أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض الشرايطي - الأدب والتكنولوجيا: بين انفتاح النص وقلق المستقبل.















المزيد.....



الأدب والتكنولوجيا: بين انفتاح النص وقلق المستقبل.


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 02:09
المحور: قضايا ثقافية
    


المقدّمة: الأدب في زمن التكنولوجيا :

الأدب لم يكن يوما معزولا عن شروطه المادية والتاريخية. فمنذ أن خطّ الإنسان أولى إشاراته على جدار كهف أو على لوح طيني، كان يُطوّع أدواته ليحفظ ذاكرته ويعبر عن وجوده. غير أنّ الثورة التكنولوجية الراهنة قلبت موازين العلاقة بين الأدب والوسيط. نحن لم نعد نتحدث عن أدوات بسيطة كالقلم أو المطبعة، بل عن منظومات ضخمة من الحواسيب، والإنترنت، والخوارزميات، والذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والواقع المعزّز. هذه الأدوات لم تغيّر فقط في طريقة الكتابة والقراءة، بل في طبيعة النص نفسه، في بنيته ومفهومه ووظيفته.
لقد كان اختراع الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ في القرن الخامس عشر بمثابة زلزال ثقافي فتح الباب أمام عصر النهضة والإصلاح الديني وانتشار المعرفة. واليوم نشهد زلزالا آخر أشد وقعا: الأدب ينتقل من الورق إلى الشاشة، ومن النص الثابت إلى النص التفاعلي، ومن الكاتب الفرد إلى الكتابة الجماعية أو حتى الكتابة الآلية. هنا يُطرح السؤال الفلسفي: هل لا يزال الأدب "فنّ الكلمة" الذي يدوّن التجربة الإنسانية العميقة، أم أصبح جزءًا من سوق رقمية ضخمة تحكمها الخوارزميات ومنطق الاستهلاك؟
يقول رولان بارت في مقولته الشهيرة: «موت المؤلف ميلاد القارئ». لكن في زمن التكنولوجيا، ربما صرنا أمام موت جديد: موت الوسيط التقليدي، وبعث النص في فضاء إلكتروني يتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية. وفي المقابل، يذكّرنا فالتر بنيامين في مقاله عن "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه الآلي" بأن التقنية تغيّر ليس فقط شكل العمل الفني بل علاقته بالجمهور. إذا أسقطنا هذا على الأدب، فإن النصوص الرقمية أصبحت تُستهلك كما تُستهلك الأخبار السريعة أو الصور العابرة، ما يهدد قيمتها التأملية.
إذن، نحن أمام لحظة حاسمة: التكنولوجيا ليست مجرد خلفية محايدة، بل قوة فاعلة تعيد تشكيل الأدب في مستوياته كلها: كأداة، كموضوع، وكوجود جديد للنص.

1. الأدب كأداة في حضرة التكنولوجيا .

عبر التاريخ، ظلّت العلاقة بين الأدب ووسائله علاقة جدلية. الوسيط لا ينقل النص فقط، بل يعيد تشكيله. المدوّنة الشفوية التي انتقلت من جيل إلى جيل عبر الحفظ لم تكن هي ذاتها حين تحوّلت إلى نص مكتوب على ورق، ولم تكن هي نفسها بعد الطباعة. واليوم، النص الذي يولد على الشاشة ليس النص ذاته الذي يولد على الورق.
يقول مارشال ماكلوهان: «الوسيط هو الرسالة». أي أن شكل الوسيط يؤثر في المضمون بعمق. القراءة عبر الهاتف أو اللوحة الإلكترونية ليست تجربة بريئة، فهي تقطع النص إلى مقاطع قصيرة، وتفرض إيقاعًا سريعا يتناسب مع التمرير المستمر . هذا ينعكس على أسلوب الكتابة نفسه، حيث يميل الكثير من الكتّاب الشباب إلى الإيجاز والتكثيف واللغة المباشرة، لأنهم يكتبون لجمهور يقرأ بعين متعبة على شاشة صغيرة.
ولعل ما نعيشه اليوم يمكن وصفه بـديمقراطية الأدب: لم يعد النشر حكرا على دور الطباعة الكبرى أو الجوائز الأدبية، بل صار في متناول أي شخص يمتلك حسابا على منصة رقمية. لكن هذه الديمقراطية لها وجهان: وجه إيجابي يحرّر الصوت الفردي ويتيح التعددية، ووجه سلبي يتمثل في طوفان من النصوص السطحية التي تذيب الحدود بين الأدب والإنتاج العابر.
كما يشير بيير بورديو: «كل حقل ثقافي يحتاج إلى قواعد داخلية تميّز القيمة من اللا-قيمة». التكنولوجيا كسرت هذه القواعد، وجعلت كل نص محتملًا للنشر، مهما كانت جودته.
من زاوية أخرى، لا يمكن إنكار أنّ التكنولوجيا أعطت الأدب حياة جديدة: المكتبات الرقمية، الكتب الصوتية، تطبيقات القراءة، كلها فتحت أبوابا لملايين القراء الذين لم يكن لهم وصول إلى الأدب سابقا. إنّها إعادة توزيع للثقافة، على غرار ما فعله الراديو أو التلفزيون في القرن العشرين. ولكن يبقى السؤال: هل القارئ الرقمي يقرأ بنفس العمق الذي كان يقرأ به القارئ الورقي؟

2. الأدب كتجسيد للتكنولوجيا .

التكنولوجيا ليست فقط أداة يستعملها الأدب، بل صارت موضوعا له. الأدب في هذا المستوى يتحوّل إلى مرآة تلتقط القلق الوجودي أمام الآلة، وتطرح أسئلة حول المستقبل والحرية والذاكرة.
رواية "1984" لجورج أورويل أعطت صورة مروّعة لمجتمع تحكمه التكنولوجيا المراقبة، حيث تتحول الشاشة إلى عين لا تنام، تسلب الإنسان خصوصيته وحرّيته. هذه الصورة، رغم أنها كتبت عام 1949، تبدو اليوم أقرب إلى واقعنا مع انتشار الكاميرات الذكية والبيانات الضخمة.
أما فيليب ك. ديك، فقد ذهب أبعد من ذلك في رواياته مثل "هل تحلم الأندرويد بخراف كهربائية؟"، حيث طرح سؤالا وجوديا: ما معنى أن تكون إنسانا في عالم الآلات الذكية؟ هذا السؤال يزداد راهنية مع ظهور الذكاء الاصطناعي الذي يكتب النصوص ويؤلّف الموسيقى ويرسم اللوحات.
في الوطن العربي، نجد مثالا لافتا في رواية "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق، حيث التكنولوجيا لم تعد رمزا للتحرر بل رمزا للتفاوت الطبقي، إذ تعيش طبقة مرفهة في عزلة محصّنة بالتقنيات، فيما يُترك باقي الشعب في فقر مدقع. هنا يصبح الأدب أداة نقدية تكشف الوجه الآخر للتكنولوجيا: بدل أن تكون وعدا بالمساواة، قد تتحوّل إلى جدار يفصل بين الأغنياء والفقراء.
ولعلّ سيمون دي بوفوار حين قالت: «التكنولوجيا قد تحرّر المرأة كما قد تستعبدها» كانت تلخص هذه المفارقة. فالتكنولوجيا ليست خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا، بل هي مجال صراع. والأدب هو الساحة التي يتجلى فيها هذا الصراع رمزيا، حيث يُعاد تخيّل مصير الإنسان أمام الآلة.

3.الأدب كتجربة وجودية والتكنولوجيا كوسيط جديد.

الأدب في جوهره ليس مجرد نص مكتوب ولا تراكم لغوي على الورق، بل هو رحلة وجودية يعيشها الإنسان ليكتشف ذاته والعالم. لقد قال الفيلسوف بول ريكور: "الهوية السردية هي الطريقة التي نصبح بها من نحن". أي أن الإنسان يعرّف نفسه بالقصص التي يرويها عن ذاته. هذه القصص، التي شكّلت منذ البداية أسطورة وشعراً ورواية، كانت دائما رهينة وسائط محدودة: الرق، المخطوط، الورق، ثم الطباعة. لكن مع دخول التكنولوجيا الرقمية، لم يعد الأدب مجرّد انعكاس داخلي على صفحات كتاب، بل صار فضاءً حيًا يتغير مع القارئ نفسه.
في الأدب التفاعلي مثلا، يتجاوز النص بنيته الخطية التقليدية (بداية، وسط، نهاية)، ويصبح أشبه بـ"شبكة" يختار القارئ فيها مساراته. كل قراءة تصنع نصا مختلفا، كل قارئ يخلق حكاية خاصة. هكذا تتحقق نبوءة رولان بارت حين أعلن "موت المؤلف": النص لم يعد ملكا لكاتب واحد، بل صار ملكا لتفاعلات لا تنتهي بين الكاتب والقراء والشاشة.
هذا التحوّل يطرح سؤالا جوهريا: هل بقي الأدب "تجربة وجدانية عميقة" كما كان عند هوميروس أو شكسبير أو نجيب محفوظ، أم صار لعبة لغوية يحكمها الخوارزميات والتفاعل اللحظي؟ الفيلسوف الفرنسي بودريار ينبّهنا إلى أننا دخلنا "عصر المحاكاة"، حيث يغدو من المستحيل أحيانا التمييز بين الحقيقي والافتراضي. إذا كان الأدب في الماضي يبحث عن "جوهر الحقيقة" عبر اللغة، فإن الأدب الرقمي قد يجد نفسه أحيانا أسير "صورة الحقيقة" التي تبثها الشاشات.
لكن، وعلى الضد من هذه المخاوف، وفّرت التكنولوجيا إمكانات غير مسبوقة لتوسيع التجربة الأدبية. فاليوم يمكن للقارئ أن يسمع القصيدة بصوت الشاعر نفسه، أو أن يشاهد الرواية وهي تتحول إلى فيلم تفاعلي، أو أن يعيش النص عبر تقنيات الواقع الافتراضي وكأنه داخل مشهد روائي. هذه التجارب الجديدة لا تلغي الجوهر الوجودي للأدب، بل تُعيد صياغته. وكأننا نعود إلى جذور الحكي الشفوي حين كان السرد تجربة جماعية حية، لكن بوسائط حديثة.
كما أنّ التكنولوجيا أعادت للأدب بعده الكوني. فما كان يحتاج قرونا لينتشر، بات يصل إلى قارئ في آخر العالم في ثوانٍ. قصيدة تونسية قصيرة قد تُترجم آليا إلى الإسبانية أو الصينية وتنتشر عبر منصات رقمية، لتجد قارئا لم يكن ممكنا أن يصل إليها يوما. صحيح أن هذه الترجمة قد تفقد بعض الدقة، لكنها تمنح الأدب "لغة عالمية" لم يعرفها من قبل. وهنا نستحضر قول إدوارد سعيد: "الثقافة لا تُفهم إلا في انتقالها وتفاعلها". والتكنولوجيا جعلت من هذا الانتقال شرطا يوميا لا استثناء.
مع ذلك، يبقى الخطر قائما: أن تتحول التجربة الأدبية إلى استهلاك سريع وسط ثقافة "التمرير" على الهواتف. حين تختزل رواية كاملة في ملخص من دقيقة، أو قصيدة في صورة إنستغرامية، قد نفقد العمق الذي يميز الأدب كفعل تأمل. وهنا نعود إلى فالتر بنيامين الذي حذّر من فقدان "الهالة" الأصلية للعمل الفني مع إعادة إنتاجه الآلي. فالهالة ليست مجرد أصالة النص، بل هي علاقة القارئ الحميمة بالنص، وهذا ما قد يضعف في زمن السرعة الرقمية.
إذن، التكنولوجيا جعلت الأدب في آنٍ واحد أوسع وأكثر ديمقراطية، لكنها أيضا جعلته عرضة للاختزال والتسليع. وبين هذين الحدّين يتأرجح مستقبل الأدب كتجربة وجودية في عصر الشاشات.

4.التكنولوجيا كموضوع للأدب نفسه.

لم تعد التكنولوجيا مجرد وسيط يحمل الأدب، بل صارت هي نفسها موضوعا للأدب، أي مادة للتخييل والتفكير. منذ بدايات القرن العشرين، أدرك الأدباء أن الثورة التقنية ليست مجرد تحسين لحياة الإنسان، بل هي قوة حضارية غامرة قد تحمل خلاصا أو دمارا.
رواية 1984 لـ جورج أورويل جعلت التكنولوجيا رمزًا للرقابة المطلقة: الشاشات تراقب كل حركة، اللغة تُختزل وتُمسخ لتفقد طاقتها التحررية. هنا لم تعد التكنولوجيا أداة محايدة، بل تحوّلت إلى جهاز للهيمنة. في المقابل، العالم الطريف الجديد لـ ألدوس هكسلي كشف الوجه الآخر: التكنولوجيا كأداة متعة زائفة تُبقي الإنسان في غيبوبة لذيذة تمنعه من الثورة. كلا النصّين يبرزان أن التقنية ليست فقط آلات، بل بنية سلطة.
في القرن الحادي والعشرين، استمر هذا المسار في أدب الخيال العلمي والسايبر-بانك. كتاب مثل ويليام جيبسون في روايته Neuromancer رسموا عالما حيث الإنسان والآلة يتداخلان، حيث الوعي نفسه قد يُختَرَق ويُباع ويُشترى. في هذا السياق، لم يعد السؤال "ماذا تفعل التكنولوجيا بالإنسان؟" بل "ماذا يبقى من الإنسان حين يذوب في التكنولوجيا؟".
في الأدب العربي، ورغم محدودية الإنتاج في هذا المجال، نجد محاولات مثيرة. أحمد خالد توفيق في رواياته – خاصة في سلسلة "يوتوبيا" – تخيّل مجتمعا عربيا منقسما بفعل التكنولوجيا والرأسمالية: أقلية مترفة تحيا في عالم افتراضي من المتع، وأغلبية مسحوقة تعيش في الفقر والعنف. هكذا قدّم نقدا مبكرا لعالم الرقمنة والنيوليبرالية في سياق عربي. كذلك نجد عند نبيل فاروق في "ملف المستقبل" تجريبا مبكرا في سرد العلاقة بين الإنسان العربي والعلم، وإن كان في قالب مبسّط.
الشعر أيضا لم يتأخر عن هذا المسار. كثير من شعراء ما بعد الحداثة يوظفون لغة التكنولوجيا: الإنترنت، الأقمار الصناعية، الفيروسات الرقمية، الذكاء الاصطناعي. بل وصل الأمر إلى أن بعض الشعراء يستعينون بالبرمجيات لتوليد النصوص، في ما يسمى "الشعر الخوارزمي". هنا يبرز السؤال الفلسفي العميق: إذا كانت القصيدة تُكتب بلا شاعر، فهل تبقى قصيدة؟ أم أن الشعر جوهره في التجربة الوجدانية للذات البشرية؟ هايدغر يجيب: "جوهر التقنية ليس تقنيا"، أي أن السؤال ليس في الآلة ذاتها، بل في معنى وجود الإنسان في عصر تسيطر عليه التقنية.
إذن، الأدب حين يكتب عن التكنولوجيا لا يصف آلات وبرامج فحسب، بل يكشف عن محنة الإنسان في عالم جديد: الخوف من فقدان الحرية، من الذوبان في محاكاة لا تنتهي، من أن يصير مجرد ترس في آلة ضخمة. لكنه أيضا يفتح آفاقا جديدة: حلم بالخلود عبر الذكاء الاصطناعي، بتوسيع الإدراك عبر الواقع الافتراضي، بخلق هويات بديلة تتجاوز الجسد والمكان.
وبين الخوف والأمل، النقد والحلم، يصبح الأدب مرآة صادقة لصراع الإنسان مع التكنولوجيا، هذا الصراع الذي ليس مجرد مسألة تقنية بل سؤال وجودي، أخلاقي، وجمالي في آنٍ واحد.

5.التكنولوجيا وتحولات القراءة والكتابة .

منذ فجر الكتابة، تغيّرت علاقة الإنسان بالنصوص كلما ظهرت وسيلة جديدة. حين ابتكر الفينيقيون الأبجدية، تحرر النص من الطابع التصويري والرمزي، وصار أداة للتجريد والتوثيق. ومع اختراع غوتنبرغ للطباعة، لم يعد الكتاب حكرًا على النخبة، بل أصبح متاحا لعامة الناس، لتنشأ بذلك ثقافة القراءة الجماعية التي صنعت الحداثة الأوروبية. واليوم، في زمن الإنترنت والشاشات، نشهد ثورة ثالثة قد تكون أكثر جذرية من سابقتيها: تحوّل النصوص من الورق إلى الفضاء الرقمي.
هذا التحول لم يعد مجرّد تغيير وسيلة، بل تغيير في طبيعة النص ذاته. القراءة لم تعد خطية (من الصفحة الأولى إلى الأخيرة) بل أصبحت تشعبية ، حيث يضغط القارئ على رابط فينتقل من نص إلى آخر بلا حدود. وهنا نستحضر مقولة الفيلسوف جاك دريدا: "لا يوجد خارج النص" (Il n’y a pas de hors-texte). في الفضاء الرقمي، يتجسد هذا المعنى حرفيا: كل نص يقود إلى آخر، وكل قراءة تنفتح على شبكة غير منتهية من المعاني.
لكن هذا الانفتاح الهائل يحمل مفارقة: في الوقت الذي صار فيه كل شيء متاحا، أصبح التركيز أصعب. لقد تحدّث الناقد الأمريكي نيكولاس كار في كتابه "الضحالة: ماذا تفعل الإنترنت بأدمغتنا" أن القراءة العميقة التي تحتاج إلى صبر وتأمل قد تراجعت أمام القراءة السريعة المتقطعة. يقول: "ما تفعله الإنترنت هو أنها تجعلنا جيدين جدا في تعدد المهام، لكنها تضعف قدرتنا على التفكير العميق".
غير أن هذه الظاهرة ليست نهاية الأدب، بل هي تحدٍ جديد. الأدب كان دائما يقاوم الزمن، واليوم عليه أن يقاوم زمن السرعة. ربما يخلق هذا أشكالا جديدة من الكتابة تتناسب مع الإيقاع الرقمي، مثل القصص القصيرة جدا أو الشعر الومضي . لكن في الوقت نفسه، هناك مقاومة عبر العودة إلى الروايات الطويلة والقراءات المشتركة عبر نوادي الكتاب الإلكترونية، وكأن القارئ يبحث عن بطء بديل يوازن تسارع الشاشة.
أما الكتابة، فقد انقلبت هي الأخرى رأسا على عقب. لم يعد الكاتب يكتب في عزلة ثم يسلم نصه إلى ناشر. اليوم ينشر الكاتب مسوداته مباشرة على منصات رقمية، يتلقى تعليقات القراء لحظة بلحظة، يتفاوض معهم أحيانا حول النهاية. بهذا المعنى، المؤلف لم يعد سيد النص، بل صار جزء من "مجتمع كتابة" جماعي. وهنا نستعيد قول ميشيل فوكو: "المؤلف ليس من ينتج الخطاب، بل من ينظّم مجموعة من الخطابات". التكنولوجيا جعلت المؤلف أشبه بـ"منسق" أو "وسيط" أكثر منه خالقا منفردا.
ومن زاوية أخرى، هناك سؤال جديد يفرض نفسه: ماذا يحدث حين تكتب الآلة؟ قصائد تولّدها الخوارزميات، مقالات يكتبها الذكاء الاصطناعي، روايات تخرج من برامج حاسوبية. هل هذه نصوص أدبية؟ البعض يرى أن ذلك مجرد "محاكاة" بلا روح. لكن آخرين يرون فيها امتدادا لفكرة التجريب الطليعي التي عرفها الأدب منذ الدادائية والسوريالية: اللعب باللغة، تفجير المعنى، خلق الصدفة. وكأن الآلة هي الوريث الجديد لهذا التراث التجريبي.
وفي النهاية، يبقى السؤال معلقا: هل تغيّرت طبيعة الأدب جوهريا في عصر التكنولوجيا؟ أم أن الإنسان ما زال يبحث، كما قال ت. س. إليوت، عن "نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، بين الكلمة الحية والذاكرة الخفية"؟ ما يتغير هو الوسيط، أما الحاجة إلى الأدب كتجربة وجودية فلا يمكن أن تزول.

6.الأدب والتكنولوجيا بين السلطة والمقاومة .

إذا كانت التكنولوجيا قد منحت الأدب وسائل جديدة للانتشار والتفاعل، فإنها في الوقت نفسه فتحت الباب لهيمنة جديدة. فالشركات العملاقة (غوغل، أمازون، ميتا...) تتحكم اليوم في طرق وصول النصوص إلى القراء. خوارزميات التوصية تحدد أي كتاب يظهر وأي نص يختفي. وهكذا لم تعد سلطة النشر بيد الناشرين التقليديين فقط، بل أصبحت أيضا بيد "الآلة" التي تختار ما تراه مناسبا وفق معايير تجارية.
هذا يذكرنا بما قاله بيير بورديو عن "حقل الإنتاج الثقافي": إن كل نص أدبي يولد داخل شبكة من القوى، بين الاستقلالية الجمالية والضغوط الاقتصادية. واليوم، هذه الضغوط لم تعد مجرد سوق الكتاب، بل أصبحت سوق البيانات. فالقيمة ليست في النص بحد ذاته، بل في "عدد النقرات" و"حجم التفاعل". وهنا يتعرض الأدب لخطر أن يُختزل إلى مجرد "محتوى" في بحر المحتويات.
لكن، وعلى الضفة الأخرى، الأدب يجد في التكنولوجيا أيضا أداة للمقاومة. النصوص الممنوعة في بلد ما يمكن أن تنتشر بسهولة عبر الإنترنت. الشعراء والكتاب في المنافي لم يعودوا معزولين، بل صاروا قادرين على مخاطبة جمهور عالمي. هكذا يتحول الأدب الرقمي إلى شكل من أشكال المنفى الإيجابي الذي يكسر الحدود القومية. نستحضر هنا قول إدوارد سعيد: "المنفى ليس مجرد حالة جغرافية، بل هو حالة وجودية، وهو أيضا امتياز يسمح للكاتب أن يرى العالم من خارجه". التكنولوجيا عززت هذا الامتياز، فصارت المنفى فضاءً افتراضيًا مشتركًا.
من جانب آخر، الأدب الرقمي يعيد التفكير في مفهوم الرقابة. إذا كانت السلطة قديما قادرة على مصادرة الكتب ومنع نشرها، فإن السيطرة اليوم تتم بطرق أكثر خفاء: عبر الخوارزميات، عبر إغراق الفضاء الرقمي بالسطحية، عبر تحويل النقاشات إلى جدل فارغ. وهنا يتجلى ما حذر منه نعوم تشومسكي حين قال: "أسهل وسيلة للتحكم بالناس ليست منعهم من الكلام، بل دفعهم للكلام في قضايا لا معنى لها". الأدب الملتزم يجد نفسه إذن أمام تحدٍ مزدوج: أن يواجه الرقابة الصريحة والرقابة الناعمة معا.
مع ذلك، يظل الأدب قادرا على اختراق هذه المنظومات. القصيدة قد تنتشر كصورة، الرواية قد تتحول إلى نقاش عالمي، مقطع شعري قد يصبح أيقونة في احتجاج سياسي. لقد أثبتت تجارب الثورات العربية أن التكنولوجيا ليست مجرد أداة للهيمنة، بل يمكن أن تكون منصة للتحرر حين يتقاطع الأدب مع الفعل الجماعي. وهذا ما يجعلنا نعود إلى مقولة غرامشي: "التشاؤم بالعقل، التفاؤل بالإرادة". فمهما كانت التكنولوجيا محكومة بمنطق السوق، فإن إرادة الأدب تظل قادرة على اختراقها.
أخيرا، لا بد من التأكيد أن علاقة الأدب بالتكنولوجيا ليست خطا مستقيما، بل هي علاقة جدلية بين السلطة والمقاومة. التكنولوجيا قد تُخضع الأدب لمعايير السوق والسطحية، لكنها في الوقت نفسه تمنحه قوة جديدة للانتشار والتأثير. والأدب، كعادته، سيظل ذلك الكائن العنيد الذي يعرف كيف يحوّل أدوات السيطرة إلى مساحات حرية.

7.التكنولوجيا والإبداع الأدبي بين التحوّل والتمرد.

الأدب في عصر التكنولوجيا لم يعد مجرد حرفة تقليدية، بل أصبح فضاء تجريبيا مفتوحا، حيث يُعاد تعريف الإبداع الأدبي نفسه. الأدب لم يعد يعتمد فقط على اللغة والخيال البشري، بل صار يختبر إمكانيات الوسائط الجديدة: النصوص التفاعلية، الروايات المتشعبة، الألعاب السردية، الواقع الافتراضي، وحتى النصوص المولّدة آليا. هذا التحوّل يضعنا أمام سؤال فلسفي أساسي: هل يبقى الإبداع مرتبطا بالوعي الإنساني، أم أن الإبداع صار ممكنا في فضاء خوارزمي؟
يكتب برنارد شاو: «الإبداع ليس في الفكرة نفسها، بل في الطريقة التي تُعبّر بها». التكنولوجيا اليوم توفر طرقا لم يُعرفها الأدب من قبل، لكنها تضعه أمام امتحان وجودي: هل يكفي أن تكون الوسيلة جديدة لتصبح الكتابة إبداعية، أم أن الجوهر الإنساني لازال شرطًا لا بد منه؟
في الرواية الرقمية، مثلا، يشارك القارئ في صناعة الأحداث، يختار مسارات الشخصيات، ويحدد النهاية أحيانا. هنا نجد انعكاسا عمليا لمقولة رولان بارت حول "موت المؤلف": النص لم يعد ملك الكاتب، بل أصبح شبكة حية من العلاقات بين المؤلف، القارئ، والتقنية. وهذا لا يعني نهاية الإبداع، بل إعادة توزيع دوره: الكاتب لم يعد وحده الخالق، بل مشرفا على تجربة جماعية ممتدة.
الأدب التفاعلي لا يقتصر على الألعاب الروائية أو النصوص المتشعبة، بل يمتد إلى الشعر الرقمي، حيث تتحرك الكلمات على الشاشة، تتغير ألوانها، تدمج مع الصوت والصورة، وتخلق تجربة حسية متعددة الأبعاد. يقول الناقد مارتن هايدغر: «التقنية تكشف عن حقيقة الأشياء، لكنها أيضا قد تخفيها». الشعر الرقمي يكشف إمكانات جديدة للمعنى، لكنه في الوقت نفسه يعرض النص للسطحية إذا غابت الرؤية الإنسانية.
وليس الأدب وحده المتأثر؛ الكاتب نفسه يتحوّل في هذا العصر. لم يعد كاتب القرن الحادي والعشرين شخصا يجلس في غرفة معتمة يكتب، بل هو مؤلف-مخرج-محرر-مشارك، يجمع بين الإبداع الفني والمهارات التقنية، يتعامل مع منصات النشر الرقمية، ويوازن بين التفاعل اللحظي والمتطلبات الجمالية. هكذا يصبح الإبداع الأدبي هجينا، مزيجا من الفن والتقنية، من الحس الإنساني والبنية الرقمية.
الأدب الرقمي يسمح أيضا بمقاومة المألوف الأدبي. في النصوص التقليدية، كان الشكل السردي والرواية القياسية يفرضان قيودا. اليوم، الأدب قادر على تجاوز هذا، فيخلق مساحات جديدة للتجريب: الشعر العشوائي المولّد بالحاسوب، القصص التفاعلية، القصائد التي تتغير بحسب تفاعل القارئ. يقول ميلان كونديرا: «القصيدة الحقيقية هي التي تتحدى القارئ، تجعله شريكا في فهم العالم». التكنولوجيا تمنح الأدب هذه القدرة على التحدي والتفاعل بطرق لم يعرفها من قبل.
لكن، وفي الوقت نفسه، هذا التحوّل يفتح الباب أمام اختبارات أخلاقية وفنية. هل يكون النص الأدبي مجرد منتج رقمي، قابل للتوزيع والتعديل والنسخ المتكرر؟ أم أن القيم الجمالية والإنسانية للأدب تظل حاضرة كشرط ضروري؟ هنا نجد صراعا دائما بين الإبداع والسلطة الرقمية، بين الحرية الفنية ومتطلبات السوق، وبين الجوهر الإنساني وما يمكن للخوارزميات إنتاجه.

8.المستقبل الإنساني للأدب في عصر التكنولوجيا .

إذا كانت النقاط السابقة تتعلق بالتحولات الحالية، فإن المستقبل الأدبي في ظل التكنولوجيا يطرح أسئلة جوهرية عن هوية الإنسان والثقافة والإبداع. الأدب اليوم يواجه مأزقا مزدوجا: من جهة، يوفر له الوسيط الرقمي فرصا لا نهائية للوصول والتأثير؛ ومن جهة أخرى، يهدد استقلاله وجوهره الإنساني أمام قوة الآلة.
التحدي الأول هو أزمة الأصالة. يقول بول ريكور: "كل نص هو مشروع تأويل". لكن النص الرقمي لا يكتفي بالتأويل، بل يُعاد إنتاجه آليا، يُدمج، يُنسخ، يُعاد تصميمه. هنا يبرز الخطر: أن يتحول الأدب إلى "محتوى" يُستهلك بسرعة، بلا تفكير، بلا عمق، بلا تجربة وجودية. في المقابل، يرى إدوارد سعيد أن الأصالة ليست في الشكل أو الوسيط، بل في قدرة النص على فتح أسئلة جديدة وخلق مساحات فكرية حرّة.
التحدي الثاني هو تغير علاقة القارئ بالنص. القارئ لم يعد متلقيا سلبيا، بل مشاركا في البناء، في التأويل، في التوزيع. في الروايات التفاعلية، الألعاب السردية، والشعر الرقمي، يتحول القارئ إلى شريك إبداعي. هذا يعيد تعريف القراءة نفسها: لم تعد تجربة فردية مع نص مكتوب، بل فضاء جماعي من التفاعل، يشمل الكاتب، القارئ، والتقنية.
التحدي الثالث هو الذكاء الاصطناعي والإبداع الآلي. يمكن للآلة اليوم توليد نصوص شعرية، قصص قصيرة، مقالات، وحتى روايات كاملة. هذا يطرح سؤالا فلسفيا: هل الأدب موجود فقط حين يكون نتاج تجربة بشرية، أم أن النص وحده كائن أدبي؟ يقول ميشيل فوكو: "الكتابة ليست انعكاسا للواقع، بل هي إنتاج للخطاب". إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرا على إنتاج خطابات، هل يصبح أدبيا؟ الجدل قائم، وربما يمثل أحد أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين للأدب والفكر النقدي.
على الجانب الإيجابي، تمنح التكنولوجيا الأدب إمكانية الانتشار العالمي. نصوص كانت حكرا على القارئ المحلي أو الإقليمي، يمكن أن تصل إلى جمهور عالمي في لحظات. قصيدة في المغرب العربي قد تُترجم تلقائيا إلى اليابانية أو الإسبانية أو الروسية، وتصبح جزء من ثقافة كونية. هذه القدرة تعيد للأدب دوره التاريخي: نقل الأفكار، تحفيز الفكر، بناء جسور بين الثقافات.
وأخيرا، يبقى الأدب مرآة للتحدي الإنساني. مهما تطورت الآلات، مهما تعددت الوسائط، فإن الأدب سيظل يعكس أسئلة الإنسان الكبرى: عن الحرية، الهوية، الحب، الموت، القهر، المقاومة. يقول هايدغر: "اللغة هي بيت الوجود". مهما تغيرت الوسائط، تبقى الكلمات هي البيت الذي يؤوي التجربة الإنسانية.
التكنولوجيا إذن ليست نهاية الأدب، بل مرحلة تحول، فرصة لإعادة تعريف الإبداع، للقارئ دور أكبر، وللمؤلف أن يكون أكثر تنوعا. الأدب في عصر التكنولوجيا هو ساحة صراع وإبداع، بين السلطة والحرية، بين الإنسان والآلة، بين الحاضر والمستقبل.

9.التأثير الاجتماعي والثقافي للأدب الرقمي .

الأدب لا يعيش في فراغ، بل يتفاعل مع الواقع الاجتماعي والثقافي المحيط به. التكنولوجيا اليوم جعلت النصوص الأدبية قادرة على التأثير مباشرة في الجمهور، وإثارة النقاش حول القيم، الهوية، والمجتمع. الأدب الرقمي لم يعد مجرد تجربة فردية؛ بل أصبح فضاء جماعيًا للتفكير والتحليل.
يقول هانا أرندت: "الإنسان يصبح إنسانا بالكامل فقط في المساحة التي يتفاعل فيها مع الآخرين". الأدب الرقمي يوفر هذه المساحة: منتديات قراءة، تطبيقات تفاعلية، مواقع للتعليق والنقد، كل ذلك يخلق حوارا ثقافيا مفتوحا. فالقصيدة التي كانت تُقرأ في زاوية غرفة، اليوم قد تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، يعلق عليها الآلاف، تناقشها المجتمعات، وتصبح جزء من خطاب عام.
التكنولوجيا أيضا تجعل الأدب أداة للمقاومة الثقافية. في المجتمعات التي تعاني الرقابة أو القمع، يمكن للكتاب أن ينشروا أعمالهم إلكترونيا، وصولا إلى جمهور عالمي، متجاوزين الحدود السياسية والجغرافية. وهنا يمكننا أن نستحضر قول إدوارد سعيد: "المنفى حالة وجودية وتمكين". الأدب الرقمي يخلق من المنفى مكانا للحرية، ومن القيود نافذة للانتشار.
ومع ذلك، يبقى التحدي الاجتماعي قائما: هل الأدب الرقمي يساهم في الوعي النقدي، أم أنه يُستهلك بسرعة في شكل محتوى ترفيهي؟ يرى نيكولاس كار أن الانغماس في القراءة السريعة عبر الإنترنت يضعف التفكير العميق، لكن في المقابل، يتيح الأدب الرقمي وصولا غير مسبوق، وتفاعلا أوسع، وربما ولادة ثقافة نقدية جديدة تتجاوز حدود الورق.
هكذا يتحوّل الأدب الرقمي إلى حقل تجارب ثقافية جديدة، حيث تتشابك السلطة، المقاومة، والإبداع، ويصبح كل نص جزء من حوار مستمر بين الكاتب، القارئ، والمجتمع، مدعوما بتقنيات الوسائط المتعددة.

10.الأدب الرقمي ومستقبل الإنسان.

إذا كانت النقاط السابقة تناولت الواقع والتأثير الاجتماعي، فإن النقطة العاشرة تركز على مستقبل الإنسان والأدب في العصر الرقمي. التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة، بل بيئة وجودية جديدة يعيش فيها الإنسان، يتعلم، يحب، يفكر، ويكتب. الأدب، بصفته مرآة للوعي الإنساني، يجب أن يتكيف مع هذا التحوّل.
يكتب هايدغر: "اللغة هي بيت الوجود". والأدب الرقمي يوسع هذا البيت، لكنه يضع الإنسان أمام تحدٍ: كيف يحافظ على جوهر تجربته الإنسانية وسط تدفق البيانات، الخوارزميات، والذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي قادر اليوم على كتابة نصوص، توليد شعر، وحتى سرد قصص طويلة. يقول ميشيل فوكو: "الكتابة ليست انعكاسا للواقع، بل إنتاج للخطاب". إذا كانت الآلة قادرة على إنتاج خطاب، هل تصبح أدبية؟ هنا يكمن التحدي المستقبلي: الحفاظ على العمق الإنساني للأدب، حتى مع تزايد دور التقنية.
المستقبل أيضا يفرض إعادة التفكير في مفهوم التعليم الأدبي: كيف نعلّم القراءة العميقة، النقد، والتأمل، في زمن السرعة الرقمية؟ كيف نعد القارئ ليصبح مشاركا ذكيا في تجربة الأدب الرقمي؟ يقول جون سيرل: "الوعي الإنساني لا يمكن أن يحل محله برنامج". الأدب يجب أن يظل وسيلة لاكتشاف الذات والوجود، لا مجرد محتوى يُستهلك بسرعة.
وفي الوقت نفسه، تفتح التكنولوجيا أبوابا للتجريب الفني والمستقبلي. الروايات التفاعلية، الشعر التوليدي، الواقع الافتراضي، وحتى الألعاب السردية، تمنح الإنسان القدرة على تجربة الأدب بطرق متعددة، تشمل السمع، البصر، اللمس، وحتى التفاعل العاطفي في الزمن الحقيقي.
الأدب الرقمي، إذن، ليس مجرد استمرار للأدب التقليدي، بل مرحلة جديدة للتجربة الإنسانية: تجربة تجمع بين الحرية والابتكار، بين السلطة والمقاومة، بين الإنسان والآلة، بين الفرد والمجتمع. المستقبل الأدبي هو فضاء متشعب، مفتوح على الاحتمالات، حيث يبقى الإنسان محور كل تجربة، مهما تطورت الوسائط.
كما قال غرامشي: "التشاؤم بالعقل، التفاؤل بالإرادة". الأدب الرقمي يضع الإنسان أمام عالم متسارع ومعقد، لكنه يوفّر أيضا فرصا غير محدودة للحرية الإبداعية، للوعي النقدي، ولتوسيع حدود التجربة الإنسانية إلى ما وراء الورق، الشاشة، والحدود الجغرافية.

11.الكتابة الإلكترونية وفقدانها للحس والحياة .

الكتابة الإلكترونية، بفضل سهولة الوصول والنسخ واللصق، والتحرير الفوري، أصبحت سمة أساسية للأدب المعاصر، لكنها تواجه تحديا جوهريا: فقدان الحسّ الإنساني العميق والحياة التي تمنحها التجربة الشخصية للكتابة. النصوص الإلكترونية غالبا ما تكون سريعة، قابلة للتكرار، خالية من البصمة الفردية التي تميز كل نص مكتوب بخبرة الكاتب الخاصة، كما لو أن الروح الإنسانية تُختزل في سلسلة من الأحرف الرقمية الباردة.
يقول نيكولاس كار : "القراءة الرقمية تجعلنا أسرع، لكنها تقلل من قدرتنا على الانغماس في النص، على التفاعل العميق مع المعنى". النص الإلكتروني، حين يُنتج بسرعة، أو يُشارك كـ"محتوى" على وسائل التواصل الاجتماعي، يفقد جزء من حيويته، ويصبح عرضة للاستهلاك السطحي، بعيدا عن التأمل والتفاعل الشخصي الذي يخلق المعنى الحقيقي للأدب.
حتى الكتابة الرقمية الشعرية، رغم إمكانياتها التفاعلية وحركتها البصرية، قد تفقد الدفء الإنساني إذا كانت محكومة بالبرمجيات والخوارزميات وحدها. يقول هايدغر: "الجوهر الإنساني للأشياء لا يُكشف إلا في تجربتها المباشرة"، وكلمات الشعر المولَّدة إلكترونيا أحيانا تحاكي الشكل، لكنها تفتقر إلى العمق الذي يأتي من المعاناة، الحب، القلق، والوعي الشخصي الذي يضفي على النص حياة حقيقية.
كما يرى ميشيل فوكو: "الكتابة ليست مجرد نقل للمعنى، بل إنتاج للخطاب في سياق وجودي وثقافي". الكتابة الإلكترونية، حين تتحوّل إلى مجرد نصوص قابلة للنشر والتوزيع الفوري، تخاطر بتحويل الأدب إلى سلعة رقمية، يُستهلك دون أن يتفاعل القارئ معها بمعناه العميق.
في هذا السياق، يصبح التحدي للأدباء والكتاب الرقميين مزدوجا: من جهة، الاستفادة من إمكانيات التكنولوجيا، من الوسائط المتعددة، والتفاعل اللحظي؛ ومن جهة أخرى، الحفاظ على الروح الإنسانية للنص، الحيوية، العمق، والحس الإبداعي الذي يجعل الأدب تجربة حقيقية، وليس مجرد محتوى يُمرّر عبر الشاشات.
الأدب الرقمي إذن يعيش بين الفرص والتحولات من جهة، وفقدان الحسّ والعمق من جهة أخرى. التوازن بين هذين القطبين هو ما سيحدد قدرة الكتابة الرقمية على البقاء حيّة، ملهمة، وقادرة على التواصل مع الروح الإنسانية للأجيال القادمة، تمامًا كما كتب إدوارد سعيد: "الكتابة التي لا تنبض بالحياة لا تُغيّر شيئًا في الإنسان".

خاتمة : الأدب والتكنولوجيا بين الحاضر والمستقبل، والكتابة الرقمية وفقدان الحس :

الأدب والتكنولوجيا ليسا كيانين منفصلين، بل حوار جدلي مستمر يتفاعل مع الإنسان، المجتمع، والثقافة. من النقاط الأولى وحتى النقطة الحادية عشر، رأينا كيف أن الأدب قديمًا كان وسيطا للتعبير عن الإنسانية، واليوم صار الوسيط نفسه يتغير مع كل ثورة تقنية جديدة، من الطباعة إلى الشاشة الرقمية، ومن النص الورقي إلى النص التفاعلي، وصولا إلى الكتابة الإلكترونية الحديثة.
التكنولوجيا لم تلغ الأدب، لكنها أعادت تعريفه. الكتاب الورقي أصبح وسيلة من بين وسائل متعددة، القراءة لم تعد خطية، الكتابة لم تعد ملكا للمؤلف وحده. كما أشار رولان بارت: "موت المؤلف"، النص صار تجربة مشتركة بين الكاتب والقارئ والخوارزميات أحيانا، تجربة تتحرك في فضاء رقمي متشعب.
ومع ظهور الكتابة الإلكترونية، ظهر تحدٍ جديد: فقدان الحس والحياة في النصوص. النصوص السريعة، القابلة للنقل، القابلة للتكرار، يمكن أن تفقد البصمة الإنسانية التي تمنحها تجربة الكاتب الشخصية، من مشاعر، تأمل، ووعي خاص. يقول نيكولاس كار: "القراءة الرقمية تجعلنا أسرع، لكنها تقلل من قدرتنا على الانغماس في النص، على التفاعل العميق مع المعنى". حتى الشعر الرقمي، إذا خضع للبرمجيات وحدها، قد يصبح شكلا بلا روح، محاكاة للكلمات دون عمق التجربة الإنسانية، كما يذكّرنا هايدغر: "الجوهر الإنساني للأشياء لا يُكشف إلا في تجربتها المباشرة".
في الوقت ذاته، الأدب الرقمي يظل فضاء للمقاومة والإبداع. في عالم تحكمه الخوارزميات والسوق الرقمي، يمكن للنصوص الأدبية أن تكسر الحدود، تصل إلى جمهور عالمي، وتخلق مساحة للحوار الثقافي والسياسي، تمامًا كما أشار إدوارد سعيد: "المنفى حالة وجودية وتمكين". الأدب الرقمي يخلق من المنفى مكانا للحرية، ومن القيود نافذة للانتشار، مع الحفاظ على جوهره الإنساني، رغم سرعة النشر الرقمية وسطحية الاستهلاك المحتملة.
الشعر الرقمي، الرواية التفاعلية، الألعاب السردية، النصوص المولَّدة آليا، كل هذه التجارب تُعيد التفكير في ماهية الإبداع، وتضعنا أمام تحدٍ مستمر: كيف نحافظ على العمق، الحس الإنساني، والروح الحية للنص، بينما نستفيد من كل إمكانيات التكنولوجيا؟ يقول برنارد شاو: "الإبداع ليس في الفكرة نفسها، بل في الطريقة التي تُعبّر بها".
العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا تتشابك مع الهوية الثقافية والاجتماعية. الأدب لم يعد محتكرا على مجتمع أو ثقافة محددة، بل أصبح جزء من خطاب عالمي، يمكن للقصيدة العربية أن تنتشر في اليابان، والمقالة التونسية أن تصل إلى البرازيل، مع الحفاظ على خصوصيتها وروحها الثقافية. يقول هانا أرندت: "الإنسان يصبح إنسانا بالكامل فقط في المساحة التي يتفاعل فيها مع الآخرين". الأدب الرقمي يخلق هذه المساحة، ويحوّل القراءة إلى فعل جماعي حيوي، لكنه يذكرنا دوما بأهمية الإحساس والتجربة الإنسانية التي قد تضيع في التدفق الرقمي.
الذكاء الاصطناعي يدخل على الخط، وقد يولّد نصوصا شعرية أو سردية، لكنه لا يستطيع، على الأقل حاليا، استيعاب التجربة الإنسانية الكاملة، ولا المشاعر، ولا التأمل العميق، ولا التاريخ الشخصي والجمعي. يقول جون سيرل: "الوعي الإنساني لا يمكن أن يحل محله برنامج". هذه الحقيقة تجعلنا نتمسك بالإنسان محورا لكل تجربة أدبية، مهما تطورت الوسائط.
المستقبل الأدبي إذن مزيج من التحديات والفرص: التكنولوجيا تمنح الأدب وصولا عالميا، تجريبا بلا حدود، وتفاعلا لحظيا، لكنها تفرض مسؤولية الحفاظ على العمق، الأصالة، والقيم الإنسانية، وفي الوقت نفسه على الحسّ والحياة في النصوص الإلكترونية. الأدب الرقمي هو ساحة الصراع بين السلطة والحرية، بين السوق والروح، بين الآلة والإنسان، بين الماضي والحاضر والمستقبل.
كما قال غرامشي: "التشاؤم بالعقل، التفاؤل بالإرادة". هذه الخاتمة تنطبق على الأدب اليوم: التكنولوجيا قوية، لكنها لا تستطيع القضاء على قدرة الإنسان على الإبداع، على النقد، على التفاعل العميق مع النص. الأدب مستمر، يتطور، يتمدد، ويبتكر طرقا جديدة للبقاء حيا وملهما، سواء في النص الورقي، الرقمي، أو الإلكتروني.
في النهاية، الأدب والتكنولوجيا ليسا مجرد وسيط وموضوع، بل رحلة مشتركة للإنسان في فهم ذاته والعالم من حوله، رحلة تتجاوز الورق والشاشة إلى تجربة حية، متعددة الأبعاد، تتنفس الحرية والفكر، وتظل دائما، مهما تغيّرت الوسائط، فضاء إنسانيا خالدا، نابضا بالحس والحياة.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد الإبداع وإبداع النقد.
- بقايا الطلائع القديمة: الثورة بين الخطاب والممارسة والخيبة.
- اللّجوء بين إنسانية العالم وابتزاز السياسة: في أزمة النظام ا ...
- قراءة نقدية تفكيكية لرواية -أنا أخطئ كثيرا- للاديبة اللبناني ...
- 11 سبتمبر 2001 ، انطلاق اللّعبة الامبريالية الكبرى.
- الحرب كحقل تجارب للذكاء الاصطناعي: كيف أصبحت غزة مختبرا للمر ...
- رؤوس أقلام حول أمريكا: الإمبريالية الحربية والاقتصادية من ال ...
- أحفاد مانديلا . تحرير العمل: الدرس الجنوب إفريقي.
- البيروقراطية
- السودان يحترق... والطبقات الحاكمة تتقاسم الخراب
- قراءة نقدية لديوان -في أن يستكين البحر لفرح موج- لإدريس علوش ...
- البناء القاعدي: من فكرة التحرر إلى أداة الهيمنة؟
- الحداثة والظلامية: وجهان لعملة واحدة في مأزق التاريخ العربي.
- ما بعد الجمهورية: زمن الوحوش أم زمن الاحتمال؟
- الخديعة الأمريكية الكبرى: الإمبريالية وخراب فلسطين.
- اليسار التونسي: بين الأمس الإيديولوجي واليوم السياسي.
- الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.
- الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
- قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
- الكتابة فعل نضال


المزيد.....




- ردود فعل قوية من كوميديين على إيقاف برنامج جيمي كيميل.. شاهد ...
- -دورك سيأتي-.. تهديد مباشر من وزير دفاع إسرائيل لزعيم الحوثي ...
- -مكارثية- جديدة في أمريكا؟ ... حرية الرأي بعد اغتيال كيرك
- الكشف عن لوحة -استثنائية- لبيكاسو عُرضت للبيع في مزاد علني ب ...
- الصين: شركة أبل تطلق سلسلة آيفون-17 الجديدة بمتجرها الرئيسي ...
- المغرب يبتكر حلولا لمواجهة الجفاف: ألواح شمسية عائمة فوق سد ...
- اتصال هاتفي بين الرئيسين الأمريكي والصيني يحدد مصير تيك توك ...
- تعليق برنامج الكوميدي جيمي كيميل إلى أجل غير مسمى في الولايا ...
- الجيش الإسرائيلي يدعو سكان مدينة غزة للنزوح جنوبا مهددا باست ...
- مشروع -غيدلون- في فرنسا.. تجربة فريدة لإحياء تقنيات البناء ا ...


المزيد.....

- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رياض الشرايطي - الأدب والتكنولوجيا: بين انفتاح النص وقلق المستقبل.