|
الأنوثة المبدعة بين الزمن والرمز: قراءة سيميائية في قصيدتي -سيدة المواسم -و-لا خريف في الحب- من مجموعة- حي بن سكران -للشاعر المبدع شلال عنوز
سعد محمد مهدي غلام
الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 16:01
المحور:
الادب والفن
مقدمة نتناول في هذه القراءة السيميائية المقتضبة نصين للشاعر شلال عنوز من مجموعته الشعرية الأخيرة حي بن سكران (هي سلسلة من القراءات ستشمل كامل نصوص المجموعة) . أهدى نصه الأول من النصين قيد القراءة إلى الدكتورة بشرى البستاني، وهو سيدة المواسم والثاني لا خريف في الحب نرى ارتباطه الموضوعي مع الأول، وذلك من خلال تحليل بنية العلامات والرموز، واستكشاف التفاعل الدلالي بين الأنثى، والمكان، والزمن، والحب، ضمن مناخ شعري كثيف يقوم على الانزياح والتناص والتمثيل الرمزي في بيئة وطنية عراقية كونية. تسعى القراءة إلى إبراز كيف تُعيد القصيدتان تشكيل صورة المرأة - المثقفة أو الحبيبة - بوصفها قوة إبداعية وتجددية في مواجهة التآكل الزمني والتاريخي المشبوب بالجندرية المتغلفة والمتغلغلة في أعماق البني الفكرية والثقافية المجتمعية. أدوات التحليل السيميائي كما طوّرها رولان بارت، وغريماس، وأمبرتو إيكو، خير معين لأي قراءة سيميائية، حيث تُدرس العلامة بوصفها وحدة دالة تتولد داخل شبكة من العلاقات السياقية حيث السياق هو عنصر الخطاب اللغوي الرئيسي. وكما يرى بارت: "العلامة لا تكتفي بكونها علاقة بين دال ومدلول، بل تتحول إلى بنية منتجة للمعنى داخل نسق ثقافي" (مبادئ في علم العلامات، ص. 22)، وهو ما يتوافق مع قولنا إن السياق هو مشكاة المقاصد التي نهتدي بها في عملية الفهم. فالإطار العام لزمكانية وحدات النص الصغرى والكبرى، عند تتبعها، يكشف الرسالة التي يقصدها الشاعر بوصفه مرسلًا، موجّهًا خطابه إلى المتلقي في إطار ثقافي وتاريخي محدد. آخذين بنظر الاعتبار الثقافات والمرجعيات والمعتقدات التي نهل منها الشاعر وتشربت بها علامات نصه الدلالية، ندرك أن النص هو حصيلة تراكم اجتماعي وثقافي. وهو ما أشار إليه يوسف وغليسي حين أكد أن "السيميائية ليست مجرد أداة، بل هي أفق يربط النص بسياقه الثقافي والتاريخي، ويكشف عن أنساقه الدفينة" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 15). أما التناصّية، فهي مكوّن آخر أساس في عملية القراءة؛ إذ يتشكل النص من نضد مقصود بوعي أو من تسرب تراكم مختزن من الصور والمشاعر في لا وعي الناص. وهنا يحضر ما ذهب إليه إيكو: "النص مفتوح على تأويلات متعددة، لكن هذه التعددية ليست فوضى، بل تخضع لقوانين التأويل" (السيميائيات والتأويل، ص. 63). وهو ما يعزز الفكرة أن التناص ليس مجرد توارد خواطر، بل نسق منظم يثري العلامة ويوسّع أفقها الدلالي. وتُعنى القراءة السيميائية – كما نصّ عليها غريماس – بفهم الكيفية التي تُبنى بها المعاني من خلال الصور والمجازات والإشارات الثقافية واللغوية، حيث يؤكد أن "المعنى لا يُلتقط مباشرة من النص، بل من العلاقات الوظيفية بين وحداته" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41). ومن هنا نحدّد الوظائف الرمزية للعناصر النصية في بناء خطاب شعري كثيف الدلالة، عميق المقاصد. إننا إذ نقوم بتفريغ الطاقة الاشتغالية في بناء النص سيميائيًا، فإننا نفصح عن أعباء الحمولة العاطفية بقياس الشحنة الشعورية المتكتلة داخل الأحواز اللفظية والتعبيرية. وهذا ما يتسق مع رؤية مرتاض حين قال إن القراءة السيميائية هي "رحلة في المقاصد واللامقاصد، حيث ما يصرّح به النص لا يقل أهمية عما يضمره" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 19). فالمعنى إذن ليس ثابتًا، بل يستغرقه مدّ أفق الفهم، حيث تتجدد القراءة بتجدد زوايا النظر، لتشغّل مفاتيح أقفال العلامات النصية مع مراعاة الاقتضاب الذي يسهل مهمة التلقي ولا يخل بعمق التأويل.
أولاً: قراءة في قصيدة" سيدة المواسم" إهداء إلى/ الأستاذة العالمة، الأديبة الشاعرة القديرة الدكتورة بشرى البستاني بمناسبة تكريمها
[قَرأتُها قصيدةً عذراءَ تَكتبُها أصابعُ الفَجر فَيُورق على نَسائم بَوحِها شَجرُ الوطن تُرَوّي ظَمأَ الاشتياق بِلَذيذ خَمر الحَنين مُولَعةً بِسِفر الأصالة يَهزج لَها الربيع أُنشودةَ حُلم في أُمِّ الرَبيعَين في (حيِّ العربي ) تَلتهمُ عَبق عِطر العروبة تَختالُ مُهرةً أصيلةً في أَروِقَةِ جامعة الموصل يَلتحفُها الإبداع تُغنّي على قَلعةِ ( النَمرود ) بَعضاً مِن أُنوثةِ المُدن وتَزقُّ حُزن الفَواخت
في رِئة ( الغابات) تَبُثُّ نَجيَّ أَساها للعراق على رَصيف ( الدَوّاسة) تَعزفُ سيمفونِيَّة الوَجع في مَفاصل الوقت تُسابقُ خُطى الزمن وتَشربُ عَذبَ ما كَتبَ العِظام في شارع المَكتبات تَرسمُ للحالمين أَبجديَّة الجَمال في نَهارات نَينَوى يُهرولُ في لُبِّ مَساراتِها غَبَشُ العِشق فَتَرقصُ على تَراتيلِها أسراب اليَمام رَأيتُها في ( مُكابدات الشَجر) تُضمّد (جُرح العراق بلحنٍ (أندلُسيّ) عِند (خُماسيَّة المِحنة ) فَتَذوب الأرواح العاشِقة بِعَبير( زهر الحدائق ) وتَقولُ لَها لظلّها عِند مُفترق الفصول: البسي شالكِ الأخضر وتعالي .... رأيتُها في بَساتين النارنج تُقبّل (كفَّ العراق) نازفةً وتَمسحُ جَبين الصباح بخُضرة المُناجاة في ( مُخاطبات حوّاء ) لتُرمِّمَ ( ما تركتهُ الريح) مُزدهيةً بجِلبابِها المَوصِليّ الناصع البَياض وما زال الصُبح هائماً يَلثم شَذا الحُبّ يَتنفّس عِطر الإبداع من شَفَتَي سيدة المواسم[
العنوان: تفخيم رمزي وتعبيري يشير إلى شخصية تتجاوز محدودية الفردية ومدارات الحراك في مداها الضيق لتكون تمثيلًا لروح المواسم جميعها، أي تُمثّل الحياة، الخصوبة، التقلب، الشعر، الجمال، الحضور الثقافي والتاريخي وهي رواق الولوج إلى النص. وكما يؤكد رولان بارت: "العنوان نفسه علامة أولية، يفتح أفق التلقي ويوجّه التأويل" (مبادئ في علم العلامات، ص. 54).
القصيدة تفح برائحة هيمنة المجاز الثقافي - الجغرافي؛ فهي تستحضر طيفًا واسعًا من الفضاءات الرمزية المرتبطة بالهوية العربي. العراقية بملامحها الوطنية والقومية المميزة: حي العربي، قلعة النمرود، الغابات، رصيف الدوّاسة، شارع المكتبات، نينوى: هذه ليست مجرد أماكن، بل خرائط للذاكرة الثقافية والتاريخية، وأيقونات لنُبل الانتماء. كما هي محطات تكتسب منها عناصر النص أنفاسها الإشارية. وهنا يلتقي النص مع ما ذهب إليه يوسف وغليسي حين قالا: "المكان في النص علامة كبرى، إذ ينقل الأنساق الثقافية والتاريخية إلى داخل البنية الشعرية" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 102) .
سيمياء الهوية الأنثوية تُقدم الشاعرة المُهدى إليها بصفتها: مهرة، عاشقة، شاعرة، موصلية، مقاومة، ساردة للوطن، مضمّدة للجراح، وهذه هي ما تتركه ريشة الشاعر على خامة لوحته. إنها صورة مركبة تجعل من الأنثى حاضنة للهوية الجماعية. ويؤكد غريماس هنا أن "الأنساق الدلالية لا تُفهم من خلال المفردة وحدها، بل من خلال الوظيفة التي تؤديها داخل النسيج النصي" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41). وبذلك تتحول الأنثى إلى علامة هوية جامعة تُمثل الثقافة بقدر ما تُمثل الفرد.
التناص المرجعي: التناص المرجعي: تستحضر القصيدة أعمالًا للشاعرة د. بشرى البستاني (مثل مخاطبات حواء، ما تركته الريح، خُماسية المحنة، مُكابدات الشجر، وزهر الحدائق) مما يخلق تداخلًا بين النص التكريمي والنص المرجعي. هذا التناص هو بقدر ما هو من رصيد الشاعرة الإبداعي رصيد موفور استعان به الشاعر ليقدمها بحُلة ما تستحقه من مكانة. وبذات الوقت هو دعوة تحث المتلقي لطرق أبواب الدخول إلى عالم الشاعرة الزاخر بالعطاء الإبداعي. ويذهب إيكو إلى أن "التناص هو الطريقة التي يكتب بها النص نصوصًا أخرى في داخله، مولّدًا طبقات إضافية من الدلالة" (السيميائيات والتأويل، ص. 63).
تداخل الربيع بالأنوثة: الأنوثة هنا ليست جسدًا أو هيئة، بل هي قيمة تشكيلية ترسم للوطن فسيفساء جمال وحلم وخصب ووعي. إنها أنوثة تنزع عن نفسها جلابيب الجندر التاريخي المثقل بالحيف، لتعود إلى جوهرها الرمزي: خصب الأرض والماء والهواء. الجسد الأنثوي مُستبطن في المدن، في البساتين، في الحرف والقصيدة، هو روح تسكن الأشياء وتعطيها معناها: "تُقبّل كف العراق... تَمسح جبين الصباح". وهذا ما ينسجم مع رؤية مرتاض: "النص ليس قولًا فقط، بل هو جسد حي، ينهض في الذاكرة الجماعية بما يربطه من دلالات رمزية وجمالية" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 37).
خطاب الحنين والتوق: يمتد النص كأنه مرآة حب، لكنه ليس حبًا شخصيًا، بل حبًا للوطن من خلال أنثى اختزلت رموزه. شلال عنوز يسير في مسار من سبقه من الشعراء المهمين الذين وجدت الأنثى/المرأة، دون أدران الجندر، في روح نصوصهم مهما تعددت أغراض تلك النصوص؛ فهي الملهم والمستلهم، القريب البعيد، الحاضر الغائب. وهذا يلتقي مع ما يذكره بارت: "النصوص لا تعكس الواقع فقط، بل تصنعه من خلال بناء دلالي جديد" (مبادئ في علم العلامات، ص. 66).
لمحات من سيميائية النص: أ. مركزية الأنثى الرمزية: "سيدة المواسم" ليست مجرد امرأة، بل هي أيقونة جامعة للخصوبة، والمقاومة، والإبداع. الشاعر يبنيها من تضافر زمكاني فريد، فتكون المرأة والمدينة (الموصل)، والقصيدة، والوطن.
ب. العلامات المكانية والزمنية: (حيّ العربي - أم الربيعين - شارع المكتبات - النمرود - الدوّاسة): رموز تتعالق فيها الثقافة مع التاريخ والحياة اليومية، لتؤطر المرأة ضمن فضاء حضاري. (المواسم - الفجر - الربيع - مفترق الفصول): تدفقات زمنية تحمل أبعادًا وجودية وتاريخية، ترسّخ حضور الأنثى في الزمن بوصفها مُجدّدة وخصبة.
ج. العلاقة بالوطن واللغة: "تكتبها أصابع الفجر" /الكتابة فعل خلق أنثوي. الشجر، الخمر، اليَمام، الزهر، الشال الأخضر / تكثيف للخصب الأنثوي والروحي. "تضمّد جرح العراق" / المرأة بلسم الوطن وجراحه.
د. التناصات الثقافية: قلعة النمرود، خماسية المحنة، مخاطبات حواء /حضور الرموز التاريخية والدينية يوسّع أفق النص إلى مستويات أسطورية وتأويلية، ويربط بين التاريخي والجغرافي، الأسطوري والواقعي، الفردي والجمعي. وكما يشير إيكو: "التأويل لا يتوقف عند المعنى الأول، بل ينفتح على طبقات لا نهائية من المعاني الممكنة" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).
ثانيًا: قراءة في قصيدة "لا خريف في الحب" [يَتَبارى الربيعُ ضاحكاً في بَساتينِكِ المُندّاة بِعَبقِ النارنجِ تتراقصُ الزهورُ في مُروجِكِ الضاحكة بالخضرة مَن قالَ إنّ القلبَ يشيبُ ؟ لا تَهرمين مادُمتِ أدمنتِ الحُبَّ راقصةً تَحتَفلينَ في هُتون النَّماء حيثُ لا خريفَ في الحُبّ]
العنوان ودلالته: يحمل عنوان القصيدة دلالة سيميائية مركزية وهو نفي التحوّل والزوال؛ فهو يتضمن نفيًا للخريف، أي لنهاية الدورة الحياتية، وللانطفاء أو الذبول، مما يشي بموقفٍ وجوديٍّ جماليّ يتحدى نواميس الفناء عبر طاقة الحب. "لا خريف" هو لا نهاية، لا موت، لا انطفاء للحيوية. ونهاية الدورة الموسمية بقدر ما تعني خاتمة مرحلة تشير أيضًا إلى أفق ينظر إلى بداية أخرى تنم عن ديمومة الفعل الوجودي. وهذا يتسق مع قول رولان بارت: "النصوص الحقيقية لا تكتفي بالتصريح، بل تقيم علاقة مع المحظور واللامفكر فيه، فتنتج مدلولات جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 45).
السيمياء البصرية واللون: الربيع، البساتين، النارنج، الخضرة، الزهور، النماء: كلها إشارات بصرية توحي بالحياة والتفتح والتجدد. نلاحظ أيضًا اعتماد اللون الأخضر ضمنيًا كرمز للخصب والمقاومة والذاكرة الحيّة. الخضرة علامة زهو الطبيعة ونضارتها ولها في النفس أثر يوحي بالسكينة والتوازن المريح، وتسمح بمرور الزمن مع منح فسحة من الأمل. لذلك نجده يوظف في علاجات الإجهاد العصبي وفي مفاهيم الطاقة، إذ للأخضر قدرات هائلة على امتصاص السلبية وإثراء العوامل الإيجابية، ليشغل المكان ويبعث روح التحمل في النظر للغد. الشاعر مدرك لقيم اللون الأخضر فأعطاه مكانته في النص. وهذا يلتقي مع ما ذهب إليه يوسف وغليسي: "الألوان في النص الأدبي علامات تنقل حالات شعورية وتؤسس لفضاءات تأويلية تُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 89).
السيمياء الزمنية: القصيدة تُعلّق الزمن في نقطة واحدة: "ما دُمتِ أدمنتِ الحب". فالحب هنا حالة مستدامة تُبقي الزمن متوهجًا، وترفض تحوّله الطبيعي نحو الخريف. إنها تفعّل تيمة الدهر المعلّق في لحظة حب أبدية، فيتحول الزمان إلى مكان سائل لا يغيّر من قواميته بل يمنح المحب قدرة العبور من الراهن إلى السرمدي، ومن الحاضر إلى الماضي والمستقبل، مما يفقد "الآن" وجوده الصادم وينقل المحب من عالم الصدمة إلى فضاء التجوال الحر في ملكوت الأبدية. وهذا ينسجم مع غريماس حين يقول: "الزمن في النص السردي ليس امتدادًا خطيًا، بل يُعاد تشكيله عبر الوظائف الدلالية للخطاب" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 112).
خطاب التقديس الأنثوي: الأنثى ليست معشوقة عادية، بل تجلٍّ لمفهوم الخصب والدهشة، واحتفال كوني بالوجود: "راقصةً تحتفلين في هُتون النماء" / رمز الخصب الراقص، الكائن الكوني الذي يمنح إيقاعًا للحياة. وكما يرى إيكو: "النصوص التي تستدعي رمزية المرأة تتجاوز الجسد لتؤسس علاقة تأويلية مع الكينونة" (السيميائيات والتأويل، ص. 101).
التوقيع الجمالي: خاتمة القصيدة بتكرار العنوان تؤكد غرضها المركزي وتشير إلى أن النص بأكمله كان تفكيكًا رمزيًا لفكرة الحب الخالد. الحب الذي كل غياب فيه حضور وكل بعيد فيه قريب؛ حيث لا زمن محدود ولا مكان آسر، كل شيء رهن التأمل وضمن ممكن التحول وتحت تصرف المحب العاشق. مرتاض يضيء هذه النقطة بقوله: "النص يتجدد بقدر ما تتجدد زوايا النظر إليه، فهو قول لا ينغلق على معنى واحد" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 37).
لمحات من سيميائية النص: أ. بناء الزمن العاطفي "لا خريف في الحب" هو إعلان شعري عن خروج العاطفة من نواميس الطبيعة. فالأنثى لا تهرم، والحب لا يشيب، لأنهما طاقة متجددة لا تخضع للزمن. الزمن هنا يصبح أداة مطواعة بيد المحبين، بلا بداية ولا نهاية. فالألفا في الحب هي الأوميغا، والأوميغا هي الألفا. وهذا يعيدنا إلى بارت الذي يرى أن "النص شبكة علامات، تُقرأ في دائريتها لا في خطيتها" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30). ب. العلامات النباتية والحسية: النارنج، الخضرة، الزهور، المروج: تشي بجمال أنثوي مشبع بالحياة والخصب. الأفعال (تتراقص، تحتفلين، ترقصين، تهطلين): كلها تؤكد دينامية الأنثى بوصفها فعلًا وحياة.
ج. الجسد كفضاء ربيعي: تحضر الحبيبة بوصفها فضاءً حيويًا، تتماهى مع الطبيعة في أكثر صورها بهجة وخصوبة، مما يعيد تشكيل الحب كطقس احتفالي أبدي. هنا يحضر إيكو مرة أخرى حين يشير إلى أن "النصوص الكبرى تعيد إنتاج الحياة كطقس رمزي متكرر لا ينتهي" (السيميائيات والتأويل، ص. 119). د. البنية الإيقاعية والدلالية: الجمل الشعرية قصيرة، محكمة البناء، ذات نسق تصاعدي أقرب إلى الموسيقى التصويرية كسوناتا ضوء القمر لبيتهوفن. التكرار التركيبي (لا خريف – لا تَهرمين) يؤسس لتمرد على الشيخوخة الزمنية، ويدفع نحو الانفلات من مظهرية السنين إلى جوهر الباطن المكتنز بالحيوية.
ثالثًا: المقارنة السيميائية بين القصيدتين: أ. جدول مركّز (مكثف): سيدة المواسم لا خريف في الحب العنصر
المثقفة/ الوطنية الحبيبة/الخصبة مركز التمثيل
موسمي، دائري، طقسي أبدي، خارج الزمن الحقل الزمني
حضاري/تاريخي/أسطوري طبيعي/جسدي/حسي الفضاء الرمزي
مشهدية، وصفيّة، توثيقية/أحتفالية حسية، غنائية، رمزية اللغة
عرفان، مديح، تقديس غزل، أحتفال، انخطاف نوع العاطفة
هذا الجدول المركّز (المكثف) يمنح القارئ نظرة سريعة، وهو يعبّر عن الوظيفة التي يذكرها غريماس: "المعنى لا يُدرك من التفاصيل منفردة، بل من العلاقات التي تنسجها البنية ككل" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41).
ب. جدول تفصيلي (موسَّع): البعد/المستوى سيدة المواسم لا خريف في الحب
المكان فضاءات ثقافية/تاريخية: (حي العربي، قلعة النمرود، شارع المكتبات، رصيف الدوّاسة، نينوى). فضاءات طبيعية/حسية: (البساتين، المروج، النارنج، الزهور، الخضرة).
الزمن طقوسي/دائري: المواسم، الفجر، مفترق الفصول؛ حضور الزمن كحركة تاريخية متجددة. أبدي/خارج الزمن: تعليق. اللحظة عند "ما دمتِ أدمنتِ الحب"، رفض الشيخوخة والتحول.
الأنثى أيقونة مثقفة/وطنية: الموصليّة، المبدعة، المضمّدة لجراح العراق،رمز ثقافي جامع. معشوقة كونية: تجسد الخصب، الرقص، الاحتفال بالحياة، رمز للانبعاث الأبدي.
الرموز ثقافية/إبداعية: التناص مع أعمال بشرى البستاني (مخاطبات حواء، ما تركته الريح، خماسية المحنة). طبيعية/جمالية: الزهور، الخضرة، الربيع، النارنج كعلامات للخصوبة والديمومة.
اللغة توثيقية، وصفية، احتفالية، قائمة على كثافة المشهد الثقافي. حسية، غنائية، قصيرة الإيقاع، قائمة على التكرار والتصعيد النغمي.
الطاقة الشعورية وجدانية/وطنية: عرفان، مديح، تقديس للرمز الأنثوي الوطني. عاطفية/غزلية: انخطاف، احتفال بالحب، تمرد على الموت والشيخوخة.
هذا الجدول التفصيلي( الموسع) يوضح كيف يفتح النصان فضاءات تأويلية متعددة: أحدهما يحيل إلى الرموز الثقافية والتاريخية، والآخر إلى الرموز الطبيعية والحسية. وهنا نستحضر قول بارت: "النص شبكة علامات، كل قراءة له تعني كتابة جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30). كما أن التداخل بين الجدولين (المكثف والموسع) يُبرز مبدأ "تعدد مستويات القراءة" الذي يؤكد عليه إيكو: "النصوص الكبرى لا تُقرأ مرة واحدة، لأنها لا تنتهي أبدًا" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).
الخاتمة: يتقاطع النصان في إعادة تأهيل الأنثى كقوة كونية ذات طابع رمزي وجودي، سواء كانت سيدة المواسم التي تحتضن الوطن في عباءتها البيضاء الزاهية، أو الحبيبة التي تُبقي الحب ربيعًا أخضر لا يشيخ. ومن خلال شبكة العلامات المتشابكة، ينجح الشاعر في إنتاج خطاب شعري يحمل في طيّاته بعدًا تأويليًا عميقًا، يفتح بابًا لقراءات فلسفية وثقافية متعددة، تمكن القارئ من فتح آفاق توقعاته لتستقبل أبعادًا مضمرة تكتمها العلامة الدلالية وتشير إلى معانٍ أعمق بكثير مما توحي به القراءة الأولى. وعند العودة المتكررة للنص، تتجدد المفهوميات عبر تحديث التأويلات، لينتج الفهم الجديد معنى جديدًا يفنّد السابق. كلا النصين يحتفيان بالأنثى: الأولى شخصية تمثل الكينونة الثقافية لبلاد كاملة في ماضيها وغدها متجاوزة حاضرها الراهن المرتهن لواقع مستلب، والثانية رمز للحب الأبدي الخالد العابر للمحدودية والمتجاوز لضيق الحاضر. وفي الحالتين، يتجاوز النص المعنى الظاهري ليُقيم أنساقًا رمزية مرتبطة بالربيع، بالحب، بالهوية، وبالمقاومة الثقافية. وعلى المتلقي أن يكون حاضر الآفاق المتجددة لتلقيه، متوقعًا تجددًا مستمرًا لتولد المعاني في النصين مع كل عودة. هنا نجد ما قاله رولان بارت: "النص شبكة علامات، كل قراءة له تعني كتابة جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30)، وهو ما ينطبق على قصيدتي شلال عنوز إذ تفتحان بابًا لا نهائيًا لإعادة القراءة. كما يتوافق ذلك مع أمبرتو إيكو حين أكد أن "النصوص الكبرى لا تُقرأ مرة واحدة، لأنها لا تنتهي أبدًا" (السيميائيات والتأويل، ص. 119)، أي أن النص لا يغلق نفسه بل يظل في حالة إنتاج دائم للمعنى. ويضيء عبد الملك مرتاض هذا الأفق حين يصف القراءة السيميائية بأنها "رحلة في المقاصد واللامقاصد، حيث ما يصرّح به النص لا يقل أهمية عما يضمره" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 19). هذا التوازن بين المصرّح والمضمر هو ما يضمن للنص قوته وامتداده في أفق القراءة. كذلك يؤكد غريماس أن "المعنى لا يُفهم من النصوص في معزل، بل من شبكة العلاقات التي تنسجها وحداته" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41)، وهو ما تجلّى في مقارنة النصين حيث يتأسس معنى كل واحد منهما على علاقة بالآخر. ويضيف يوسف وغليسي أن "السيميائية تكشف عن الأنساق الدفينة للنصوص بما هي نتاج ثقافي وتاريخي" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 15). وهكذا يصبح النصان معًا فضاءين متكاملين يكشفان عن أنساق الهوية والخصوبة والحب في أبعادها الوجودية والثقافية. وبذلك، فإن شلال عنوز قدّم في هذين النصين تمثيلين متكاملين للأنثى: المثقفة/الوطن والمحبوبة/الحب. كلاهما يفتحان أفقًا تعدديًا، حيث الشعر مجال للتأويل اللامتناهي، وللحياة نفسها بوصفها نصًا مفتوحًا.
المراجع: 1. بارت، رولان. (1994). مبادئ في علم العلامات. ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي. الدار البيضاء: دار توبقال. 2. إيكو، أمبرتو. (1998). السيميائيات والتأويل. ترجمة: هشام صالح. بيروت: دار الكتاب الجديد. 3. غريماس، أ.ج. (1991). البنية الدلالية للخطاب. ترجمة: أحمد مصطفى حجازي. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة. 4. مرتاض، عبد الملك. (2001). في نظرية القراءة والتأويل. الجزائر: دار هومة. 5. يوسف، عبد الرزاق، وغليسي، عبد المالك. (2007). السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي. الجزائر: منشورات الاختلاف.
#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(قِيَام نَوافِل) (تَهَيُّؤات)
-
( فقط اِبْتَعدِي ...!)
-
(وَجهٌ يَنحَني عَلى غَيمٍ يَشربُ الضَّوء:رَصيفُ رَحيقِ شَفتي
...
-
(ظلالُ الطوفان: رِهانٌ)
-
(حين يُفتي القاضي مرتين: زوال الحياد القضائي ومخالفة النظام
...
-
(على قِمَّةِ العُزلة: رَواتِبُ صَلاةِ اعتِكاف)
-
(غَرِيقُ الهَوَى)
-
(حين يُجرَح القانون: كيف تُستخدم -الشكليات- لتمرير الظلم في
...
-
(حين يُجتهد في مورد النص: أزمة القضاء العراقي بين غياب المسا
...
-
(بِرَوْثِ المَعْجَمِ أَرْهَصُ) (هَذَيانُ عِشْقٍ يَقْتاتُ مِن
...
-
( الشَّاعِرُ: صَيْرُورةُ فَرَاشةِ كَاليمَا)
-
(إضاءة نقدية على قصيدة -انتظار- للشاعر شلال عنوز)
-
(أطيافُ الخراب في مرآةِ الكابوس:شَفَقٌ أَخْضَرُ)
-
(الأنوثة المبدعة بين الزمن والرمز: قراءة سيميائية في قصيدتي
...
-
(المَنْفى)
-
(مراثي زَمانٍ يُبشِّرُ بالخُذلان)
-
(بين ازدواجية الخطاب وتكميم الأصوات: القضاء العراقي في مرآة
...
-
(حين ينتقد القضاة بعضهم علنًا: قراءة في أزمة الخطاب القضائي
...
-
(مراجعة سيميائية عامة لقصيدة الشاعرة بشرى البستاني: [أنثى ال
...
-
(رَهْبَةُ القُرْبِ وَفَزَعُ الغِياب) (مُناجاةٌ بين قيثارةٍ ر
...
المزيد.....
-
شاهد..من عالم الأفلام إلى الواقع: نباتات تتوهج في الظلام!
-
مقاومة الاحتلال بين الكفاح المسلح والحراك المدني في كتاب -سي
...
-
دور الكلمة والشعر في تعزيز الهوية الوطنية والثقافية
-
لا شِّعرَ دونَ حُبّ
-
عبد الهادي سعدون: ما زلنا نراوح للخروج من شرنقة الآداب القلي
...
-
النّاقد السّينمائي محمد عبيدو ل “الشعب”: الكتابات النّقدية م
...
-
الرّباط تحتضن عرض مسرحيّة (البُعد الخامس) لعبد الإله بنهدار
...
-
والدة هند رجب تأمل أن يسهم فيلم يجسد مأساة استشهاد طفلتها بو
...
-
دواين جونسون يشعر بأنه -مُصنّف- كنجم سينمائي -ضخم-
-
أياد عُمانية تجهد لحماية اللّبان أو -كنز- منطقة ظفار
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|