جاسم المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 12:57
المحور:
الادب والفن
الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي , يتميز شعره بالعذوبة وبشاعرية قل نظيرها, ولكنه ايضا يمتلك تواضعا لا مثيل له واخلاقا جمة تجعلنا لا ندري اشعره اجمل ام اخلاقه .. يقول في احدى قصائده
"الخسارةَ؟
أنْ أرْبَحَ المَطَرَ...
والنَهْرَ
والينبوعَ...
وأخسرَ قطرةَ الحياءِ
في جبيني..
الشقاء؟
أنْ أكونَ السعيدَ الوحيدَ
بين جموعِ التعساء"
هذا الشعور بالانسانية العميقة في وجدان الشاعر ينم عن اخلاق اصيلة لانجدها عند الكثير من الناس .. اعرفه منذ عام 1991 في مخيم رفحاء , كان شمعة تضيء ظلام المخيم , كنا نستمع اليه وهو يلقي شعره ليزرع فينا الامل..
وفي قلب الشعر تسكن ارواحٌ لا تفصل بين القول والفعلو بين ما يُكتب على الورق, وما يُمارس في الحياة, وفي هذا التماهي العجيب بين الكلمة والسلوك يولد الشاعر الحقيقي, ليس بوصفه صانع جمل, بل باعتباره كائنا إنسانيا يتخلق بالكلمة كما يتخلق بها الشعر ذاته, ويحيى السماوي واحد من هؤلاء القلائل الذين لم يعد ممكناً ان نفرق بين قصائدهم وسيرتهم, ولا بين دفء عبارتهم ونور وجوههم, فحين يكتب لا يكتب من علٍ, بل من تواضعٍ يشبه انحناءة السنابل, وحين يحيي من حوله لا يحييهم من منصة, بل من مكان في القلب قريب جدا يشبه موضع الندى على خد وردة في فجر رائق, كان يجلس على ( بطانية) على الارض, وكنا جلوسا حوله, وكان كقنديل في وسطنا, يدلنا على حلاوة الكلمات او مرارات القوافي, يداوي جراحنا بملح الشعر احيانا وسكر الكلمات اخرى .
منذ ان عرفته في مخيم رفحاء ذلك المكان الذي يشبه العدم إلا من بعض الأرواح الكبيرة التي قاومت اليأس بالقصيدة, وأدمنت صناعة الأمل من فتات الواقع, ادركت ان ثمة بشرا لا يحتاجون إلى أمكنة كبيرة ليكونوا عظماء, كان يحيى السماوي واحدا من هؤلاء, شمعة في ظلام المخيم لا تحترق إلا لتضيء لنا طريق الرجاء, لم يكن الشعر لديه وسيلة للبوح فحسب, بل كان ضربا من العطاء الخالص الذي لا ينتظر مقابلا, وكان حديثه عن الخسارة والشقاء حديث ضمير حي لا يمكنه ان يسعد وحده في عالم يعج بالتعساء, تلك النظرة الأخلاقية العميقة ليست شعارا, وإنما هي جذور تمتد في عمق وجدانه لتصوغ لغته وتحدد معالم رؤيته الوجودية.
الشاعر الذي يرى في فقدان الحياء خسارة أكبر من فقدان المطر والنهر والينبوع, لا يمكن ان يكون شاعراً عابرا, إنه يحاكم الأشياء بمحكمة الضمير, وليس بمحكمة المصلحة, إنه لا يقيس القيمة بالمنفعة, بل بالصدق الأخلاقي, وهذا الموقف الذي يتسلل من بين سطور شعره هو نفسه الموقف الذي كان يحكم سلوكه اليومي, كنا نراه بين الناس إنساناً بسيطا يشاركهم قسوة الهموم ويتقاسم معهم قلقهم, ويؤمن أن الشعراء ليسوا آلهة تعيش في أبراج عاجية, بل بشر حقيقيون يعانون ويفرحون ويخطئون ويعتذرون..
ما يجعل الحديث عن أخلاق يحيى السماوي صعبا ليس ندرتها, بل امتزاجها الكلي بنصه, حتى أننا إذا قرأنا له قصيدة نحسب أننا نقرأ سيرته, وإذا رأيناه يتحدث حسبنا أنه يرتجل شعرا, إن سلوكه الشخصي لا يحتاج إلى تبرير نصّي, لأن النص والسلوك كلاهما من طينة واحدة, من طينة يحيى, من طينة الروح الطيبة التي لم تتلوث بدهاء العالم المعاصر, ولا بموضات الكذب المبرر, ولا بخفة السخرية العدمية التي أصبحت شعارا لأدعياء الثقافة في زمننا..
حين أستعيد صورته في المخيم أتذكر ذلك الوجه المضيء الذي كان يطل علينا وفي صوته نبرة من حنينٍ لا تنتهي, كانت القصيدة لديه تشبه رائحة الخبز الحار في صباحٍ جائع, تشبه بئر الماء او (حِبِّ)1 الماء في صيف لاهب, كان يمنحها كما يُمنح العطاء الحقيقي من دون تصنع ولا تعالٍ, ولا رغبة في إدهاش مصطنع, وهذه العفوية الباذخة لم تكن نتاج ضعف, بل نتيجة أصالة متجذرة وفهم عميق لدور الكلمة في تربية النفس قبل أن تكون أداةً لتزيين الكلام.
إن اخلاق يحيى السماوي ليست صفة إضافية إلى شاعريته, بل هي هيكلها الداخلي ومادتها الجوهرية, وحين يتحدث عن الأخلاق لا يفعل ذلك من موقع الواعظ, بل من موقع الشاهد الذي عاش تجربته الأخلاقية في منفى وفي وطن وفي قسوة وفي رقة, لم يتنكر يوماً لماضيه ولم يتعالَ على أحد ولم يتاجر بجراحه, بل حوّلها إلى أغان وقصائد وابتسامات يوزعها على الرفاق كما توزع الأم قُبلاتها على أبنائها.
لم يكن الصراع في حياة السماوي بين الجمال والقبح, بل بين الجمال واللاعدالة, ولهذا كانت قصيدته دائماً واقفة في صف المظلوم, حتى لو لم تذكر أسماء كانت تهتف للحق, حتى في أرق لحظات الحب, وكان الحب عنده ليس مسألة غريزية ولا مجرد حالة شعرية, بل قيمة إنسانية تفيض رحمة وتفهم الآخر وتقبله, وهكذا امتزجت مشاعره بخطابه الأخلاقي حتى غدت قصائده صلاةً هادئة في معبد الإنسان..
من يتأمل شعره لا يلمس فقط جمال اللغة بل جمال النفس التي كتبت تلك اللغة, ومن يعرفه عن قرب يدرك أن الإنسان الذي يسكن القصيدة ليس شخصا متخيلا, بل هو هو الشاعر عينه بعفويته وخجله وحنانه وتواضعه النادر الذي يجعلنا احيانا ننسى أنه شاعر كبير لأنه لا يطالبنا بذلك, لا يطلب منا التصفيق ولا ينتظر التمجيد, بل ينتظر فقط أن نبتسم وأن نحيا وأن نحمل قلوبنا كما يحملها هو بقليل من الظل وكثير من الضوء..
في حضرته تشعر أن الزمن يبطئ قليلاً ليصغي له, وفي حضرة شعره تشعر أن الإنسان لا يزال بخير, وأن هناك من يكتب لا لكي يثير الدهشة, بل لكي يرمم أرواحنا المكسورة بالكلمات, ويحيى السماوي هو من هذا الطراز النادر الذي يعيد إلى الشعر معناه الأصلي بوصفه بيتاً للضمير, وملاذاً للأرواح الهائمة, هولا يكتب لنخبة تتبارى في التحليل, بل لقلوبٍ تتوق إلى معنى ولأناسٍ يفتشون عن وطن في القصيدة, عن ملاذ امن, عن بيت من الشعر يسكنهم او يسكنونه..
في عالمٍ طغت فيه المصلحة على المبدأ, والذكاء على الطيبة, والتسويق على القيمة, يجيء السماوي كحالة نادرة تذكرنا أن البساطة ليست ضعفا, بل حكمة وأن التواضع لا يُشترى ولا يُدرّس, بل يُولد مع الإنسان النبيل, وأن الأخلاق الحقيقية لا تصرخ, بل تهمس بهدوء كالماء حين يسقي الأرض العطشى دون ضجيج.
ما اعظم الشعر حين يكون ضميرا حيا نابضا, وما اروع الإنسان حين يكون شعره شاهدا عليه, وحين تكون الكلمات امتدادا لسيرته, فإننا لا نقرأه فقط, بل نقرأ أنفسنا من خلاله, نبحث عن أملٍ في صوته, وعن عزاء في حكمته, وعن ضوءٍ في صبره, وهو الذي ظل يكتب كما يزرع الفلاح البذور لا ليرى النتيجة فورا, بل لأنه مؤمن بأن ما يزرعه بحب وهدوء لا بد ان يُزهر يوما ما.
يحيى السماوي لم يكن يوما بحاجة إلى التجمل أمامنا لأنه ببساطة لم يلبس الا وجهه الحقيقيو ذلك الوجه الذي عرفناه منذ 1991 ولم يتغير إلا ليزداد طيبة وتوهجا, ولم يتخلف عن دوره كصوت للأمل, ولا عن موقعه كضمير حي في زمن تهاوت فيه كثير من الضمائر, ولهذا لم نعد نميّز بين شعره وأخلاقه, لأنهما في الحقيقة شيء واحد, كلاهما يكتبنا نحن الذين عرفناه يوما في المخيم ,وظل معنا منذ ذلك الحين إلى الآن, ليس فقط في الذاكرة بل في الضمير.
في حضرة يحيى السماوي لا يعود الشعر موضوعا للنقد, ولا الأخلاق موضوعا للفخر, بل يصبح كل ذلك دعوة صامتة لنكون أفضل, لنتذكر أن الإنسان قد يكون قصيدة وأن القصيدة قد تكون إنساناً.
أي سموٍّ في هذا الخلق وأي طهر في هذه النفس؟ شاعر بحجم يحيى السماوي المقيم في أقصى الأرض في أستراليا يرسل دواوينه لا ترفًا ولا إعلانا بل حبا خالصا وتقديرا عميقا, ثم يشكرك لأنك طلبتها منه, كأنما أنت من منحته الفضل لا العكس! هذا السلوك وحده كافٍ ليكشف عن جوهر الإنسان فيه قبل الشاعر, عن تلك النفس المتواضعة التي ترى في طلب الآخرين لشعرها هبة وليس حقا وفي اهتمامهم به نعمة وليس واجبا..
هو لا يرى نفسه فوق أحدو ولا يرى في ما يكتب شيئا يوجب التباهي, بل يعيش الكلمة كما يعيش الماء في النبع رقراقا سخيا لا يتمنن على العطاشى, بل يفرح أنهم جاءوا إليه ليشربوا هذه الروح النبيلة التي تفرح بالعطاء أكثر مما تفرح بالمدح, تنتمي إلى طينة نادرة من البشر الذين لا تفسدهم الشهرة ولا تغويهم الأضواء, لأنهم ببساطة لا يكتبون ليعلوا بل يكتبون ليعطوا..
في موقفه هذا تختصر كل أخلاقه هو لا يرسل لك كتابا, بل يرسل لك قلبه ملفوفا بورق القصيدة مغلفا بظرف البريد, ويشكر لأنك قبلته وكأنك فتحت له باب روحك لا باب عنوانك البريدي, فأي شاعرٍ هذا الذي يرى في القارئ روحا وقلبا؟ وأي إنسانٍ هذا الذي يجعل من الكتاب جسراً وليس منصة ومن الكلمة أداة وصل وليس وسيلة تفاخر؟
هكذا هو يحيى السماوي شاعرُ المروءة الذي يجعلنا نشعر أن الأدب لا يزال بيتا للنبل, وأن الشعر لا يزال حديقة ينبت فيها الحب والصدق والحياء.
(1)الحِب بكسر الحاء: هو وعاء مصنوع من الطين المفخور,مشهور في العراق, يوضع فيه الماء في الصيف ليبرد, والكل متفق على عذوبته الفريدة!
#جاسم_محمد_علي_المعموري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟