ بحضنٍ خـلا فلمْلمْ شِـتاتي؛ فإنـي شـريـدة فأنــت تـراني بعــقْــلٍ سَــويّ ولـكـنْ بـقُـربِـك أبْـدو بـلـيْــدة وإن بعُــدَ الطيــر عـن سربهِ فـتُــوقعــهُ فـي فخاخ المكيْــدة وان باعَــدتْــنا دروب الحيـاة فقد ننْزوي غَـفْلةً في قصيـدة أريــدك قُـرباً ووقْــع خطــىً إذا كان حلما فلا، لن أريده
جواد غلوم -------------- 1- بارت، رولان. الكتابة في درجة الصفر. ترجمة فؤاد زكريا، دار الشروق، 1986. ص. 21 2- إيكو، أمبرتو. السيمياء وفلسفة اللغة. ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2005. ص. 45 3- لاكان، جاك. التحليل النفسي والفن. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1990. ص. 88 4- سعيد، إدوارد. تمثيلات المثقف. ترجمة فواز طرابلسي، دار الساقي، 1996.ص .14 5-فوكو، ميشيل. السلطة والمعرفة. ترجمة حسن حمادة، دار الفارابي، 2003 ص. 33
#سهيل_الزهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشوق والغياب في رباعية الشاعر القدير يحيى السماوي: قراءة نق
...
-
قالوا: تدلّل! قلتُ: لا! - الشعر كفعل مقاومة أخلاقية دراسة ما
...
-
الألم و العشق والفناء والخلود: مقاربة وطنية وفلسفية لومضة يح
...
-
بين الظلال والنور: قراءة نقدية في قصيدة -لا تكن معتما…- للشا
...
-
ومضة الهوية: صراع الذات والوطن في النص الشعري للشاعر الكبير
...
-
تموز: انبعاث الثورة وانبثاق الحرية من قلب المعاناة، في قصيدة
...
-
حين يضحك الشهيد قبل المقصلة
-
رمزية المرأة وقضية التحرر في قصيدة -العنقاء- للشاعر عبد الست
...
-
من -خبز أمي- إلى -قضبان الضلوع-: قراءة رمزية في ومضة شعرية -
...
-
بين الهبة والسُّلطَة: قراءة في قصيدة -إنّما الدنيا لِمن وَهَ
...
-
عهدي وكلمتي
-
الجندي، الهذيان، والخذلان الكبير قراءة في قصيدة -العمائم- لل
...
-
مواويل عشق للشاعرة: كريمة الحسيني: دراسة نقدية في تكوين الحب
...
-
وطنٌ معلق بين الحب والخذلان قراءة نقدية لقصيدة -حبُّ امتناعٍ
...
-
لوحة المنزل* / للشاعر النرويجي أرنولف أوفيرلاند
-
الصمود والتحدي: قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياس
...
-
قراءات نقدية : دراسة بنيوية ورمزية لقصيدة -مهرجان- للشاعر يح
...
-
*قصيدة العَلْمُ الأَحْمَرُ / الشاعر النرويجي أرنولف أوفيرلان
...
-
الشاعر سيجبيورن اوبستفلدر (1866- 1900) رائد الحداثة في النرو
...
-
مُستيقِظاً في عَتْمَةِ الغَبَشِ
المزيد.....
-
الأنساق الثقافية في الأمثال الشعبية على طاولة بيت الحكمة
-
الفنان صادق جعفر يقيم معرضه الشخصي في مرسمه
-
هل ينجح برلمان سوريا الجديد في اختبار الشرعية والتمثيل؟
-
هل يقترب أدونيس أخيرا من جائزة نوبل؟
-
النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة
-
النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة
-
منتدى الفحيص يحتفي بأم كلثوم في أمسية أرواح في المدينة بمناس
...
-
الطاهر بن عاشور ومشروع النظام الاجتماعي في الإسلام
-
سينما الجائحة.. كيف عكست الأفلام تجربة كورونا على الشاشة؟
-
فتح مقبرة أمنحتب الثالث إحدى أكبر مقابر وادي الملوك أمام الز
...
المزيد.....
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
المزيد.....
|