|
فيروز … هاكِ مِنديلي لتُخبّئي دموعَك
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 8419 - 2025 / 7 / 30 - 12:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
Facebook: @NaootOfficial طالما كفكفتْ دموعي بصوتها، وخفّفت أحزانَ قلبي بأغنياتها، ورأبت صدوعَ روحي بعذوبة حكاياها. والآن دوري ودور الملايين من جماهيرها لنُقبِّلَ جبينَها، ونكفكف دمعَها. هاكِ منديلي يا "زهرة لبنان" المشرقة؛ خبئي فيه دموعَكِ على "زياد" الذي غافلكِ ومضى إلى حيث يمضي الأبناءُ ولا يعودون، تاركين في قلوب الأمهات صدوعًا لا تُجبَر. هل رحل حقًّا المجنونُ الأجملُ الذي ثار على جميع أشكال الزيف التي تُغرقُنا في الضلالات الكذوب؟ لم يثُر "زياد رحباني" على قباحات الواقع ومراراته فحسب، بل ثار كذلك على أناقة وعذوبة العالم الذي رسمته أغنياتُ "فيروز" المنسوجة بكلمات وموسيقى أبيه وعمّه "الأخوان رحباني". ذلك العالم الطفوليّ المبهج الذي لا وجود له في أرض ملوّثة بالحروب والفقر والجهل والطغيان. رفع إصبعَ الاتهام في وجه أسرته الاستثنائية، رغم أنه معجونٌ بذات الطينة الفنية الرفيعة التي لا تشبه إلا نفسَها، والتي من العسير أن تتكرر. ووقعنا، نحن عشّاقَ الرحابنة في شّرَك الصراع بين جميلين: جمال عذوبة أغنيات "فيروز"، وجمال ثورة "زياد" على تلك العذوبة المُتخيّلة! تخيلوا تلك المعركة العبقرية بين خصمين كلاهما جميل! ومَن المستفيد من تلك المعركة؟ نحن الجماهير! تلك أجمل معارك التاريخ: الخيالُ العذب ضدَّ الثورة عليه، بعذوبة مماثلة. أخبرني أيها القارئُ متذوق الفن الرفيع: لأيٍّ من الخصمين سوف تنحاز؟ للخيال العذب؟ أم لعذوبة الثورة عليه؟ لابد أنك مثلي ستنحاز للاثنين معًا؛ لأن ذلك "الدياليكتيك الهيجلي" الذي هرب من الفلسفة إلى الفنّ، أنجبَ فنًّا ثالثًا، غيرَ مسبوق في كتالوج الفن، مضفورًا بخيوط الحُلم ونار الثورة. هو ابنُ فيروز وعاصي، لكنه لم يكن ابنًا لأحد. رفضَ إرثَ أيقونات الفردوس الخالد، ليخلقَ لنا أيقونةَ الرصيف المنسيّ. كتب عن النادل، والحلاق، والعاطل، والجائع، والمشرّد، وصفع في أغنياته الظالم والفاسد والمرائي والمتاجر بالدين. حين غنّى: "أنا مش كافر… بس الجوع كافر"، لم يكن يموسق الكلمات ويغني؛ بل كان يُقاتل، ويصفعُ الطغاة الذين يلعبون على حبال تجهيل الشعوب وتجويعهم وترويعهم. وكان الشعبُ خلفه، يتغذى على خبزِ الأغاني، لأن خبزَ الدولة كان حجارة. رحل مهندسُ العبث المتقن، ناثرُ الفوضى الجميلة، الذي أصرّ على العزف على عودٍ قطّعتْ أوتارَه الحروبُ والانقساماتُ والصراعات. رحل مَن خلق وطنًا بديلًا من النوتة الثائرة، ومدينةً تُحكمها السخريةُ بدلاً من الطغاة. رحل الحاضرُ في جيناتنا الثقافية، الذي نجح في ترويض أصواتنا الجريحة على وقع النغم الثائر. برحيل "زياد رحباني" تموتُ "بيروت" للمرةِ الألف، هذه المرّة بصمت، بلا ضجيجِ قذائف ولا جولاتِ ميليشيا؛ بل بسهم حزين مغموسٍ في نغم حزين على مقامِ نهاوند الرهافة، ومراسمِ وداعٍ يحفّها نشيدٌ ساخر يقول مطلعه: "بما إنّو الحرب خلّصِت، نحنا رح نفلّ”. "زياد رحباني" كان فيلسوفًا بلا كتب، فكلّ أغنيةٍ له كانت مانيفستو ثورة، وكلّ كلمة في مسرحه كانت دستور نجاة. مَن مثله قدر على تحطيم الحائط الرابع كما فعل في "كيفك أنت" مع والدته الجميلة "فيروز"؛ فمزج البروفات والتحضيرات في متن الأغنية النهائية، ليسمح لنا بالتلصص على كواليس بناء العمل، ثم أخرج لنا في الأخير واحدة من أجمل وأمسّ أغنيات الرحابنة وأكثرها عبقرية وفرادة وتجريبًا وتجديدًا! برحيل "زياد رحباني" سكتَ الضميرُ الجارحُ الذي لم يُهادن، ولم يركع، ولم يُصفّق للطغاة، بل قصف جبهتهم بلحنٍ مارق كالسهم. لكن مثله عصيٌّ على الرحيل لأنه أحد الذين زرعوا فينا الرفضَ والعناد واللعب على حافة الخطر. سيبقى خالدًا لا في صورة ولا في أغنية ولا في تمثالٍ، بل في "الضحك المرّ" الذي أجاد صنعَه، وفي السؤال الصعب الذي لم يجب عنه أحدٌ: “بالنسبة لبكرا… شو؟!” بعدك، من سيُحاور فقراء الوطن؟ مَن يُؤنس وحدة المقهى؟ من يُعطي الليل ضوءه؟ "زياد" لم يكن فنانًا فقط. بل كان "حالةً مستحيلة". كان احتلالاً ناعمًا للعقل. والفنّانون يموتون، أما الحالات فتبقى، تتكاثر، تتجادل، تتحوّل إلى طقسٍ، وإلى لعنةٍ جميلة لا شفاء منها. هو باقٍ لأن صوته امتدادٌ لصوت ضمائرنا، حين نغضب، حين نسخر، حين نحبّ، حين نثور، وحتى حين لا نجد ما نقوله. فقد أحبّ هذا الرجلُ "بيروت" حتى الجنون. أحب لا بيروت المزركشة بالحُسن، وصخور الروشة، وتلال جونيه، وجبل حريصا، بل أحبَّ بيروت النبيلة، المُنهكة، المتعبة، التي تصارع من أجل الحياة أمام حُسّاد يرومون لها الموت. رحل "زياد رحباني" وهو يسحبُ بساط المعنى من تحت أقدامنا ويقول: "دبّروا حالكن… الموسيقى سكتت”. وداعًا يا مَن أنطق الصخرَ وأخجلَ الظالمَ أن يفجُر وجعل الحروب تستحي وتخاف من سياط موسيقاه. اللهم أحسن مقامه وارزق والدتَه الصبر الجميل والاحتساب. ***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-كتالوج-... الأبوة والأمومة
-
الأميرُ النائم … والساهرون على حُلمه
-
نغتالُ الوترَ … ونرقصُ على نغمِه!!
-
لماذا نكرهُ مَن يحبُّ؟!
-
كرامةُ المعلّم… ة
-
بين القمحِ والفكر… شكرًا د. “حسام بدراوي-
-
مشرقاتٌ … في -منتدى القيادات النسائية-
-
صالون العدل
-
القديس -دي لا سال”... رائد التعليم في مصر
-
عيني ترى… لا شيءَ اسمُه: -العمى-
-
“صبحي- … فارسًا يكشفُ المستور
-
في -عيد الأب-… أقدّمُ لكم أبي
-
هجرةُ النساء في ...”ليلة العيد-
-
يرشقون نوافذَ القطارات! مِقصلةُ الفرص الجميلة!
-
-سميحة أيوب- … عِناقٌ أخير
-
مباركٌ شعبي مصر
-
رسالة إلى -مصر الخير-…. -المتوحّدون- وحيدون!
-
-فرير الخرنفش- … يستثمرون في الشمس
-
“دقّة قديمة-… عزفٌ على أوتار الهُويّة المصرية
-
عيد ميلاد -عادل إمام-… الخالد في ضمائرنا
المزيد.....
-
من سوريا إلى ألمانيا .. العنف الطائفي وصل الشتات السوري
-
صحيفة سويسرية: الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط بين التهديد
...
-
حركات يهودية مناهضة للصهيونية تتحدى إسرائيل من أوروبا
-
وفاة شاب في الجامع الأموي.. السبب يشعل مواقع التواصل
-
الأردن.. النيابة تستدعي -متسترين- على أملاك جماعة الإخوان
-
مقتل الشاب يوسف اللباد بعد اعتقاله بالجامع الأموي يثير جدلا
...
-
النيابة الأردنية تستدعي متهمين -بالتستر- على أملاك جماعة الإ
...
-
مكتبة الفاتيكان.. صرح تاريخي وإرث معرفي يمتد لقرون
-
فلسطين.. ملثمون يعتدون بالضرب على رئيس بلدية الخليل أثناء خر
...
-
سوريا: وزيرا الداخلية والعدل يتعهدان بمحاسبة المتورطين في حا
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|