أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - “مريم-… أيقونةُ الحنوّ الكوني














المزيد.....

“مريم-… أيقونةُ الحنوّ الكوني


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 09:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


Facebook: @NaootOfficial

في وجهها اجتمع المختلفون، كما تجتمع الأنهارُ في بحر واحد. في القرآن الكريم، ذُكرت بالاسم وصارت سورةً كاملة تحمل اسمَها عنوانًا، وفي الإنجيل رُفعت فوق نساء الأرض جميعًا. وحين اختلفت زوايا النظرِ إليها، بقي جوهرُها واحدًا: أمّ حنون، وديعةٌ، بسيطةٌ، نقية. إنّها تجسيدٌ لفكرة عميقة ومحسومة: أن العالم، مهما اختلف، لا بدّ أن يتفق على صورة "الأم”.
ومن بين آلاف الصور التي خطّها الفنّانون للسيدة العذراء، توقفتُ طويلاً أمام لوحة رسمها ابني "عمر"، زهرتي المتفرّدة على "طيف التوحّد"، وفنّاني الصغير، أعتبرُها أجملَ وأصدق ما رسم. لوحة مشبعة بالألوان النظيفة: العذراءُ مريم في وشاحها الأزرق السماوي الشهير، تميل على وليدها السيد المسيح وهو طفلٌ رضيعٌ، ينظر في عينيها وتنظر في عينيه، ويضحكُ كلٌّ منهما للآخر وهي تناغيه وتلاعبه، فيمدّ كفَّه الصغيرة يقبض على خِنصرها، كأنما يتشبّث بالحياة عبر إصبع أمّه. لعلّها هذه اللوحة الوحيدة التي لا تظهر فيها العذراءُ حزينةً دامعة. بل أمٌّ صغيرة فرحة بوليدها. أدرك صغيري "عمر" بحسّه الفطري النافذ أن هذه السيدة هي رمزُ الأمومة الخالصة في أبهى وأنقى صورها. لم يكن بحاجة إلى قراءة تاريخ العذراء في النصوص الدينية، كما قرأنا نحن، لكن سحرها الوضاء أنبأه بالحكاية كلها. ربما سمعني أناجيها مرّةً بدموعي وأقولُ لها: “أنتِ أمٌّ مثلي، وتشعرين بقلبي الموجوع على صغيري المتوحّد.” فاختصر "عمر" في لوحته ما كتبه الشعراءُ في آلاف القصائد: أن الأمومة هي انحناءُ القلبِ على ضَعفه الأجمل.
نادرًا ما اتفقت البشريّةُ على وجهٍ واحد، لكنّها جميعًا وقفت بإجلال أمام ملامح امرأة فقيرة من الناصرة، فتاة هادئة لم تعرف قصور الملوك ولا رغد العيش ولا أبهاء الثراء، ومع ذلك صارت أمًّا كونيّة، تميل على العالم كلّه؛ مثلما تميل الأمّ على مهد طفلها. تلك هي العذراء البتول، عليها وعلى ابنها السلام، التي أحبّها المسلمُ والمسيحي، المؤمنُ وغير المؤمن، لأن "الأمومة" لا تسأل عن بطاقة هوية، ولأن الحنوّ لا يحتاج إلى عقيدة ليدخل القلب. صارت السيدة العذراء رمزًا عابرًا للأديان والثقافات، ونافذةً تطلّ منها الرحمةُ على العالم، وتتنزّل عبرها الطمأنينةُ على القلوب. أمام ملامحها، لا يسأل أحد عن دين أو مذهب أو قومية، لأن الأمومةَ لا تحتاج إلى تأويل: هي الحنانُ في أنقى صوره.
اليوم، يحتفل أشقاؤنا المسيحيون بعيد السيدة العذراء، بعدما صاموا خمسة عشر يومًا تمجيدًا لاسمها القدسي. وصوم العذراء ليس مجرّد طقس جوع عن الطعام، بل هو عطشٌ إلى ما تمثّله العذراء من قيم: النقاء، الزهد، الصبر، التضحية. حين يُمسك الجسدُ عن الطعام، يتذكّر القلبُ جوعه الأعمق: جوعه إلى أمّ تمسح جبينَه، وتحمل عنه أوجاعَه. الصوم هنا ليس طقسًا دينيًّا، بل نشيدٌ للرحمة، واستدعاءٌ لذاكرة الأمومة التي اتفقت عليها القلوب، مهما اختلفت.
ولعلّ أجمل ما يرسم صورة العذراء في أذهاننا، هو ما حُكي عن المتصوّف الأجمل "شمس الدين التبريزي"، صديق مولانا "جلال الدين الرومي" ورفيق قلبه. فقد شبّه الأديانَ بالأنهار التي تصبُّ في بحر واحد، وحكى قصة المسافرين الأربعة: اليوناني، العربي، الفارسي، التركي، الذين تشاجروا حول أسماء العنب في لغاتهم المختلفة، ولم يفهموا أنّ الثمرة واحدة. عندها جاء صوفي حكيم جمعهم على لُبّ الثمرة وعصيرها، وعلّمهم: إن الجوهرَ واحدٌ، أما القشور فمجرد اختلاف في اللسان.
وهكذا هي "مريم العذراء”: ليست رمزًا لطقس بعينه ولا لطائفة محددة، بل نبعٌ صافٍ للرحمة والحب غير المشروط. من حقّ المسلم أن يتشبّث بها كما المسيحي، فهي نافذةُ الحنو التي لا تُغلق في وجه أحد، ونهرُ المحبة الذي يفيض على الجميع. إنها الأمّ التي تظلّ، كما قال شمس التبريزي: علامة على أنّ القلب التقيّ أوسع من الحدود، وأرحب من اختلاف العقائد.
"مريم" ليست شخصية من الماضي، بل حضور متجدّد، يطلّ كل يوم ليذكّر الإنسانَ بوجهه الآخر المنسيّ في غبرة الهموم: الوجه الطفولي، العاجز، الباحث عن صدرٍ يحتويه. إنها وجه الأمومة الذي لم تشُبه مصلحةٌ، ولم يلوّثه غرورُ السلطة أو غوايةُ القوة. هي “نعم” التي قالتها للغيب، لتغدو شريكةً في معجزة ميلاد الكلمة. وهكذا، تجاوزت "مريمُ" التاريخَ لتصبح أمّ الكونيّة: حاضرةً في القرآن والإنجيل، وفي الأدب والفن، وفي وجدان البشرية على اختلاف عقائدها، لأن الأمومة جواز سفر عابر للزمان والمكان.
كل عام وأشقاؤنا المسيحيون بخير، وعيدٌ مبارك للسيدة العذراء؛ يحتفلون به ويدعون الله أن يحمي بلادنا الطيبة وينجيها من كيد الحاقدين. وتظلُّ الأمومة: الصلاة َ التي لا تنقطع.

***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مديح -العُسر- … و-التصوّف-
- أبي … وأبي الروحي
- موسمُ الرياض سعوديًّا… وعقلٌ لا يعجبه العجب!
- أقلامُهنَّ … في ميزان البحث الأكاديمي
- احترامُ جلال الموت
- -مصرُ- و -غزّة”… التاريخُ يشهدُ بما يُغنينا عن الكلام
- فيروز … هاكِ مِنديلي لتُخبّئي دموعَك
- -كتالوج-... الأبوة والأمومة
- الأميرُ النائم … والساهرون على حُلمه
- نغتالُ الوترَ … ونرقصُ على نغمِه!!
- لماذا نكرهُ مَن يحبُّ؟!
- كرامةُ المعلّم… ة
- بين القمحِ والفكر… شكرًا د. “حسام بدراوي-
- مشرقاتٌ … في -منتدى القيادات النسائية-
- صالون العدل
- القديس -دي لا سال”... رائد التعليم في مصر
- عيني ترى… لا شيءَ اسمُه: -العمى-
- “صبحي- … فارسًا يكشفُ المستور
- في -عيد الأب-… أقدّمُ لكم أبي
- هجرةُ النساء في ...”ليلة العيد-


المزيد.....




- إسرائيليون يقتحمون المسجد الأقصى
- متظاهرون يحتجون أمام كاتدرائية نوتردام في باريس ضد مجازر إسر ...
- ماذا قال السوداني عن استغلال المناسبات الدينية لأغراض سياسية ...
- حماس تحذر من تصعيد المستوطنين في المسجد الأقصى
- «إرهابي مجرم.. عار على الشعب اليهودي».. متظاهرون يلاحقون بن ...
- النيجر تعلن مقتل زعيم بوكو حرام بغارة جوية
- مؤتمر -غزة مسؤولية إسلامية وإنسانية- في إسطنبول ينطلق بنداء ...
- متى ستحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟
- من يتحمل المسؤولية عن العنف الطائفي في سوريا؟
- بمشاركة نحو 100 عالم دين.. انطلاق -مؤتمر غزة- في إسطنبول


المزيد.....

- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - “مريم-… أيقونةُ الحنوّ الكوني