|
إسهام المرأة في الحرف والصنائع بتطوان مطلع القرن العشرين
جمال الدين العمارتي
باحث ومترجم
(Jamal Eddine Laamarti)
الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 02:10
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الحرفة والصنعة لفظتان متقاربتان تكادان تتطابقان في المعنى. فالحرفة مشتقة من حرف يحرف، أي كسب وطلب واحتال، والاحتراف هو الاكتساب، والمحترف هو الصانع؛ أما الصناعة فهي حرفة الصانع وعمله الصنعة، وصَنع الشيء جعله مصنوعا وصنيعا، ورجل صنيع اليدين، أي صانع حاذق. وسنستعمل ههنا المصطلحين بدلالتين مختلفتين، ليحيل مصطلح الصنعة على كل عمل يُحول المواد الأولية فيصيرها سلعا ومنتوجات، ومصطلح الحرفة على الخدمات التي يقدمها الحرفي، فالخراز عندما يحول الجلد إلى حذاء فالأمر يتعلق بصنعة، أما عمل الحمال والسقاء على سبيل المثال، فيتناسب مع لفظ الحرفة. وبمعنى آخر فإن كل صنعة حرفة وليس كل حرفة صنعة. والمعروف بتطوان، أن الاحتراف لا يعد ضَعَة أو تقليلا من شأن الإنسان، بل هو شرف له. ومن الأمثال المتداولة بتطوان في هذا الشأن: "ينتم مال الجدين، وتبقى صنعة اليدين" (ينقضي مال الأجداد، وتستمر صنعة الأيادي). وتطوان من المدن التي انتعشت فيها هذه الصنائع وتطورت، وكانت منتوجاتها في الغالب مطبوعة بطابع فني أصيل، وتصل إلى الرباط وفاس والصويرة والأندلس والمشرق. وقد عاشت الصنائع بمدينة تطوان أوضاعا مشابهة لما كانت عليه في أوروبا القرون الوسطى. لكنها، إذا كانت قد عرفت عصرا ذهبيا في الماضي، ومكنت مزاوليها من العيش الكريم بل ومن الثراء، فأضحت تطوان "أهمَّ مدينة في المغرب وأكثرَها أرستقراطية"، وساهمت في تقوية النسيج الاجتماعي وتعزيز تماسكه، فإن مردودها أضحى في العقد الأول من القرن العشرين ضئيلا جدا، بالكاد يغطي مستلزمات إعادة إنتاج قوة العمل، وبالتالي لا يوفر إمكانية مراكمة الرأسمال، على غرار ما حصل بأوروبا، لتجديد أدوات العمل وتحديثها، وتوسيع الإنتاج، واعتماد الإنتاج المانيفاكتوري بفعل عوامل متعددة يمكن إجمالها في تراجع القدرة الشرائية محليا بسبب توسع رقعة الفقر والعوز بانهيار العملة المغربية، واستفحال الأزمة المالية بفعل تراكم الديون، وتزايد النفقات العسكرية لإخضاع القبائل الثائرة، وانحطاط الفلاحة، وفرض ضرائب متعددة على المنتوجات؛ وبسبب انعدام إمكانية التصدير ، سواء إلى المدن المجاورة أو إلى أوروبا نظرا لانقطاع الطرق واستهداف القوافل ونهبها الناتج عن حصار قبائل جبالة لمدينة تطوان (بني يدر بني حزمر بني معدن ودراس لنجرة) ، وتدهور ميناء مرتين الذي أصبح عاجزا عن استقبال السفن نظرا لما علق بمدخله من رمال وأوحال، بعد أن كان يحتل المرتبة الثانية وطنيا بعد ميناء موكادور؛ وبسبب المنافسة القوية غير المتكافئة مع البضائع الأوروبية الرخيصة الثمن التي غزت الأسواق المغربية بصفة عامة والأسوق التطوانية بصفة خاصة لقربها من مدينة سبتة؛ ناهيك عن الآثار الجلية التي خلفتها حرب تطوان سنة 1859-1860 واحتلال المدينة إلى غاية 1862، واستمرت آثارها جلية على الصنائع رغم تمكنها من استعادة حيويتها جزئيا أواخر القرن؛ إذ تغيرت معالم المدينة وهاجر العديد من الصناع المسلمين واليهود، وتقلص عدد ورشات الصنائع، وهاجر العديد من التجار اليهود، وانخفض عدد سكان المدينة. وعلى الرغم من أن هذه الصنائع أضحت تعيش أوج انحطاطها في العقد الأول من القرن العشرين، فإنها ما انفكت تشكل نشاطا أساسيا بالنسبة للاقتصاد والمجتمع بمدينة تطوان. فقد رفعت التقنيات والمهارات الحرفية قيمة المواد الأولية المتوفرة بالمدينة أو المستجلبة من القبائل المجاورة أو النائية وجعلتها ذات شأن، بعد تحويلها إلى سلع وبضائع ومقومات جاهزة لمختلف الاستعمالات، ووفرت موارد مالية لأطراف متعددة، ومكنت الأهالي نساء ورجالا من مصدر للعيش والكسب بل كانت في بعض الحالات مصدرا للإغناء. وساهمت في تقوية النسيج الاجتماعي وتعزيز تماسكه، كما عززت الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين المدينة والقبائل المجاورة، في إطار من التكامل والاعتماد المتبادل. وظلت دائما منتظمة ومهيكلة وتحت إشراف المخزن. ذلك بأن الحرفيين والصناع كانوا ينتظمون في إطار طوائف حرفية. وهناك أمين لكل حرفة، يترأس طائفته الحرفية، ولا يحظى بهذه المهمة التي تزاول بالمجان، إلا من كانت له تجربة في الصنعة، ومكانة في أوساط الحرفيين، ومقبولا من طرف المؤسسات المسؤولة وخاصة مؤسسة الحِسبة؛ فيتولى مهام تقنية وإدارية، إذ يفيد المحتسب في التعرف على أسرار الحرفة التي تمكنه من مراقبة الأعمال الحرفية، ويقوم طرفا بين فئة الحرفيين ومؤسسة المخزن عن طريق الإشراف على جمع الضرائب والهدايا، إضافة إلى تيسير مراقبة الأسواق، وتمهيد إجراء الأحكام القضائية، والفصل في الخلافات بين الصناع وأرباب العمل أو بين الصناع والزبائن. ومهمة المحتسب هي السهر على ضبط مورد هام من موارد الدخل العام وهو السوق، من خلال النظر في أحوال الأرزاق والأسعار والأسواق والمكاييل والمقاييس، وما يتعلق بذلك من خلافات وخصومات أو بعبارة ابن خلدون، كل ما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وحمل المماطلين على الإنصاف؛ ويعينه القائد، إذ يختار شخصا لهذا المنصب ويقترحه على السلطان الذي يزكيه في غالب الأحيان. وهو يتقاضى راتبا عن مهامه يدفعه له ناظر الأحباس العامة. وكان المحتسب في هذه الفترة هو السيد الحسن حجاج الذي عين في منصبه في 19 يونيو سنة 1904 وتمت إقالته سنة 1906 لعدم أهليته لشغل هذا الوظيف. ولعل هذا ما يفسر إلى حد كبير استشراء الغش والتدليس واستفحالهما في أوساط العديد من الصنائع والحرف في هذه الفترة بالضبط. وقد كان أيامها قدور بن الغازي قائدا على عمالة تطوان، إذ حل بها متقلدا هذه المهمة سنة 1901. ويذكر أبو العباس أحمد الرهوني في كتابه عمدة الراوين في تاريخ تطاوين بأن هذا القائد كان رجلا فاضلا. وقليلة هي الدراسات التي تناولت تاريخ الحرف والصنائع بالمغرب على العموم وبتطوان على الخصوص، ومنعدمة هي الدراسات التي تناولت تاريخ الحرف والصنائع بصيغة المؤنث بتطوان، علما بأن للمرأة بتطوان حضورا قويا ومتألقا ضمن هذه الصنائع بل من الصنائع ما كان حكرا على النساء.، بل والأدهى من ذلك أن هناك من يعتبر بأن الصنائع التي كانت تزاولها النساء بتطوان كانت ستندثر منذ مدة طويلة لولا أنهن يزاولنها ليشغلن بها أنفسهن في أوقات الفراغ. لذا نروم ههنا إبراز وتثمين الصنائع التي أتقنتها المرأة بتطوان وجعلت من العنصر النسوي فاعلا ثقافيا بالمعنى الأنثروبولوجي وفاعلا اقتصاديا في مرحلة دقيقة من تاريخ بلدنا؛ اعتمادا على كتابات رحالة أوروبيين زاروا المغرب مثل أوغست مولييراس في كتابه المغرب المجهول وعلى الخصوص مونوغرافية ألكسندر جولي الموسومة ب الحرف والصنائع بتطوان خلال العقد الأول من القرن العشرين والتي يعتبرها الكثير من الباحثين من أفضل ما كتب عن الحرف والصنائع بتطاون. I. صنائــع النسيــج والملبوســات وتشمل صنائعُ النسيج الغزل والحياكة والخياطة. الغزل أو "تغزالت": وصنعة الغزل هي التي تمد الحاكة بخيوط الصوف والقطن والكتان لنسجها. وتتولى النساء والنساء فقط مسلمات ويهوديات غزل الصوف في إطار عائلي بوسائل بدائية جدا. فيشترين الصوف من أسواق الأربعاء والجمعة والأحد بالفدان جُزافا أو بالوزن أو بالجلد، ثم يقمن بتصبينها وتبييضها: فإذا كان الأمر يتعلق بصوف فوق الجلد، يسكب فوقها ماء ساخن ممزوج بأوراق نبات يدعى "تغيغيت" (نبتة السيلينة) بعد أن تكون قد دقت بالجرن، فتغسل الصوف وكذلك جلدها بهذا الماء بعناية ، ثم تخبط بقضيب يدعى "مخبط"، وتجفف، ثم تغسل ثانية: يسكب فوق الجلد من جهة الصوف خليطٌ من الماء البارد والجير والرماد يدعى قلاطة، ويترك على هذه الحال أربعا وعشرين ساعة ليحقق الخليط مفعوله، بعد ذلك يصبح من اليسير نزع الصوف بقبضة اليد، فتغسل الصوف بالماء البارد، ثم توضع فوق أداة تشبه قفصا نصف أسطواني مصنوعة من ألواح خشبية رقيقة أو قصب تدعى "كبراتة"، لكي تَبيضَّ من خلال تعريضها إلى بخار الكبريت الذي يرش فوق الجمر، ثم تغسل الصوف مرة أخرى وتجفف تحت أشعة الشمس. أما الصوف التي اشتريت مجزوزة جُزافا فإنها تغسل بالماء الساخن الممزوج ب "تغيغيت" داخل آنية من نحاس تدعى "طاسة" أو من حديد أو تنك تدعى "قزديرة"، ثم تغسل بالماء الجاري، إما داخل بركة (خاصةً في بركة صغيرة محاطة بسور صغير، قرب سيدي الطيبي، أسفل المدينة. حيث تتواجد دائما يهوديات أو مسلمات منشغلات بغسل الصوف)، أو بالمنزل داخل صحفة كبيرة من الطين المشوي تستعمل كذلك لعجن الخبز تدعى "معجنة"، ثم أخيرا توضع داخل سلة من قصب تدعى "سُلة" وتغسل بالماء. وفي غالب الأحيان، تسهيلا لعملية التبييض، تخبط الصوف أثناء غسلها بقطعة من حدج تدعى "حداج". وبعد تبييض الصوف وتجفيفها، تنفش ثم تمشط بواسطة لوحتين خشبيتين مليئتين بالمسامير تدعى "قرشال". ويتم الغزل عادة بآلة الغزل التي تدعى في تطوان "نعورة. وبعد غزل الصوف، تلف بواسطة آلة تدعى "أشبو" على شكل كبات تدعى "مدجة" وتعرض في السوق. وغالبية غازلات الصوف بتطوان ريفيات أو من أصل ريفي. وتختلف مردودية العمل كثيرا: فهي في الصيف عندما تكون الأيام طويلة، ثلاثة أضعاف ما تكون عليه في الشتاء. وتستطيع المرأة، في المتوسط، غزل نصف ليبرة (ليبرة تساوي تقريبا نصف كيلو) من الصوف في اليوم عندما يتعلق الأمر بال"غْزل"؛ أما في الشتاء فتحتاج إلى ثلاثة أيام أو أربعة لإنتاج نفس الكمية، ومن أربعة أيام إلى ستة عندما يتعلق الأمر ب "طعامة" أو "قيام". الحياكة كانت الحياكة بتطوان زاهرة منذ تأسيس المدينة، ويعبر عنها ب "تادرازت" ويدعى الحائك "دراز"، وورشة الحياكة "دْراز". وقد كانت توجد بتطوان في الفترة المدروسة 29 ورشة يشغلها 56 رب عمل، يساعدهم في عملهم 40 صانعا و30 متمرنا (متعلم)، وتشتمل على 54 منوالا (مْرمة). وكل الحائكين مسلمون، فلا وجود ليهودي يزاول هذه الصنعة. وسنتوقف عند ما تنجه النساء بمنازلهن: الفوطات الجمع، "فْوط")، وهي مناديل قطنية غنية بخطوط متعددة الألوان، وتستعمل النساء البدويات هذه الفوطات شالا أو برقعا، أو تنورة ومئزرا في الآن نفسه.. وقد كانت فوطات تطوان مشهورة في الماضي لدى الأوروبيين بصلابة نسيجها وصباغتها. لكن يبدو أن الشروع في استخدام صبغات الأنيلين قضى على هذه الصنعة. وحياكة الفوطات من اختصاص النساء، يقمن بها داخل منازلهن، ويستعملن مناويل مشابهة لمناويل الحائكين لكنها أصغر، وتقتصر على صنع الفوطات، وتدعى "مُقطع". وتصنع نساء تطوان بمنازلهن مناديل أرق؛ يصنعنها من القطن الأبيض ويطرزنها على الجنبات بالحرير أو القطن الأزرق أو الأصفر، وتدعى "سبنية" (الجمع، "سباني")، الحرارون والحرارات وحلالو الحرير يمثل حلالو الحرير بالنسبة للحرارين ما تمثله غزالات الصوف بالنسبة للحائكين. وهما حرفتان يمارسهما عمال مختلفون. وهما محدودتان. ولم يكن الأمر كذلك في الماضي عندما كان التطوانيون أغنى، وينفقون الكثير على زينتهم. فقد كان حلالو الحرير والحرارون يشغلون أزيد من ثلاثين أو أربعين محلا في المكان نفسه حيث لا تزال بعض الورشات مشغلة إلى جانب أخرى أضحت مغلقة خاصة بالوسعة وسوق الغْزل، يشتغل الحرارون والحرارات بحزمات خيوط الحرير وخيوط القطن كذلك باستعمال المكوك الذي يدعى "إبْرة"، والمنوال الذي يدعى "مرمة" (الجمع "مرايم"). والقطع التي تصنعها الحرارات بالمنازل بتطوان هي: البريم أو الضفيرة بمختلف أنواعها وتشمل: - "طرسان"، وهو قيطان من حرير، مقطعه رباعي الشكل، ويباع مفتولا. - سْفيفة، وهي ضفيرة مسطحة عريضة وتكون من حرير أو من قطن، وعادة ما تحمل هذه الضفيرة رسوما متنوعة تكون غالبا خلابة. أنواع الأحزمة وتشمل: - مجدول، وهي أحزمة سميكة ذات خيوط مفتولة مشابهة ل "طرسان" من حيث الشكل، لكنها أضخم، وتكون حمراء وخضراء وبيضاء وصفراء...وتستخدم في تعليق الحقائب والخناجر والسيوف، وتكون من حرير أو من قطن. - "حمامل" أو "حمالات وهي عبارة عن زنانير مسطحة من صوف أو قطن، تتكون من حزمات قياطين صغيرة ملونة ورقيقة، تلفها حلقات متباعدة من خيوط مستعرضة، وتجمعها في طرفيها قطع خشبية أو خرق زيتونية الشكل مكسوة بخيوط قطنية. وتروج هذه المنتوجات في القبائل المجاورة حيث تغطي حاجيات الخياطين القرويين. الطرز بالحرير على القماش والطرز بالحرير على القماش صنعة نسائية منزلية، تزاولها حوالي ألف امرأة من ساكنة مسلمة تقدر ب 25000 نسمة. و"المعلْمات" هن اللواتي يضعن تخطيط الطرز (رْشام) بالقلم فوق القماش، ويستعملن لهذه الغاية نماذج جاهزة يمتلكن منها مجموعة كاملة. بعد ذلك تقوم النساء بالطرز بواسطة الإبرة، بالغرزة المنحرفة، فوق دعامة عبارة عن وسادة مطوية على اثنين يضعنها فوق ركبتهن. وكل الطرز التطواني من الصنف العريض غير السميك، وتتكون الزخرفة فقط من أزهار تشكل ورودا تتشابك معها بعض الغصون. والألوان المهيمنة عليها هي الأخضر الباهت، والأخضر الزمردي الزاهي، والأحمر القرمزي، والبنفسجي القاتم المائل إلى الأسود، والأزرق الكحلي. ويستعمل بعض التطوانيين الأغنياء ستارات أو بساطات من قماش مخملي أو حريري مطرز بالذهب أو الفضة. وتستغرق المرأة في طرز ستارة كبيرة (عجار أو تعاجر) من 45 إلى 60 يوما. وترتدي النساء اليهوديات الكثير من الملابس المخملية ذات المظهر الثري المطرزة بنفس الطريقة. الخياطة وصنعة الخياطة مكملة للحياكة، وضرورية لها، فهي التي تستعمل منتوجات الحياكة وتجعلها جاهزة للاستعمال. وتشغل هذه الصنعة من 12 إلى 13 خياطا مسلما ومن 5 إلى 6 خياطين يهود، موزعين على عدة أحياء، غير متمركزين في حي واحد. وهم يخيطون ملابس من صوف أو جوخ تحت الطلب، وتخاط بالصوف أو بالحرير (جلابة، سلهام، تشاميرة، قفطان، جوخة، قفالي (صدرية)، غليلة (معطف)، سروال... وبعض النساء يشتغلن بمنازلهن لحساب الخياطين الذين يزودونهن بالثياب المفصلة، ويتكلفن بالخيط والإبر. وهناك أخريات يخطن ملابس من كتان أو قطن لكي يبعنها لحسابهن الخاص. لكن، بما أنهن لا يستطعن بيعها بأنفسهن، فإنهن يستعن بامرأة عجوز تتواجد بالفدان أو الطرافين أو الغرسة، أو يودعنها لدى أحد تجار الملابس. ويستخلص هؤلاء الوسطاء عمولة على عملهم. II. الصنائع الجلدية صنعة الدباغة وهي حنطة ذكورية بامتياز لكنها توفر المادة الأولية للصنائع الجلدية الأخرى وعليها يتوقف نشاطها، وتوفر جزئيا إحدى المواد الأولية لصنائع النسيج. والدباغة من أهم الصنائع التي ازدهرت بمدينة تطوان. وقد كانت في الماضي من الصنائع التي تغني مزاوليها، على الرغم من أنها كانت مستهجنة بنظر الناس، وذلك نتيجة للرائحة الكريهة المتصلة بهذه الصنعة، فكانت المدابغ تسمى دار الذهب، لظهور الثروة على المتعاطين لهذه الصنعة. وبلغ عدد المدابغ بالمدينة ثمانية سنة 1905. وتقع المدابغ بتطوان عند سفح جبل درسة قرب باب المقابر حيث تكثر السواقي والعيون التي من شأنها تزويد المدابغ بهذه المادة الحيوية، وتتوفر المدابغ على قنوات لجلب المياه نحو الحفر؛ إذ تشتمل المدبغة على حوالي ستين حفرة، تجري داخلها جل عمليات معالجة الجلود، ولها تسميات متعددة تختلف باختلاف العملية التي تجري داخلها: بركة ومجيار ومردمة ومركل وماعون... ويتطلب تسيير مدبغة مقدارا ماليا كبيرا قصد شراء الجلود ومقومات الصنعة. ويمكن التمييز بين صنفين من المدابغ: مدابغ لجلد الماعز والغنم وأخرى لجلد البقر. وتشغل المدبغة (دار الدباغ)، إضافة إلى المعلم الدباغ صاحب المدبغة، حوالي عشرة صناع وعشرة من المتعلمين إضافة إلى متعلمين صغار. وللإشارة فإن كل العاملين في هذه الحنطة مسلمون، فاليهود لم يكونوا يتعاطونها. وتنتج مدبغة جلد الماعز والغنم جلدا يسمى "المعزي" أو "الزِّيوَني " عندما يكون مصبوغا بالأصفر الليموني، والبطانة من جلد الخروف. أما مدابغ جلد البقر فتنتج النعل. والدلال، أي متولي البيع والشراء لغيره، هو الذي يتولى بيع هذه المنتجات في فندق الجلد. وتعتمد الصنعة على مقومات عديدة لتحضير الجلود، طبيعية أو معدنية، جلها محلية وبعضها يجلب من بعض المناطق المغربية، ولا وجود لأية مادة مستوردة من الخارج، باستثناء بعض أدوات الصباغة (أملاح الأنيلين) لصباغة الجلد بالأسود أو الأحمر؛ وهي الشب والملح والجير والدباغ وتكاوت وتحلاوت والمغصوبة ومرغاطة ورجيع الحمام (أو زبل الحمام) والنخالة. والدِّباغ هو المادة الأساسية في الدباغة، ويتمثل في مسحوق قشور البلوط الأخضر. وتكاوت، وقد عرفت في المشرق بالقرظ، هي حبوب نبات تجلب من تافيلالت وتطحن في مطاحن القمح عند أبواب المدينة، قبل استعمالها. وتحلاوت، وهي عجينة رخوة تتكون من تين مجفف مشطور تم سحقه وخبطه بالأرجل وأضيفت إليه كمية كافية من الماء ليحقق تماسكه. والمغصوبة هي قشور الرمان غير الناضج، بعد سحقه وتجفيفه. وتستعمل لصباغة المعزي بالأصفر الليموني. ومرغاطة، وهي مسحوق خشن من أوراق شجيرة السماق التي تنبت بالجبال المجاورة لتطوان. ويجلبها إلى المدينة سكان الجبال بعد جنيها. وهي تباع في حي الدّباغين. ويباع كل ما يفضل عن الدباغة من مواد، وهي الدبغ المستعمل الذي يستعمله صناع الفخار لتسخين أفرانهم، ووبر الماعز الأسود والأبيض والصوف، صنعة الخرازة يمارس الخرازون حرفتهم بتطوان في حي يسمى باسمهم أي حي الخرازين. وهو حي لا دار به للسكنى وكل الدكاكين به متشابهة، وعددهم 207، سبعة منهم يهود، وكل دكان به معلم وصناع ومتعلمين، وغالبا لا يتجاوز عددهم صانعين ومتعلمين اثنين. وينتج الخرازون بلاغي صفراء للرجال وبلاغي حمراء (ريحية) للنساء وبلاغي من النوع الجيد لعلية القوم تدعى "سْريكْسي" وبلاغي خاصة باليهود، وشرابل مطرزة للنساء يلبسنها في المنزل. وتتمثل مادتهم الأولية في المعزي والبطانة والنعل والقنب، ويستعملون صفراء مرارة البقر لصاقا. وتتميز أدوات العمل ببساطتها وجلها يجلب من أوروبا. أما الشرابل فإن الخراز صانع "البلاغي"، يزود النساء بوجه الحذاء المقصوص الذي يكون بألوان مختلفة (بيضاء أو صفراء أو زرقاء باهتة أو خضراء فاتحة) حاملا رسم الطرز لكن دون خياطة فيزخرفنه بتشبيكات زهرية بواسطة خيوط من الحرير الملون أو في بعض الأحيان، بواسطة خيوط من ذهب أو فضة أو خيوط من نحاس مذهب أو مفضض. وتنجز النساء هذا العمل في بيوتهن ثم يسلمن منتوجهن إلى الخراز الذي يركب الحذاء. وتستعمل النساء المثقب والإبرة في طرز الجلد، ويضعن الجلد داخل قابضة-مِلزَمة من خشب مركبة فوق رِجل، وتدعى "طبلة". وتستطيع المرأة طرز زوج خف في اليوم خلال أيام الصيف الطويلة؛ أما خلال الشتاء فيلزمها لذلك يومان. ويشتري التجار الشرابل بالجملة من الخرازين. وتصدر الكثير منها إلى طنجة. وكانت توجد في هذه الفترة 18 امرأة بتطوان يطرزن على الجلد منهن المسلمات واليهوديات، إضافة إلى أربعة رجال يمارسون هذه الصنعة أحدهم يمتلك ورشة ويطرز الجلد بالذهب أو الفضة وتقع ورشته بسوق الغْزل. وهو يشغل معه العديد من النساء بمنازلهن ويصنع: - محفظات النقود ("قزاديم"، المفرد "قزدام") المطرزة بالذهب ومحفظات مطرزة بالحرير - أحزمة النساء الجلدية (تدعى "مضمة" ج مضايم) المطرزة بالذهب أو المطرزة بالحرير؛ - حاملات المصحف (دليل) ؛ وهو يطرز كذلك وسادات من قطيفة تدعى "سطرمية دالقطيفة. وكانت توجد بتطوان معلمة (مْعلمة) تعلم الفتيات الطرز على الجلد دون مقابل لكنها تتقاضى من أرباب العمل الأجر المقابل للعمل الذي أنجزته تلميذاتها. III. صنعة الفخار لا يزاول صنائع الطين المشوي بتطوان إلا المسلمون، وهي تزود البلد بثلاثة أصناف من المنتوجات: 1. أشياء للاستعمال المنزلي، أي مختلف الأواني بكل الأحجام. 2. قطع طينية مزججة ومختلفة الألوان تستعمل في صناعة الفسيفساء، وتكون في بعض الأحيان خلابة، وتزين بها جدران منازل الأثرياء وأرضياتها. 3. قرميد ورخام وآجر. وإذا كانت هذه الصنعة على العموم ذكورية فإن المنطقة تتميز بإسهام المرأة في صنعة الفخار الموجهة نحو إنتاج بعض الأواني المنزلية. هكذا تمارس النساء الجبليات صنعة الفخار في مداشرهن وينتجن على الخصوص "مجمار" (الجمع، "مجامر")، وهو عبارة عن مجمر صغير من الطين المشوي قابل للحمل، يطهى عليه الطعام في كل البيوت العربية وفي الكثير من البيوت اليهودية. وغالبا ما تزخرف هذه المجامر بخطوط تسطر بالجير، أو تُبيض من الخارج، وتكثر هذه العادة خاصة لدى اليهود. ولا يصنع الفخارون المجامر بتطوان، فوحدهن النساء الجبليات يصنعنها بكميات كبيرة، ويبعنها في أسواق الفدان والغرسة والسوق الفوقي. ويستعمل أصغرها لحرق البخور (يسمى بالعربية الفصحى مجمرة (م))، ويعوِّض في البيوت الفقيرة المبخرات النحاسية المثقبة والمنقوشة التي يستعملها الأغنياء. وتصنع النساء اليهوديات كذلك مجامر مماثلة في منازلهن، إذ يقمن بتجفيفها فوق السطوح دون تعريضها للشي، فهي تشوى لذاتها تدريجيا خلال استعمالها في الطهو، ويكون بعضها ضخما، إذ يصل قطرها إلى 30 سنتيمترا، وتستخدم وعاءً للرماد الملتهب الذي يحافظ على الطعام ساخنا من الجمعة بعد مغيب الشمس إلى غداء يوم السبت، لأنه يحرم عليهن إيقاد النار يوم الإسبات. خاتمة: وإذا كان ألكسندر جولي قد خلص في مونوغرافيته إلى أن صنائع تطوان توجد في طور الاحتضار، وأنها مقبلة على الاندثار، فإنها لم تندثر. فالأمر، بتعبير عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستراوس، يتعلق بأنماط معيشية وممارسات وأدوات وتقنيات لم تتمكن التقلبات التاريخية والاقتصادية من محوها، وهي بصمودها تثبت بأنها تمثل شيئا ما يكمن في أعماق فكر وحياة الأفراد، من هنا فإن صنائع تطوان تستحق التثمين باعتبارها تراثا ثقافيا غير مادي يستوجب الصون بوضع تدابير ترمي إلى ضمان استدامته وتحديده وتوثيقه وإجراء البحوث بشأنه والمحافظة عليه وحمايته وتثمينه وتعزيزه وإبرازه ونقله، وإحياء مختلف جوانبه بما يتماشى ومقتضيات "اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي" المعتمدة من اليونسكو، والتي صادق عليها المغرب سنة 2006، ونشرها في الجريدة الرسمية سنه 2009.
#جمال_الدين_العمارتي (هاشتاغ)
Jamal_Eddine_Laamarti#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هَطَلان / غيوم أبولينير
-
طائر القَطْرَس / شارل بودلير
-
أغنية الحلزونين الذاهبين إلى جنازة / جاك بريفير
-
الخريف العليل / غيوم أبولينير
-
أمل / بول إيلوار
-
أوراقُ الخريف المتساقطةُُُُ / جاك بريفير
-
المُغرَمة / بول إيلوار
-
باربارا / جاك بريفير
-
ربيع / بول إيلوار
-
يقين (بول إيلوار)
-
عري الحقيقة / بول إيلوار
-
انحناءة عينيك / بول إيلوار
-
الأمل الأخير / بول فرلين
-
المرآة مروة / جاك بريفير
-
طلعة الهوى المرهفَة المهلِكة (جاك بريفير)
-
حمراء هائلة (جاك بريفير)
-
نافذة مشرعة (بول إيلور)
-
يَذرِف الدمعُ في قلبي (بول فرلين)
-
أنشودة الخريف (بول فرلين)
-
رمال متحركة (جاك بريفير)
المزيد.....
-
الحرب على غزة مباشر.. استمرار الوفيات بالجوع وحماس تفند أكاذ
...
-
مزاعم الهجرة تجبر اليابان على إلغاء برنامج ثقافي مع أفريقيا
...
-
سجال في مجلس الأمن بعد رفض مساعي روسيا والصين لتأجيل العقوبا
...
-
العدوان على الدوحة يُعيد تعريف أمن المنطقة
-
العراق يرفض تهديدات نتنياهو باستهداف أراضيه
-
مجلس الأمن يرفض مشروع قرار روسيًا صينيًا لتأجيل عقوبات إيران
...
-
وول ستريت جورنال: بلير سيتولى منصب الحاكم المؤقت لغزة
-
شاهد..أسباب تفوق النصر على الإتحاد في جدة
-
الخبر السار في رسالة ماكرون لنتنياهو
-
تقارير: توني بلير قد يقود -السلطة الانتقالية الدولية- في غزة
...
المزيد.....
-
كتّب العقائد فى العصر الأموى
/ رحيم فرحان صدام
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
المزيد.....
|