أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - “نجيب محفوظ-… سيدُ المفارقات














المزيد.....

“نجيب محفوظ-… سيدُ المفارقات


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 11:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


Facebook: @NaootOfficial
سألتُه ذاتَ لقاءٍ، في فيلا الدكتور "يحيى الرخاوي" بالمقطم:
- "أستاذ نجيب، هل تذكر اسم طاعنك؟"
ابتسم بحنوّ، كأنه يتحدّث عن ولدٍ عاق، وقال:
- “لا. بس سامحته.”
هكذا يردُّ الكبارُ على طعنات الصغار: بالعفو. عفوٌ لا يصدرُ عن خضوع، بل عن قامةٍ شاهقة تعلو وتسمو؛ فلا ترى نصالَ الخناجر حين تمزّقُ الأوردة، إلا حماقة عابرة من يد مرتعشة. ابتسم "محفوظ" في وجه الموت، وعفا عن قاتليه، بينما العاديون لا يستطيعون أن يغفروا لمن تأخر عن موعد.
وأنا كذلك لا أعرف اسم الأحمق الذي غرز خنجره في عنق "نجيب محفوظ"، لكنني أعرف أن الخنجر ارتدّ إلى صدره وصدر مُحرّضه. ونجا صدر "محفوظ" النحيل الذي اتسع، على نُحوله، ليضمَّ مصرَ بكاملها. الطعناتُ لا تقتل الكبار، بل تمنحهم جوازَ سفر أبديًّا إلى ذاكرة العالم. أما القتلة، فيُلقى بهم إلى نفايات التاريخ، بلا أسماء.
فالتاريخ قاسٍ في عدالته. لا يُبقي في سِجلِّه إلا الأسماءَ التي أضافت إلى إنسانية البشر شيئًا من النور. أما القتلة والمهووسون والجهلاءُ والحمقى، فيذروهم الزمانُ كما يذرو الريحُ غبارَ الطريق، فينمحي أثرُهم كما تُمحى آثارُ الأقدام الواهنة. لهذا، ظلّ "محفوظ" حاضرًا في الوجدان الجمعي، فيما الذين كفّروه أو رفعوا السكاكين في وجهه، غابوا في قاع النسيان. التاريخُ لا يذكر أسماء شانقي العظماء، بل يتركهم للعدم. من يذكر اسم قاتل "المتنبي"؟ أو شانق "عمر المختار"؟ أو صالب "الحلاج"؟ أو ساحل "هيباتيا"؟ لا أحد. لكن أسماء هؤلاء باقية كالكواكب في السماء. و"نجيب محفوظ" أحد أولئك الذين لا يخبو ضوءهم.
حاولوا إسكاتَه بخنجر، فإذا بصوته يعلو. حاولوا تشويهه بتكفير، فإذا بصورته تزداد نُصوعًا وإشراقًا. لم يدركوا أن القلم لا يُطعن. أصابعه التي تجمدت على شكل قلم كانت تقول: سأكتب حتى بعدما أرحل. كلُّ عام يمرّ على رحيله، نزداد يقينًا بأن الموتَ لا يعرفُ للكبار طريقًا. "محفوظ" ليس ذكرى، بل حاضرٌ يكتبنا، في الأزهر والجمالية، في مقاهي وسط البلد، وفي مناهج الجامعات حول العالم.
بعد الطعنة الغادرة صار يكتب بخط مرتعش. أذكر أنني جريتُ يومًا من فندق "شبرد" إلى مكتبة "سميراميس" لأشتري نسخة من “الطريق”، أقرب رواياته إلى قلبي، كي يوقّعها. استغرق خمس دقائق ليكتب اسمَه، وخمسًا أخرى ليكتب التاريخ. عشر دقائق كاملة كي يترك لي أثرًا لا يُقدَّر بثمن. أشفقتُ على يده فحاولتُ جذب الكتاب قبل التاريخ، فعاتبني قائلا: "إياك أن توقّعي دون تاريخ.” علمني أن التاريخ ختمُ البقاء. الحبر يجف، والتاريخ يحفظه من الذوبان.
"نجيب محفوظ" هو المفارقة كلها: جسد ضعيف يتهاوى، وعقل يسبق الزمن. شيخ في التسعين، يضحك بخفة صبيّ، ويكتب بجدية حكيم. رجلٌ خرج من حارة ضيّقة، ليضع مصرَ على خارطة الأدب العالمي. صوتٌ راموا إسكاته، فصار أعلى من كل ضجيج. رواياته مرايا عدّة في آن واحد: مرآة لوجه مصر الحضاري، ومرآة لخيباتها، ومرآة لأحلامها المؤجلة. كتب عن الحرافيش الذين ما زالوا يحومون في حاراتنا، وعن "سي السيد" الذي يتكرّر بأسماء مختلفة في بيوتاتنا، وعن "زبيدة" التي لا تزال تقيم في أزقة الغواية، وعن "أمينة" التي استكانت في بيتها من أجل أبنائها.
رماه المتزمتون بالرذيلة لأنه رسم “زبيدة”، ونسيوا أن "السيد أحمد عبد الجواد" كان نموذجًا للفسق المقنَّع الذي ينام في بيوتهم كل ليلة. لم يشغلهم اللصوصُ ولا الخونة ولا الكذابون، وشغلتهم سيقان النساء. رحل مكفّروه إلى العدم. وتاه طاعنوه في النسيان. وبقى.
"نجيب محفوظ" لم يكن كاتبًا وحسب؛ كان تجربة وجودية كاملة. رجلٌ كتب الأزقّة والحواري، لكنه في الحقيقة كان يكتب أسئلة الوجود الكبرى: الله، الحرية، المصير، والعبث. كتب عن البسطاء والفتوات، عن السكارى والمهمشين، عن العلاقة الملتبسة بين السلطة والإنسان. حوّل الحارة إلى مسرح كوني، وجعل شخوصه، الذين يشبهون جيراننا، رموزًا تتنازعها الفلسفة والسياسة والتاريخ. وحين حاولوا إسكاته بخنجر، لم يدركوا أن القلم لا يُطعن. القلم يظل يكتب حتى وهو غائب عن اليد. أصابعه التي تجمّدت على شكل قلم، بعد الطعنة، ظلّت تمسك بالفراغ كأنه ورقة لا تنتهي.
في مثل هذي الأيام، قبل أعوام طوال، أغمض "نجيب محفوظ" عينيه على الدنيا، وفتحهما على الخلود. فالعظماء لا يموتون. إنّهم يتوزّعون بيننا كأغانٍ شعبية تظلّ حاضرة تتردد في أعماقنا ومسامعنا دون خفوت. ستظلّ بيننا يا "عم نجيب" ما دامت القاهرة تنبض، وما دام الحلم العربي يبحث عن مرفأ. مازلتَ هنا: في الأزقة، في المقاهي، في وجوه البسطاء، في دفاترنا المدرسية، وفي قلوبنا.


***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الضحايا جلاّدون … في The 8 Show
- “مريم-… أيقونةُ الحنوّ الكوني
- في مديح -العُسر- … و-التصوّف-
- أبي … وأبي الروحي
- موسمُ الرياض سعوديًّا… وعقلٌ لا يعجبه العجب!
- أقلامُهنَّ … في ميزان البحث الأكاديمي
- احترامُ جلال الموت
- -مصرُ- و -غزّة”… التاريخُ يشهدُ بما يُغنينا عن الكلام
- فيروز … هاكِ مِنديلي لتُخبّئي دموعَك
- -كتالوج-... الأبوة والأمومة
- الأميرُ النائم … والساهرون على حُلمه
- نغتالُ الوترَ … ونرقصُ على نغمِه!!
- لماذا نكرهُ مَن يحبُّ؟!
- كرامةُ المعلّم… ة
- بين القمحِ والفكر… شكرًا د. “حسام بدراوي-
- مشرقاتٌ … في -منتدى القيادات النسائية-
- صالون العدل
- القديس -دي لا سال”... رائد التعليم في مصر
- عيني ترى… لا شيءَ اسمُه: -العمى-
- “صبحي- … فارسًا يكشفُ المستور


المزيد.....




- ميغان تشوريتز.. النجمة اليهودية التي تحدت الصهيونية بجنوب أف ...
- محافظة القدس: إسرائيل تدمر آثارا إسلامية أسفل المسجد الأقصى ...
- محافظة القدس: إسرائيل تدمر آثارا إسلامية أسفل المسجد الأقصى ...
- فرنسا: نصب تذكاري للمحرقة اليهودية يتعرض للتشويه بعبارة -الح ...
- محافظة القدس: الاحتلال يدمّر آثارا إسلامية أموية أسفل المسجد ...
- حرس الثورة الاسلامية: اليمن سيوجّه ردّا قاسيا للصهاينة
- “نحن أبناء الأرض”.. مسيحيو غزة يرفضون التهجير
- مسيحيو غزة: باقون في الأرض رغم القصف والتهجير
- رئيس الوكالة اليهودية يلغي زيارته لجنوب إفريقيا خشية اعتقاله ...
- إسرائيل تمنح وسام الرئاسة لزعيم الطائفة الدرزية


المزيد.....

- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - “نجيب محفوظ-… سيدُ المفارقات