علي حسين العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 10:29
المحور:
الادب والفن
كنت نائمًا على السرير في أحضان أبي ,أمي وأخي وأختي في بيت جدتي. لم أذهب معهم لأسباب لا أتذكرها حقًا. كنا قد استيقظنا قبل قليل على أصوات إطلاق الرصاص القريبة. نحن بالعادة كنا قد تعودنا عليها، لكن كثافتها وقربها جعلاها تستحق أن نخرج بعد منتصف الليل للنظر في السماء، لعلنا نرى آثارها فنحدد موقعها التقريبي.
لم نرَ شيئًا. أدخلني أبي وأغلق الباب بسلسلة ضخمة، وقفلها بإحكام، ثم رجعنا إلى النوم.
استيقظت بعدها على صوت أمي وهي تناديني بطريقة تشبه الهمس: "علي… علي… علي". مما جعلني أرفع رأسي لأتفحص أرجاء الغرفة جيدًا، فلم أجد أحدًا. وبالتأكيد أمي لم تكن تناديني. استيقظ أبي فقلت له:
– بابا، أكو وحدة تصيح باسمي، تكول: "علي… علي".
وحاولت تقليد طريقة همسها فلم أفلح.
أرجعني أبي إلى حضنه وقال لي:
– ماكو شي، نام بابا، هاي يتهيأ لك.
وبالفعل عدت إلى النوم، وفي اللحظات التي سبقت دخولي عالم الأحلام، كنت متأكدًا أنهم حاولوا التواصل معي من خلال صوت أمي. هذه كانت بدايتهم معي، أو هذا ما كنت أظنه.
والحق يُقال: عندما أفكر بكل العوامل والظروف والأحداث، ألومهم على تأخرهم في التواصل معي. جلست لأكتب عنهم وعن حوادثي معهم، التي استمرت إلى فترات طويلة بعد خروجنا من هذا المنزل. فوجدت أن العامل الأهم للبحث من خلاله هو تاريخ هذا المنزل الذي كنا نسكن فيه والمنطقة بشكل عام.
فمنطقتنا القديمة كانت مبنية على الطراز اليهودي، وسكنها اليهود منذ القدم. أتذكر أول مرة دخلت فيها هذا المنزل، رأيت كتابات غريبة على الحائط وعلى جوانب فتحة السقف الكبيرة. عرفت بعدما كبرت أنها كتابات عبرية متنوعة. وأتذكر أيضًا باب منزل جيراننا، حيث كانت هناك كتابات يهودية على مدخله مع تاريخ 1931. وهكذا كانت أغلب المنازل مبنية على الطراز اليهودي، وسكنها اليهود.
وأتذكر أيضًا ما قرأته عن الحرب العراقية الإيرانية، وكيف سقط أحد الصواريخ الإيرانية في منطقتنا، مما قتل الكثير من أبناء المنطقة. ولحسن الحظ غادرت جدتي مع أمي وخالاتي المنطقة قبل سقوط الصاروخ بعام. تسبب الصاروخ بمسح بعض بيوت المنطقة مع سكانها وتدمير بعضها الآخر. ويُقال – وأنا غير متأكد – إنه تسبب بتدمير المقبرة اليهودية مع أمواتها، فلم يبقَ منها شيء. كل ما تبقى هو ذكريات أن مقبرة يهودية كانت هنا، نساها الكثير من أبناء المنطقة فيما بعد.
أتذكر الآن ما رأيته داخل منزلنا عندما انهارت الأرضية وسقطنا إلى السرداب الذي لم نكن نعلم بوجوده، إذ كان أبي قد أغلقه خوفًا علينا. سقطت أنا وأبي والقنفة في إإحدى زواياه، فرأيت العجب. فقد حاول أبي قبل أن نسكن هذا البيت طمر السرداب، فجلب ركام بعض البيوت المدمرة المنتشرة في الشارع وبعض الطابوق المقرنص، لكنه توقف في منتصف الطريق، لأن العملية كانت ستتطلب الكثير من العمل والجهد. فاكتفى بطمره نصفياً، وأغلق مدخله بالسمنت والرمل، وغطّاه باباه ومدخله بصورة عليها منظر طبيعي لشلال أبيض وسط غابة خضراء.
كان السرداب يحتوي على كتابات يهودية منقوشة على جوانبه وعلى امتداده. رأيت بعض الهياكل العظمية لحيوانات مختلفة: جرذان، قطط، وعلى ما أتذكر عظام رأس يشبه رأس أفعى. خرجنا بسرعة من السرداب من خلال التسلق. ثم جمع أبي أصدقاءه وأراهم الأمر، فأبدوا استغرابهم، ولم يلبث أن قام بإغلاقه مجددًا، بالمزيد من الطابوق المقرنص مع السمنت والرمل، محذرًا إيانا من الركض بسرعة في أرجاء المنزل.
كانت منطقتنا وشارعنا مليئين بالغرابة، ولهما تاريخ ثري مع اليهود، وفيهما ما تبقى من مقبرة قديمة و عوائل تبخرت في انفجار صاروخ، وبقايا حيوانات. أعتقد أنهم بالفعل تأخروا في التواصل معي أو مع أحد إخوتي. فربما كانت "أية الكرسي" حصنًا منيعًا، كما منعت العقارب من قرصي ، منعتهم أيضًا من التواصل معي.
ربما يجب أن أخبركم ايضاً عن "بيت المصري" الذي يقع خلفنا، والأذى من سكانه الأصليين الذي طالنا. فقد قام أبي في أحد فصول الصيف بإصلاح واحدة من الغرف الثلاث المدمرة في الطابق الثاني من منزلنا ليجعلها غرفة للنوم. وأتذكر عمله الجاد بتحويلها إلى ما يشبه الغرفة: وضع فيها الأخشاب الجديدة، وبنى لها شباكًا وبابًا وسقفًا لا يسرب المياه، فقد كان تسريب المياه خلال الأمطار مشكلة كبرى لنا. فوضعنا طبقات كثيرة من النايلون الزراعي، وبعده الشفاف، ووضعنا الكثير من بقايا الطابوق التي كلفني أبي بجمعها. فأصبحت بحق غرفة في ذلك الوقت. أما الآن، عندما أتذكرها، فإنها شبه غرفة، لأنها متروكة دائمًا، والغبار يغطيها، وكانت حارة جدًا ومخيفة قليلًا.
ففي المرات القليلة التي كنا ننام فيها، كان السقف ينقل لنا أصواتًا مرعبة ومزعجة، كأن هناك من يلقي الحجارة على السطح. ومصدر الحجارة كان "بيت المصري". وهو بيت خلفنا متروك منذ زمن، سكنته عائلة عراقية – مصرية: الزوج مصري متزوج من عراقية، ولهما أبناء، منهم ابن كبير من زوجته المصرية الأولى وابنة رضيعة من زوجته العراقية. لم يسكنوا طويلًا في هذا المنزل، فتركوه، لكنه بقي يُسمى "بيت المصري". ومنه كانت تأتي الأصوات والحجارة.
منعني أبي عندما كنت صغيرًا من الاقتراب إلى "بيت المصري"، سواء كان مسكونًا من قبل العائلة أو حتى بعد خروجهم. وأتذكر مرة عندما دعاني ابنهم الكبير – وكان أكبر مني بكثير – للعب لعبة "سونك" على جهاز البلايستيشن الذي يمتلكه. دخلت عصراً، وخرجت عند الغروب على صياح أبي وتحذيراته ووعيده، لأنني خالفت كلامه.
عندما تدخل إلى "بيت المصري" ستجد ممرًا طوله متران تقريبًا. في نهايته قطعة قماش معلقة تزيحها لكي تتمكن من الدخول الفعلي للمنزل. والحقيقة أنه لم يكن منزلاً تقليديًا، فالبيت من تصميم يهودي بغدادي قديم، وعادة ما تكون هذه المنازل بلا أسقف، وتتكون من طابقين في وسطهما حوش كبير، والغرف موزعة على جوانبه الأربع. أحصيتها: أربع غرف، ثلاث منها ممتلئة بالأوساخ والأنقاض ومغلقة، لكن داخلها واضح من خلال شبابيكها. وقد قامت العائلة بتغطية الأبواب بقطع قماش مشابهة لتلك التي تقابلك في الممر.
الطابق الثاني لم يستخدموه أبدًا. اكتفوا بغرفة من الثمان غرف، مع حوش كبير وضعوا فيه مطبخًا، أو ما يدل على كونه مكانًا لإعداد الطعام، من خلال أواني الطبخ القديمة المليئة بالصخام الأسود. في الحوش الكبير كان يجلس تلفاز قديم، لكني لم أهتم به لأن "سونك" كانت تنتظر من يلعبها علي شاشاته. فبدأت اللعب حتى فقدت الإحساس بالزمان والمكان. في لحظة غريبة – أراها اليوم بوضوح – نظرت خلفي، فوجدت العائلة كلها تنظر إلي، وعلى وجوههم ابتسامة خفيفة: الأب، والأم وبين يديها الطفلة الرضيعة، والابن الكبير. لم أهتم حينها، لكني اليوم أتوقف عندها كثيرًا.
خرجت عند الغروب كما ذكرت، على صوت أبي وهو يصرخ باسمي: "علي… علي". فركضت مسرعًا إلى البيت، لتنتهي بذلك زيارتي الأولى والأخيرة لهذه العائلة. لم تبقَ تلك العائلة طويلًا في المنزل. والسبب – كما عرفت عندما استرقت السمع – أنهم لم يستطيعوا التحمل أكثر، خاصة عندما تجرؤوا على خطف الرضيعة من يد أمها. خرجت الأم إلى الشارع تطلب المساعدة لإعادة طفلتها، فدخل البعض ليجدوا الرضيعة تطوف عند أبواب إحدى الغرف الثلاث المغلقة.
غادرت العائلة المنزل، وبقي مهجورًا فترة طويلة، إلى أن تم تهديمه وإضافة أرضه إلى كراج السيارات المجاور. لتبقى الأسرار داخله، وفي سردابه وغرفه. أنا على يقين أن "بيت المصري" كان يحتوي تاريخًا ثريًا، لكنه اندثر. سردابه الذي آمنت بوجوده، وغرفه وموقعه، وكونه بيتًا له دور في المقاومة ضد الأمريكان. فقد وجدنا قنابر هاون من عيارات كبيرة عندما قمنا – في إحدى المرات – باستكشافه وهو مهجور. عبرنا إليه من سطحنا ونزلنا إلى الطابق الثاني، لكننا لم نستمر طويلًا بعدما رأينا القذائف، فخرجنا سريعًا، ومسحناها كما طلب أبي خوفًا من البصمات التي تركنها عندما لمسنا أحدى القذائف المغطاة بالغبار.
أتذكر الحدث الأخير عندما كنت ألعب في كراج السيارات الخلفي. كانت حدود الكراج هي المنازل المحيطة به. ففي أثناء اللعب اقتربت من أحد الحيطان، وبلا سبب نظرت إليه بتمعن لأول مرة للفراغات ما بين الطابوق، فوجدت ورقة مخفية بين شقوقه. ورقة مربعة صفراء اللون، مرسوم عليها نجمة داود، وعليها أحرف ورموز. كانت مغلقة بخيط أسود كخيط الخياطة. ناديت أصدقائي للنظر فيها، فقالوا إنها سحر، وإن عليّ أن أتوضأ للتخلص منه. ركضت وقتها للوضوء بجدية وببطء، هاربًا من المصيبة السحرية.
عندما أفكر جديًا في هذه المواقف، أقف أمام خيارين: إما التوغل فيها لدرجة الجنون، أو تركها ونسيانها كما فعل الجميع. والحقيقة أنني سأنقذ نفسي باختياري خيارًا ثالثًا: أكتب عنها وأعرضها، ثم أتركها، فأرضي خوفي وفضولي في هذا الحل. وكما يقولون: "ضربتُ عصفورين بحجر واحد
#علي_حسين_العراقي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟