زجاجُ سيارتي المصدوع… والفلاسفة

فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 10:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

Facebook: @NaootOfficial

في ورشة الإصلاح، جلستُ داخل سيارتي أتأمل الفنيين يحاولون لحام الشرخ الطولي في الزجاج الأمامي. وفجأة انفتحت أبواب السيارة ودخل ثلاثة من أصدقائي الموتى. ألقوا السلامَ، وهمسوا: “جئنا نؤنسُ وحدتَك حتى يلتئم زجاجُك المصدوع.”
"هايدجر"، الجالس إلى جواري كان أول من بدأ الحديث. مرّر إصبعه على الشرخ وقال: (هذا الشرخُ ليس حادثًا عابرًا، بل تذكارٌ من الوجود بأننا كائناتٌ في طريقها إلى الموت. كل ندبة على الزجاج تذكيرٌ بأننا نسقطُ مع الناس ما لم نصُن أصالة ذواتنا. الخطر ليس في هذا الشرخ، بل في الشروخ الصغيرة التي نتركها بلا التفات: كذبة بيضاء، ظلم صغير، غدر، خيانة.... حين نهملها، ينهار البيتُ من الداخل ثم يتداعى. إصلاح الزجاج الآن ليس مجرد عمل تقني، بل تمرينٌ على صيانة وجودك. فالزمنُ لا يرمم، بل يوسّع الشقوق. وحدها اليقظة هي التي تحفظ البيت من الانهيار.)
من المقعد الخلفي ضحك "كامو" وقال ساخرًا: (هذا الشرخ هو "العبث" بعينه. العالم يذكّرك دائمًا بأن الكمال وهمٌ، وأن كل ما نُشيّده سيحمل ندبة. العبث ليس في الشرخ، بل في إصراركِ على تصديق أن الزجاج يمكن أن يظل بلا شرخ. العبث هو جلوسك هنا وإصرارك على إصلاحه رغم يقينك بأنه سينكسر ثانية، هذا هو "التمرد”. تماما كما فعل "كاليجولا" حين سرق القمر. نحن لا نُرمم الشروخ لنربح معركة ضد العدم، بل لأن الإصلاح ذاته إعلان حياة. الشرخ يضحك منا، ونحن نضحك منه، ونمضي.)
من المقعد الخلفي، مدَّ "سارتر" يده ملوّحًا في وجهي بنسخة مهترئة من "العقد الاجتماعي"، وقال بنبرة ساخرة: (الشرخ ليس حدثًا عارضًا يا صديقتي. الشروخُ حصيلةُ تنازلاتنا اليومية. الحرية ليست ترفًا؛ بل قدرٌ. والصمت أمام الكسر قرارٌ. نحن محكومون بالحرية، ومسؤولون عن كل أثر في زجاج حياتنا. "روسو" كتب عن عقد يربط الناس بالمجتمع، أما أنا فأقول إن العقد يبدأ هنا، معكِ أنتِ. أن تُصلحي الزجاج يعني أنك تصونين ذاتك، وتبرمين عقدًا مع نفسك قبل أن تبرميه مع الآخرين. إما أن تختاري الترميم فتحفظي وجودَك، أو تختاري الإهمال فتشاركي في انهيار البيت. لا مفر: الحرية توقيعٌ دائم على عقدٍ لا يسقط بالتقادم.)
رنَّ الهاتف فجأة، وظهر على الشاشة اسم: "جان جاك روسو”. وإذا بصوته الغاضب يتردّد في أرجاء السيارة: ("سارتر”! كُفّ عن استخدام كتابي كراية في معاركك! "العقد الاجتماعي" لم يُكتب ليُلوَّح به في ورش السيارات! الشرخُ في زجاج السيارة يشبه الشرخَ في المجتمع. يبدأ بخدش صغير، ثم يلتهم الجدار كله إن لم يُصلَح. ظلم، قانون مجحف، امتياز غير مستحق، تمييز عقدي أو طبقي أو نوعي، جميعها خدوشٌ في جدار المجتمع، إن لم تُرمَّم فورًا، ينهارُ البناء كله، وصارت الحرية حبرًا على ورق. تذكّروا: العدالة لا تُصان بالخطب الكبرى، بل بإصلاح الكسور الصغيرة قبل أن تتكاثر. وإلا تحوّل البيت إلى أنقاض.)
رنّ الهاتف من جديد، وظهر اسم "الوليد ابن رشد”. قال بصوت عميق خارج من تخوم المكتبات: (أيها الرفاق، الشروخُ لا تُصلَح بالجدل، بل بالعقل. مثلما الزجاج لا يلتئم بالخيال، كذلك شروخ المجتمع لا تُرمم إلا "بالحق الذي لا يضادُّ الحقَّ”. الفلسفة ليست ترفًا بل طِبٌّ للوجود، والبرهانُ هو أداة الترميم. لا تُسلموا أنفسَكم للصدوع الصغيرة، فهي إن تُركت نخرَت البناءَ كله. هل أذكّركم بنظرية "النوافذ المحطمة" التي كتبها "ويلسون" و"كيلنج" عام ١٩٨٢؟ "إذا تُركت نافذةٌ مكسورة بلا إصلاح، فهي إشارة تقول: لا أحد يهتم، ومن هنا يبدأ التدهور حتى تصل الفوضى.” غير أن هذه النظرية الأمنية لا تتعلق بالمدينة وحدها؛ بل يمكن أن نقرأها كاستعارة عن الإنسان والمجتمع والكرامة. فالشرخُ الصغير في زجاج ما، يشبه الخلل الطفيف في النفس أو في المجتمع: إذا أُهمل، تضاعف حتى يصير انهيارًا.)
قبل أن يتلاشى صوتُ "ابن رشد"، تسلّل نسيمٌ خفيف من شرخ الزجاج، فأدركنا أن "محيي الدين بن عربي" قد حضر: همس بعذوبته المعتادة: (أما أنا فأرى أن الشرخ ليس عيبًا، بل نافذةٌ يُطلّ منها النور. الكمال يتخفّى في النقصان، والانكسار مرآة للكمال الباطن. لا تنظروا إلى الزجاج بما فيه من كسر، بل بما يتيحه من رؤية أخرى. فالشرخُ قد يعلّمكم ما تعجز عنه النافذة السليمة. فكل جرح في الظاهر هو عيُن في الباطن، تفتحكم على سرّ أكبر. دعوا الشرخَ يتحدّث، فهو حكمة متخفّية.)
وكأن مهندس الإصلاح في ورشة "خالد اوتو جلاس" قد سمع "ابن عربي"، إذ صحوت على صوته يعتذر قائلا: “الشرخ للأسف غائرٌ وغير قابل لإصلاح. لابد من تركيب زجاج جديد!


***

#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل