خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 01:59
المحور:
قضايا ثقافية
يمثل التواضع اسمى الفضائل الانسانية التي تسمو بها المجتمعات وتترقى عبر العصور، فهو مرآة صافية تعكس وعي الانسان بحقيقته، بعيدا عن مظاهر الغرور والتعالي.
ليس التواضع ضعفا ولا انكسارا، بل هو قوة في جوهرها واعتراف حكيم بحدود الذات. ومهما ارتقى المرء في مدارج العلم، او اعتلى مناصب السلطة، او جمع من ثروة المال، فانه يظل محتاجا الى من حوله، ويبقى ناقصا ما لم يتوج سلوكه بخلق التواضع.
ان التواضع يفتح للانسان ابواب القلوب ويمنحه محبة الناس وودهم، بينما التكبر لا يجلب سوى النفور والبغضاء، ويهدم جسور المودة والاحترام.
يرى الانسان المتواضع ان ما ينجزه من اعمال وما يحققه من نجاحات لا يعدو ان يكون خطوة بسيطة في طريق طويل، وان هناك من هو ارفع علما واعلى منزلة منه. ومن هنا يكتسب مكانة مميزة في قلوب الناس، فيعلو شأنه بينهم بما يتحلى به من اخلاق سامية وروح نبيلة. عليه فالتواضع ليس خلقا عابرا او مجرد سلوك اجتماعي يزين صاحبه، بل هو جوهر العظمة الانسانية ومرآة النضج الفكري والروحي. وهو العلامة الفارقة بين وهم العظمة والعظمة الحقيقية. فكم من انسان اعتلى مدارج المجد لكنه ظل صغيرا لأن الغرور كبلّه، وكم من انسان متواضع وبسيط ترك اثرا خالدا ، فخلدته ذاكرة الناس والتاريخ. وهذا يمنحه دافعا دائما للسعي نحو المزيد من التقدم والنجاح، ويحفزه على بذل جهد اكبر لبلوغ مراتب اعلى. فالمتواضع لا يرى في نجاحاته نهاية المطاف، ولا يعتبر نفسه الافضل او الاوحد بين الناس، بل يظل يشعر بالتقصير مؤمنا بقدرته على العطاء المستمر وتقديم المزيد.
الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، يتفاعل مع محيطه ويتأثر به، غير أن موقعه داخل هذا المحيط يحدد سلوكه. فالمنصب مثلا قد يمنح الإنسان قيمة، ولكن يكشف حقيقته. فمن كان كبيرا بروحه لن يُنقص منه تواضعه شيئا ، ومن كان صغيرا في داخله لن يزيده المنصب إلا تضخما فارغا ، ذلك أن السيطرة لا تأتي من فرض الذات بالقوة ، بينما الهيبة الحقيقية تأتي من وضوح الروح، لا من تصلب الملامح، ومن صدق التواضع، لا من زيف الاستعلاء. وقد يأتي زيف الاستعلاء لمن يعتلي منصبا بشكل اخر عندما يرى نفسه بحاجة إلى تمثيل او تقمص شخصية غير شخصيته ، فيها مزيج من التصنع والتسلط ليصنع لنفسه هيبة زائفة ، وكأنه في ذلك يخشى أن يُرى على حقيقته. و لكن ما لم يدركه أن القوة لا تُفرض، بل تُمنح، وأن الاحترام الحقيقي لا يُشترى بالخوف، بل يُكتسب بالصدق.
يبقى ارتقاء الفرد او نجاحه سلاحا ذو حدين، فقد يكون سببا في زيادة رفعته ومحبة الناس له اذا تحلى بالتواضع، وقد يتحول الى سبب لسقوطه في اعين الناس اذا قاده الى التكبر والغرور والتعالي. واقعا فإن كلا الحالتين تمثل ، كما كتب السيد سعد معن الالوسي في مقال له عن ذلك ، انعكاسا لحالة نفسية واحدة، تنبع من إدراك الإنسان لذاته أو من جهله بها. فالتواضع الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان، كما أن التكبر ليس سوى محاولة يائسة لملء فراغ داخلي. بينهما تتجلى الطبيعة البشرية بكل تناقضاتها، حيث يخفي البعض هشاشته خلف قناع العظمة، بينما يدرك آخرون أن القوة تكمن في الاعتراف بالحقيقة، لا في محاولة تزويرها.
يقول الدكتور علي الوردي : أن الإنسان حين يشعر بعدم الأمان، فإنه يبالغ في إثبات ذاته، في حين أن الواثق بنفسه لا يحتاج إلى ذلك. هذا ما يجعل التكبر في حقيقته صرخة خوف، لا إعلان قوة، وما يجعل المتواضع أكثر ثباتا من ذلك الذي يحاول أن يعلو فوق الجميع.
يظن المتكبر أن التواضع يقلل من قيمته، بينما الحقيقة أن العظمة تكمن في قدرة الإنسان على النزول من برجه العالي، لا من إلاصرار على البقاء فيه. هكذا يرتبط التواضع بالرفعة، مثلما يرتبط التكبر بالسقوط، وكأنما قانون الحياة لا يتغير: كل متكبر يحمل في داخله بذور سقوطه، وكل متواضع يمضي صعودا دون أن يشعر. وهو ما تؤكده دراسات علم النفس التي ترى أن التواضع ليس مجرد سلوك، بل انعكاس لنضج داخلي يجعل الإنسان في حالة تصالح مع ذاته، لا في صراع مستمر مع الآخرين.
وفي المحصلة يظل التواضع والتكبر ، كما اشرت ، وجهين لصراع داخلي لا ينتهي. التواضع ليس ضعفا كما يظنه المتكبر، بل هو قمة القوة، والتكبر ليس هيبة كما يتخيله المتسلط، بل هو بداية السقوط. بينهما يقف الإنسان، ليختار أحد الطريقين، وهنا إما أن يكون صادقا مع نفسه فيسير مرفوع الرأس بلا حاجة إلى أقنعة، أو أن يعيش في وهم العظمة حتى يكتشف متأخرا أنه لم يكن سوى انعكاس مشوه لمخاوفه.
كمثال حي على أثر غياب التواضع عند بعض المسؤولين ، انقل هذا الموقف عن أحد الأصدقاء الذي لمح بمحض الصدفة، زميلا قديما له خلال مؤتمر عام. فقد جمعتهما سابقا زمالة عمل امتدت لسنوات طويلة في إحدى الدوائر الحكومية، وكانا أيضا خلالها جارين في حي سكني صغير مخصص لمنتسبي تلك الدائرة. بعدها، إنتقل الصديق بعمله الوظيفي الى مكانين آخرين بسببشغر، الظروف غير المستقرة التي عاشها بلده، بينما ارتقى زميله خلال هذه الفترة إلى موقع وزاري كبير .
تقدم الصديق نحو المسؤول ليحييه ويسلم عليه ، ولم يكن في خاطره حين بادر بالسلام سوى الوفاء لزمالة العمل والجيرة، ومجرّد إظهار الاحترام بلا مصلحة ولا غاية شخصية. لكنه فوجئ بالمسؤول يردّ ببرود واختزال جارح: لا أعرفك .
حاول الصديق تذكيره بالاسم، وبأيام العمل المشترك والجيرة التي جمعتهما، إلا أن المسؤول أصرّ على التجاهل بفوقية واضحة. عندها لم يجد الصديق بدّا من الانسحاب، وقلبه مثقل بالدهشة، متسائلاً: كيف يمكن للمنصب أن يغيّر الناس إلى هذا الحد حتى مع زملائهم ممن يحملون مؤهلات تؤهلهم لاي منصب او مهمة.
ذلك الموقف العابر تحوّل إلى درس عميق: المنصب حين يخلو من التواضع، يجد صاحبه نفسه خلف جدار من التعالي والبرود، وربما لا يرى من حوله إلا صدى ألقاب ومناصب. بعدها ردد الصديق على مسامع نفسه القول: أن القلوب الصافية لا ينبغي أن تنكسر أمام جفاء المتكبّرين، بل ينبغي ان تمضي نقية كما هي، تؤدي واجبها تجاه الآخرين بما تُمليه القيم الشخصية وأعراف المجتمع.
ذكرتني هذه ال لا من ذلك المسؤول ب لا الفيلسوف سقراط حين علّم معنى الحكمة وجسد أسمى درجات التواضع الفكري في عبارته الشهيرة:
كل ما أعرفه أني لا أعرف شيئا.
مؤكّدا بهذا أن الاعتراف بالجهل هو مفتاح المعرفة وأساس التواضع.
هذا التواضع قال عنه الفيلسوف الصيني كونفوشيوس انه أساس الفضائل جميعها ، لأنه البوابة التي يدخل منها الإنسان إلى الحكمة والعدل والرحمة. ولعل الفيلسوف نيتشه رغم تشائمه أقرّ بهذا المعنى ايضا حين قال:
العظمة الحقيقية للإنسان تكمن في قدرته على تجاوز ذاته.
ولا يتجاوز الإنسان ذاته إلا حين يتواضع أمام الحقيقة والآخر والإنسانية جمعاء.
بينما كتب باسكال:
العظمة الحقيقية للإنسان تكمن في معرفته بضعفه.
وهذا الوعي بالضعف ليس إذلالا ، بل هو أعظم أشكال القوة.
بعيدا عن ما ضربته من مثل ، فإن الأدباء والمفكرين قد ربطوا التواضع بخلود الأثر، إذ أن العظمة الحقيقية لا تُقاس بالمناصب أو الأموال، بل بما يتركه الإنسان من أثر طيب في نفوس الآخرين.
يقول طاغور في إحدى قصائده: التواضع هو تاج المعرفة، فلا عظمة بلا بساطة.
وفي موضع آخر يقول طاغور :
الكلمة التي لا تنبع من القلب لا تستطيع أن تصل إلى قلب آخر.
كما ميّز الشاعر ابو الطيب المتنبي بين العظمة الزائفة والصدق عندما قال:
كلما ارتفع الشريف تواضع، وكلما تطاول الوضيع تكبّر.
لخص جبران خليل جبران هذه الفكرة بصورة شاعرية حين قال: كلما ازداد الإنسان عظمة ازداد تواضعا، لأن الشجرة المثمرة تنحني بثمارها.
والثمار هنا رمز للعلم والمجد، والانحناء رمز للتواضع الذي يصون هذه الثمار من السقوط.
يقول توفيق الحكيم:
الإنسان لا يُقاس بما يملك أو بما حقق، بل بما أعطى.
ذلك العطاء هو جوهر النجاح الحقيقي، والتواضع هو الصيغة الأرقى لهذا العطاء
هذا المعنى لخّصه جبران خليل جبران في قوله:
ما نقوم به من أجل أنفسنا يموت معنا، وما نقوم به من أجل الآخرين يبقى خالدا.
وهو تأكيد على أن أثر التواضع والعطاء هو ما يمنح الإنسان خلوده الحقيقي.
اما العلماء الكبار فقد وجدوا في التواضع فضيلة لا بد منها، ذلك أن العالم الذي يتواضع يفتح أبواب الحوار والتجديد، أما المتكبّر فيغلق على نفسه وغيره طريق المعرفة.
بعد كل إنجازاته العلمية ، قال العالم اسحق نيوتن:
ما أنا إلا طفل يلعب على شاطئ البحر، بينما محيط الحقيقة ممتد أمامي.
أما العالم آينشتاين فربط بين التواضع والإبداع بقوله:
من لم يخطئ لم يجرّب شيئا جديدا.
في إشارة منه إلى أن الاعتراف بجهلنا أو قصورنا هو الخطوة الأولى نحو الاكتشاف والتقدّم ، بمعنى آخر أن عدم الاعتراف بحدود المعرفة يفتح الطريق أمام الاكتشاف والابتكار.
و في حديث آخر قال العالم أينشتاين:
الإنسان الذي يعتبر نفسه عظيما، هو صغير في عيون الحقيقة.
كما قال آينشتاين: الإنسان يبدأ في أن يكون عظيمًا عندما يتوقف عن التفكير في نفسه. فالعظمة الحقيقية لا تُقاس بما نملكه من مال أو مناصب أو ألقاب، بل بما نتركه من أثر في القلوب والعقول.
اما قول عالم النفس كارل يونغ:
أعظم الناس هم أولئك الذين يعرفون حدود أنفسهم ، ولا يسمحون لأوهام العظمة أن تطمس حقيقتهم.
فيؤكد أن المتواضع ليس شخصا غافلا عن قيمته، بل هو إنسان يعرف حدود نفسه. كما أن التواضع ليس استسلاما ولا تنازلا عن قيمة الذات، بل هو إدراك عميق للحدود البشرية ، ويمثل مرآة للشخصية الناضجة.
كلمة أخيرة:
التواضع ليس مجرد خلق اجتماعي يُجمّل صاحبه، بل هو جوهر العظمة الإنسانية، وبوصلة الأثر الخالد. هو الخيط الذي يصل بين الفكر والوجدان، وبين النجاح والخلود.
يبقى التاريخ شاهد صامت على ان هناك أسماء كثيرة ملأت الدنيا ضجيجا ثم تلاشت، وأسماء أخرى عاشت ببساطة وصدق فخلّدها أثرها. يبقى الأثر هو المعيار الذي لا يخطئ، لأنه يتجاوز حياة الإنسان الفردية ليبقى في ذاكرة الأجيال. وربما هنا نفهم حكمة جبران خليل جبران حين قال:
ما نقوم به من أجل أنفسنا يموت معنا، وما نقوم به من أجل الآخرين يبقى خالدا.
في زمن تُقاس فيه قيمة الإنسان ونجاحه في الحياة بما يملكه من مال و نفوذ ومواقع سياسية او تنفيذية او القاب رنانة او أوسمة فخرية ، لكن الحقيقة أن النجاح يُقاس بما يتركه الفرد من أثر في القلوب والعقول ، ذلك ان الألقاب تزول، والأرقام تُنسى، لكن الأثر هو ما يبقى ، والتواضع شرط أساسي لخلوده. فالتاريخ لا يحفظ الضجيج، لكنه يُخلّد أثر الكلمة الصادقة والموقف النبيل الذي يتركه وراءه. كم من عظماء ماتوا ولم يورّثوا سوى فراغٍ عابر، وكم من بسطاء خلدهم التاريخ لأنهم زرعوا خيرا أو كلمة حقّ أو موقف شجاعة في وقت الحاجة.
فليكن التواضع هو الجسر الذي نعبر به نحو قلوب الناس، وليكن أثرنا الطيب هو ما نتوارثه ونورّثه، لأنه وحده ما يبقى بعد أن نغادر.
يقول الاديب الروسي ليو تولستوي:
عظمة الإنسان الحقيقية لا تقاس بما يملكه أو بما يحققه من نجاحات، بل بقدر ما يكون بسيطا وقريبا من الآخرين.
من هنا نفهم أن المجد بلا تواضع يتحول إلى وهم هشّ، وأن أي نجاح لا تحيطه أخلاق راسخة سرعان ما يفقد بريقه.
الأثر إذن هو المحكّ. قد يرحل الإنسان وتذوب معه الألقاب والأرقام، لكن ما يبقى هو أثر فكره أو موقفه أو لمسة إنسانية خلدتها ذاكرة الآخرين. كم من أسماء كبيرة نُسيت لأنها لم تترك وراءها سوى صدى أجوف، وكم من أشخاص متواضعين خلدهم التاريخ لأنهم منحوا الناس شيئا صادقا وبسيطا.
فلنجعل من تواضعنا الجسر الذي نعبر به إلى إنسانيتنا، ولنجعل أثرنا الطيب هو ما يبقى بعد رحيلنا، لأنه وحده ما يمنح حياتنا معناها، ويجعل ذكرَنا خالدا في صفحات التاريخ وذاكرة القلوب.
المتواضع لا يكون قدوةً لنفسه فقط، بل يصبح معلّمًا للمجتمع بأسره. فعندما يرى الناس أن من يتواضع ترتفع مكانته في القلوب، يدركون أن التواضع هو الطريق إلى المجد الأصيل، لا الغرور الزائف. وحين ينتشر هذا الخلق في المجتمع، تقلّ الأحقاد والخصومات، ويزداد التماسك والتعاون.
لهذا فإن غرس التواضع في نفوس الأبناء منذ الصغر يُعدّ حجر الأساس في بناء مجتمع فاضل. فإذا نشأ الطفل على رؤية والديه يتواضعان في القول والفعل، حمل هذه القيمة معه في مسيرة حياته. وعندها يكون المجتمع قائما على العدالة والإنصاف، حيث العالم يتواضع في علمه، والغني يتواضع في ماله، والقوي يتواضع في قوته، فيسود التكافل وتعمّ الخيرات.
إنّ المجتمعات التي يشيع فيها خلق التواضع تكون أكثر تماسكا وإنسانية، لأن التواضع يُقرّب القلوب ويُزيل الحواجز المصطنعة بين الطبقات والمراتب.
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟