مصطفى نصار
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 01:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بشكل مقصود ، تحولت البلطجية في مصر في عهد حسني مبارك من مجرد ظاهرة مستهجنة و منبوذة لسلاح قوي و مسن يستعمل لتحقيق أغراض سياسية محددة مثل الابتزاز العام أو التأثير السياسي الأمني بغرض الترويع أو الترويض العام و الشامل ، الذي تغلغل بشكل كبير و عام في الدولة الأمنية الباطشة الخاصة بحسني مبارك ، و هذا ما نتج عنه كوارث متعددة و مركبة غرضه الأساسي الذراع الأمني الجديد في الدولة بشكل ارتبط بعنف الدولة المفرط .
و هذا العنف في حقيقة الأمر ما هو غير أداة لتحقيق مصالح محددة للنظام السياسي الغاشم آنذاك ، عبر جعلهم أمناء شرطة و قصر التعيينات حصرًا في الأمن المركزي على الجهال و البلطجية حقًا ، و إطلاق أيديهم في السحل المؤذي للناس في الشوارع و إطلاق العنان للتعذيب في داخل مقرات الأمن المركزي و أقسام الشرطة ، ما ثبت قاعدة اجتماعية مفادها حكم البلطجة أصبح دولة داخل الدولة بطريقة متغلغلة و عميقة داخل الدولة في عهد مبارك ، مع استمرارها العملي و التطبيقي في مختلف المجالات متزامنًا و متماشيًا مع الدولة الرخوة بتعبير جلال أمين أستاذ علم الاقتصاد في كتاب مصر و المصريون في عهد مبارك.
و فكك هذه السياسة الباطشة و الفاشية البنى المؤسسية و الداعمة لفكرة الدولة ، عبر تشكيل حكومة خفية من البلطجية سواء الرسمية بالوساطة في العمل ، و الاعتقالات الجائرة و الظالمة التي لا تدرك غير التنفيذ الحرفي للأوامر و التعليمات مما خلق أرضية خصبة و تربيية للغاية لفكرة ثورة يناير نفسها ، لإنها نسفت بذلك فكرة الأمان الاجتماعي اليومي أي بعبارة أخرى نسف و تهشيم الشخصية و الأمان الشخصي و التعاقدي ، مؤدية بذلك لخلق حالة حنق عامة و متكاملة ككلتها " الثورة باعتبارها شعلة ذاتية " مثلما قال والتر أرمبرست في كتابه تفكيك الثورة.
فبعد الثورة ، تواجدت البلطجية الشوارعية الشعبوية لعدة عوامل رئيسية مبنية على الهيمنة الكاملة على الشارع المصري بعدما كسر قيوده ، و استمر هذه الوتيرة البطيئة و المطاطية لحين انقلاب السيسي ، جاعلًا إياها ركنًا أصيلًا من جمهوريته الجديدة و هي بذلك أسست لمرحلة متموجة من وضع العنف الأمني و القمع السياسي الغاشم و السافر مع جعل البلطجة تتوغل اقتصاديًا و أمنيًا في تلك الدوامة الجهنمية مما يفرغ المجتمع المصري من تماسكه الهش أصلًا ، و كذلك انعكاس بارز و عميق يبطن مدى الانقلاب الكبير في انعدام أقل سمات العدالة حتى و لو حيوانية قاسية آكلة بعضها البعض
عطفًا على ذلك ، فمن الجدير بالذكر هو أن رؤية البلطجة في مصر في عهد السيسي صارت نمطًا اعتياديًا و أسلوبًا نمطيًا في التعامل معه على أساس بطولي أو مرعب بمعنى أدق تجنب المواجهة أو كسب عطفه ، متجسدًا في الرأس و الذيل مثل حادثة الأميرية و كذلك التعدي على سايس نادي القضاة ، باستباحة كاملة و مفتوحة دون رد واضح و صريح عليه بحجة الحفاظ على الأمان الذاتي دون العلم أو بالوعي المسبق أنها ظاهرة سببها في المقام الأول عدم وجود دفاعيات مقاومة بديلة تنظم العنف و تجفف منابع البلطجة و دوافعها و بواعثها الأصلية بشكل بائد و جذري لدرجة مختلة من تطبيق نظام البارتزان خارجيًا بطريقة متسقة مع عقلية النظام الفاشي الحاكم .
التصدير المعكوس الأمني : تجليات البلطجة خارجيًا تنقلب جذريًا .
في كتابه الأصول الاجتماعية للديمقراطية و الديكتاتورية ، يسلط المنظر السياسي و القانوني الشهير بارنتجون مور لسيطرة الاستباحة المفتوحة على العقل الديكتاتوري بسبب الفراغ المجتمعي ، و التشرذم الثقافي و الجدب السلطوي ما يصنع محفزًا قويًا و دافعًا صلبًا لاتخاذ قرارات مختلة و مشوهة لظنه المحض و النقي أن القانون مجرد أداة للضبط البولسي أو كما قال إيمانويل فالرتشين في كتابه " ما بعد اللبيرالية " " السجن الداخلي خطوة تمهيدية و انتقالية " ، و هذا ما طبقه نظام السيسي بعبقرية لو راها المنظرين الاجتماعين لأخضعا النظام للبحث و التجربة المثيرة و المتميزة في الانحطاط الأخلاقي و القيمي فكان بحق أحطهم سياسية و أقذرهم تطبيقًا لا ينم غير عن رعب جسيم و رعشة لا تضاهيها غير سكرة الموت .
و في سياق سلطوي ممتد مثل السياق العسكري المصري ، ظن النظام المصري زورًا أن مجرد الرضا عنه غربيًا في مختلف المجالات و تشحيته المليارات بسخاء ، أنه بالتبعية مرضي عن همجتيه الحقيرة و تشابه الغرب بحظرتيه العربية أو بمعنى أدق حكم الغابة غير القانونية التي تخطت مرحلة القمع المحلى و جميع الجرائم البشعة لمصدر لها في الخارج فقط لإسكات خوفه و محاولة إيهام نفسه المتهرأة بالسيطرة و التحكم المحكم .
فقد فشل النظام في تلك المعركة بغباء شديد و حماقة بالغة ليس فقط على مستوى الشكل لكن أيضًا تطبيقًا عمليًا على المستوى الفردي لبلطجيته و الصورة العامة للدولة من البلاغات المضادة و المناهضة بالفعل في الأقسام الأوربية ، وكذلك اختباءهم الكلي و عدم تصدرهم المشهد بغرور و مكايدة بلهاء كما تعودوا ، غير طبعا الحديث المتواصل في داخل الأجهزة الأمنية المصرية عن الشكل العام للجمهورية الجديدة المتمثلة في النطاعة المطلقة و انعدام الأمن و الأمان من بعض الضباط الوطنيين حقًا ، و هم من يسرب قطعًا الفيديوهات للملك و أنس حبيب لإنهم بلغوا نهايتهم مع إجرام النظام و فجره المنتهي و المتنامي .
و بالإضافة لذلك ، فقد فشل في تأسيس المتوالية الإجرامية بالخارج عبر محو القانون عامًا ، فجاء مشهد حصار السفارات صاعقًا له ، لا يدل على أي شيء في الخارج غير مرآة عاكسة ، تحقيقًا لأطروحة آصف بيات أستاذ علم الاجتماع في جامعة جورج تاون و بارون حاليًا في كتابه " الحياة سياسة : كيف يغير البسطاء العالم؟" التي توضح حقيقة جلية مفادها أن لا شيء مستحيل أو محال و أن التغيير بأسهل و أيسر الأدوات سبيل واقعي و مضمون ، أي أن القابلية الاحتمالية للتغيير لا تلتزم بالضرورة التكلفة المادية و النفسية الضخمة بل الإرادة الحرة و التحرك المستمر .
الأمر المؤسس للإخفاق مكتمل و متكامل الأركان هنا هو انتصار القانون و دولته العادلة برغم عيوبها و سلبياتها الواضحة و الصارخة و التي تلقي بظلالها على نهج متبع بالحرف على الجميع ، و هو نهج معسكرات الاعتقال أو الثكنات العسكرية الذي ثبت من خلاله تفكك شامل للبلطجة النازية و اللبيرالية التقليدية، من خلال تطبيق ما قاله هربرت ماركوزه في كتابه " العقل و الثورة " أن المحرك الرئيسي لأي تغيير جذري يبدأ و ينتهى من وجود " إطار عادل محقق حتى و لو استغرق" عشرات السنوات لتحقيقه المراد و المردود له قبيل تهشم و تحطم الأسس الاجتماعية للحاكم و المحكوم .
مجتمع التشظي و التحلل : معادلة خاسرة للنظام البلطجي على حساب ثباته و سيطرته الحديدية .
في بودكاست حديث مع الصحفي صلاح الدين حسن ، يرنو الدكتور كمال حبيب أستاذ الفلسفة الإسلامية لأصل من أصول البلطجة في مصر ، ألا "و هي الفوضى و عدم التنظيم" ، ممثلة في التفكك المجتمعي و التشظي الأسري الممزوج بمحو الأسس المتماسكة للمجتمع المصري بالتحديد مسقطًا ذكر الأثر المباشر على الأفراد كلهم دون تحديد تعمد النظام تحويل المجتمع لتلك النسخة المشوهة الخطرة .
عطفًا على ذلك، فإن نظرية ابن خلدون في العصبية القبلية تأتي مؤكدة على تقارب تأصلي بين البلطجة و العصبية القبيلة ، فالثانية تحديث للأولى على مستوين متوازيين ، أولهما اجتماعي متوسع يشمل كل المستويات و الطبقات الاقتصادية في مواقف الجياة المختلفة ، و المستوى الثاني يكمن في مدى خلخلة الأسس المبنية على الخوف اللابد في الصدور، فيكتسب هالة مزيفة من الاحترام مفادها حقًا يفيد معادلة انهيارية تؤكد من خلالها أصولية البلطجة و جعلها ركنًا أساسيًا من الحياة القائمة على العنف الأمني أو الشخصي ، بل و يتخطى ذلك لخلق تربة ثرية و خصبة للانتقام و الرغبة المحمومة في الثأر التبادلي فقط لأخذ حق المظلوم المقهور إما من بلطجة النظام أو أحد أذرعه الأمنية و ما دون الأمنية الباطشة و الغاشمة.
في كتابها هل يستطيع التابع أن يتكلم ، تزيد الكاتبة و المنظرة السياسية غايتري سيبفاك حلقة متممة و مكلمة لدولة البلطجة الجديدة في أن اليأس و الإحباط العميق يغير بتأثير أكبر و أكثر موضوعية و تأثيرًا من التغيير السلمي ، أي بعبارة مقتضبة الإحباط مساهم بقوة في التحويل المستمر أو المفاجيء غير قوته المفرطة التي ستفاجيء حتى الطاغية الحاكم بأن من سيسقطوه ، مع دولته الجديدة هم نفس الأشخاص التي ضاقت به السبل و النتائج المتواجدة على الأرض هي مجتمع التشظي المطلق ، و هو هجين مخيف .
في كتاب "فهم الانهيار" لفيلسوف انهيار المجتمعات و التاريخ القديم غاي ميتدلون، يعقد الكاتب مقاربة تفاصيلية بين مجتمعي روما القديمة و مجتمعات ما بعد الحداثة و يجد باختصار " أن التاريخ دورة مغلقة و محدودة في مسائل الانهيار و التحطم " ، و هو ما إذا طبق على جمهورية البلطجية الجديدة سنجد أنها مدعومة و مدفوعة بعوامل الانهيار بأربعة أضعاف على الأقل ، بمعنى أدق من المستحيل قيامها مجددًا ناهيك عن تقدمها الحقيقي طالما تؤيد و تساند كل المؤبقات و السواقط المفجعة و المؤلمة بدءً من القمع الممنهج و للمسرح العاري للعهر الجنسي ، و أخيرًا البلطجة المقننة و "الوطنية " الانهيارية و المشوهة لكل شيء .
إن الجمهورية الجديدة ما هي غير معادلة عكسية تحيك من خلالها لنظام حكم الثكنة العسكرية ، و ما البلطجة غير نظام قانوني و عادل لديها لابتزاز و إخضاع العدو الجديد و هم في هذا السياق البلطجية الجدد " حلقة الوصل و الربط " مشمتلة على أصناف عديدة مثل فئات " رجال الأعمال الراقصين على الدماء و أصحاب النزوات الصيفية و الزعماء للبلطجية "مثلما يقول الباحث في شئون الحركات الإسلامية ماتياس جلبرت ، و ما حركة الرد على حصار السفارات غير صورة مصغرة لسياسة منتهاها الواقعي التدمير الكبير على غرار جمهورية الأخ الكبير في رواية 1984 الدقيقة.
#مصطفى_نصار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟