أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - بشار مرشد - ادعاء الحكمة بلا تجربة… كالجعجعة بلا طحن














المزيد.....

ادعاء الحكمة بلا تجربة… كالجعجعة بلا طحن


بشار مرشد
كاتب وباحث

(Bashar Murshid)


الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 09:51
المحور: القضية الفلسطينية
    


على شواطئ البحر الأبيض المتوسط غربًا، وعلى حدود إفريقيا جنوبًا، وعلى امتداد السهل الساحلي وسلاسل الجبال حتى نهر الأردن شرقًا والليطاني شمالًا، قامت منذ مئات السنين مطاحن القمح. كان أهل القرى والمدن يأتون بحبوبهم، يطحنونها بالعرق والصبر، ثم يعودون برغيف يسند حياتهم.

لكن، وفي غفلة من الزمن الغابر، جاء الغرباء المستجلبون، انتزعوا المطاحن عنوة، وسيطروا عليها واحدة تلو الأخرى، ثم أغلقوها شيئًا فشيئًا، لأن خبزهم كان يصلهم جاهزًا من بلادهم. ولم يُترك لأصحاب الأرض سوى مطحنة واحدة، لكنها بقيت محاصرة، وكل كبيرة وصغيرة بيد هؤلاء الغرباء. وضعوا العراقيل أمام استمرارها، وحاصروا أهلها بالحرمان والعداء، حتى وصل بهم الأمر إلى منع القمح نفسه من الوصول إليها.

ومع ذلك، تمسّك أهل الأرض بآخر خيطٍ للحياة. بحثوا عن طرق ممكنة ومستحيلة أحيانًا لإيصال القمح إلى مطحنتهم، محفوفة بالموت أحيانًا، مقاومين الجوع كما يقاومون السلاح ورائحة الموت التي تهب تارةً تلو الأخرى.

غير أن المطحنة لم تكن وحدها في المشهد. فقد تكاثرت حولها أصوات غريبة، ليست من أهل القرية، ولا حملت قمحًا يومًا من الأيام. نصب هؤلاء بيوتهم الجاهزة على التلال القريبة، وأشعلوا النيران، وملأوا الجو ثرثرةً ثورجية وحكمة زائفة، ونصائح بلا تجارب توهم السامع بأنهم أشهر طهاة الكذب وخبازي المعرفة الكاذبة. ولكن الحقيقة أنهم لم يمتلكوا أي مطحنة، ولم يكن لديهم أدنى خبرة عن الطحن أو العجن أو الخبز، فرحاهم لم تدُر قط، ولم يخرج من تحتها حبة دقيق. فقد اعتادوا على أكل الخبز الجاهز من سارقي المطاحن والحبوب والأحلام. كما اعتادوا على تزوير الحقائق وتجميل المآسي واتهام الآخرين بالخذلان وتبرئة أنفسهم واختلاق الذرائع.

الأغرب أنهم لم يقتربوا من المطحنة يومًا، بل انشغلوا بالحفر خلفها، يبحثون عن آثار قديمة مدفونة في تراب القرية. كل حجر كانوا يستخرجونه باعوه في الخفاء لصاحب المطحنة الكبير، الذي ورثها بالسلاح والسطوة لا بالحق. وهكذا صاروا شركاءه: يمدّونه بتراث الأرض، ويملأون الدنيا صخبًا عن البطولة والصمود، بينما أهل المطحنة الحقيقيون يطحنون قمحهم بالدموع، ويقتسمون فتات الخبز وسط الجوع والعذاب.

لكن ما لا يعرفه المجعجعون – أو يعرفونه ولا يجرؤون على افشاءه – أن أهل القرية، يشعرون بالألم والمرارة، حين يسمعون إشادتهم بالصمود والبطولة وحديث هؤلاء عن أعظم الجهاد والطريق الأقوم للفوز بالجنة، عدا عن طرح النصائح والحكم الزائفة بلا تجارب،وكما اعتادوا على تجميل النكبات، كما ويؤسفهم أن تُكتب أسماءهم في سطور البطولة والتاريخ، بينما لم يحظى أصحاب الجعجعة بشرف المشاركة فعلًا في الطحن، ولم يذوقوا مرارة الجوع ولا معاناة الحصار.

ومن المحزن أيضًا أن أصحاب الثرثرة الزائفة لن يفوزوا بالجنة مع أصحاب الأرض، فجنتهم مختلفة: جنة المال وأرغفة الفينو. وحتى في هذا ينظرون إلى أهل الأرض بعين الحسد تارة وبعين التشفي تارة أخرى. فهم لا يقدّمون قمحًا، ولا يشاركون في الطحن، وإنما يكتفون بالشجب والتعاطف المصطنع، والتشجيع على الاستمرار بالعمل، بينما تستمر فرقعة الحفر والنبش وبيع الذات والتاريخ.

وعندما يهبط الليل ويسكن الضجيج، يعيد هؤلاء خبازي المعرفة الكاذبة انتشارهم من أطراف الأرض أو داخل مدنهم البعيدة، عائدين إلى المطاعم والملاهي، حيث يلوكون خبزهم ويشربون شرابهم، يضحكون بأصوات أعلى من ثرثرتهم. هناك تظهر خبرتهم الحقيقية: تذوق الكافيار، اختيار أزهى الثياب، إبداء الإعجاب بالفن والتجميل، وكل ذلك خلف الكواليس بعيدًا عن الصخب المصطنع، فيما يبقى أصحاب القمح والحبوب أمام مطحنتهم، يبيتون على الرماد، بانتظار يوم جديد من الطحين الممزوج بالمرارة.

وفي النهاية، يتمنى أصحاب الأرض إما أن يسكن هؤلاء المجعجعون، أو أن يساهموا على الأقل بخُبزة من القمح أو قطرة من الماء. فإما أن تفعلوا شيئًا، أو أن تصمتوا؛ فالثرثرة لا تدير رحى، و اظهار التضامن الشخصي المعنوي لا يطعم جائعًا أو يكسو عريانًا.



#بشار__مرشد (هاشتاغ)       Bashar_Murshid#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدولة الحاكمة وحاكم الدولة… من يواجه العواصف؟
- رواية الحق والتاريخ... الأمواج تهدم قصور الرمل
- التحيّز المعرفي... قصة خيالية هادفة
- رب ضارة نافعة...الغطرسة بداية التهاوي
- دول الاقليم بين التبعية... واستراتيجية التحالف
- الدراما العربية وتشويه التاريخ... عندما يتحول الفن إلى أداة ...
- الهجاء المستتر بالمديح… بهرجة وسط الدياجير
- الوعي غربال... بين المجاملة واللباقة والتملق
- حروب الوكالة... من يدفع الثمن في لعبة الأمم؟
- حوار المعالجات الرقمية...الجزء الثامن
- النظرة السطحية للسياسة... سراب لبعض الكتاب والمحللين
- ريشة ابن خلدون الثاقبة… تكشف زيف أقلام التلوين
- الصبر بين الفضيلة والانتظار القسري...مأساة الإنسان أمام الظل ...
- الانتهازية والغطرسة والنفاق... قراءة عبر العصور
- التواصل الاجتماعي كأداة استخباراتية… والوعي المفقود
- حوار المعالجات الرقمية...الجزء السابع
- قبول المذلّة… إقرار بالمزيد
- ندم شاهين ...وتهكّم الممعوط
- حين تتوحد الأعراق... ويتشرذم الأعراب
- الحرية الكَيِّسَة...والحياد الجَري


المزيد.....




- الحكومة السورية تصدر بيانا عن -هتافات مسيئة لمصر ترددت خلال ...
- ترامب: لا أحد يعلم ما يخبئه المستقبل للفلسطينيين.. وإيران ست ...
- ترامب يعلن عن خطة لإنشاء -مجلس السلام-.. شاهد كيف وصفه ومن س ...
- إنهاء حرب غزة والسلام الأبدي والشرق الأوسط الجديد والاتفاقيا ...
- هل يستنزف أصدقاؤك طاقتك؟ ثلاث طرق للتعامل مع الأشخاص السلبيي ...
- ترامب ونتنياهو يتفقان على خطة لإنهاء الحرب في غزة وينتظران م ...
- كوريا الشمالية: لن نتخلى أبدا عن ترسانتنا النووية
- إصابة شخصين جراء هجوم على سفينة شحن قرب عدن
- سيلفيا ساليس من رمي المطرقة إلى عمدة جنوة إلى غزة
- ميديا بارت: جولة مغن مؤيد لحرب إبادة غزة تثير جدلا في أوروبا ...


المزيد.....

- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني / سعيد مضيه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - بشار مرشد - ادعاء الحكمة بلا تجربة… كالجعجعة بلا طحن