رحمة يوسف يونس
الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 12:52
المحور:
قضايا ثقافية
بادئ ذي بدء، ليس من شأننا أن نتدخل في خصوصيات الآخرين ونفرض رأياً نراه الأفضل من وجهة نظرنا، وهو الصح الذي ينبغي على الجميع اتباعه، كأن نلاحظ بعض البيوت يأكلون طعاماً جاهزاً، أو المرأة لا تريد أن تطبخ، فنعتبر شراء الطعام الجاهز بدل صنعه أمراً سيئاً، أو نفرض على المرأة صنع الطعام، ونربط ذلك بالأمومة، هذا ليس من شأننا، وكلٌ هو حر في طريقة عيشه التي يراها الأنسب له. لكن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو ظاهرة ملفتة للنظر، تقلق الكثير ممن يهمهم تراث مدينتنا الموصل، فثقافة صنع الطعام شكل من أشكال تراث المجتمعات وهويتها التي تميزها عن غيرها، وكثيراً ما نلاحظ السياح واليوتيوبرات الذين يزورون مدينة ما يركزون على طعامها، فتذوق طعام مجتمع ما أحد سبل معرفة شخصية ذلك المجتمع، كما تنص المقولة الشهيرة:
(قل لي ماذا تأكل أقول لك من أنت) .
إن حفظ هذه الثقافة في مجتمعنا يقع عاتقها على المرأة غالباً، سواء كانت عاملة أو ربة بيت، كون المرأة عرفاً تخصصت في صنع الطعام.
وما نلاحظه اليوم من تقاعس كثير من النساء عن الطبخ يعود لأسباب كثيرة، ومن نافلة القول أن أربط أسباب هذه الظاهرة بعمل المرأة، ففضلاً عن أن المرأة لا يعيقها العمل عن الطبخ كما رأينا ومازلنا نرى كثيراً من النساء العاملات يُجِدنَ الطبخ ورعاية البيت مثل ربات البيوت بل وأفضل من كثير منهن، ففي دراسة نجد نسبة العاملات العراقيات 15% من مجموع النساء العراقيات، يعني 85% من نساء المجتمع ربات بيوت. إذن عمل المرأة لا صلة له بهذه الظاهرة، أو ليس هو أحد اسبابها المباشرة.
كذلك فإن بلدنا ليس منتعشاً إقتصادياً حتى وصل حال كثير من العوائل أن تأكل الطعام الجاهز بدل صنعه في البيت.
لماذا إذن تتقاعس المرأة عن الطبخ اليوم؟
من وجهة نظري أرى ذلك يعود لأسباب نفسية، فمن المعروف أن مجتمعنا متشدد، وكثيراً ما رأيت امرأة تتكاسل عن الطبخ وعن أعمال البيت يظهر بعدها أنها تربت تربية متشددة فكانت عند أهلها تقوم بمسؤولية البيت كاملة، ومنذ عمر مبكر تحملت مسؤولية لا تناسب المرحلة العمرية التي كانت فيها، وهذا ولد عندها عقدة ، خاصة وأن عمل البيت كثيراً ما يربط بالدين وبالبر بالأم، فعندما تتزوج تجد نفسها تحررت من تلك المسؤولية، ومن الطبيعي أن تميل لفتوى أنها غير مجبرة بخدمة الزوج ومن حقها أن يأتيها بخادم، مادام ارتبط عمل البيت عندها بالدين منذ نشأتها. أو حتى إن لم يربط الأمر بالدين فإن التشدد أثره تسيب. وهذا برأيي يفسر ما نلاحظه كثيراً من بعض النساء عندما تُخطَب تُمدَح بشطارتها في عمل البيت وعندما تتزوج يُرَى منها العكس.
السبب الآخر من وجهة نظري أن المرأة التي تجيد الطبخ وعمل البيت لا تلقى تقديراً من محيطها، ولا أُعَمم بكلامي هذا، ولكن هذه حقيقة يتلمسها الكثير، ودونتها حتى بعض الأمثال الشعبية، مثل (الحظ باقات باقات لكل معغبلي وام سقاقات) فهذا كناية عن المهملة واللامبالية التي تضيع وقتها خارج بيتها وتكون محظوظة وسعيدة في حياتها عكس الحريصة. وهذا مثل قيل في مجتمع بسيط في الماضي، فكيف بمجتمعنا المعقد اليوم!
نعم المرأة المبدعة في بيتها كثيراً ما تلقى جحودًا وإنكارًا لجهدها، وهذا ليس بمستغرب، فالناجح في أي مكان قد يلقى الأذى من محيطه سواء كان رجلًا أو امرأة، وإتقان الطبخ فن وإبداع، تؤذى بسببه المبدعة وتهمش، غيرةً وحسدًا، وهذه التصرفات خلفت نظرة دونية تجاه متقنة عمل بيتها، ماجعل الجيل المتمرد الذي لم يعد يهمه عيب ولاحرام، أن يضرب بالعادات والثقافات المجتمعية عرض الحائط بحثًا عن تحقيق الذات، الذي لم تجده المرأة في إبداعها داخل بيتها، بل إن من ربات البيوت من تخجل أن تقول إنها ربة بيت لأن هذه صورة المرأة المتخلفة والساذجة التي لا مكان لها في الحياة سوى المطبخ.
وأنا لا أعطي الحق لمن ترفض الطبخ وتقول أنا لست خادمة، ولكني أعذرها، فإني أراها وهي تتلفظ هذه الكلمة تتصور امرأة مهمشة قدمت وضحت ولم تلقَ تقديرًا، فلا تريد أن تكون مثلها.
من الأسباب الأخرى الإنهزام النفسي نتيجة تأخر مجتمعاتنا والانبهار بالمجتمعات المتطورة، فكل ما يرتبط بمجتمعنا صار يرتبط بالتخلف كاللغة، والثقافات والعادات حتى التي لا ضرر فيها على أحد، فالأكل الجاهز صار دليلاً على التحضر حاله حال المفردات الإنكليزية التي يستعملها البعض في حديثه بدلًا من المفردات العربية، خصوصًا إذا ارتبطت الأكلات الجاهزة بمسميات انكليزية.
من الحلول برأيي
- أن تتخلى الأم عن تقديسها لنفسها، وأن تعترف أنه من الظلم أن تلقي بكامل مسؤوليتها على ابنتها بذريعة البر بها، البر لا يلغي المسؤولية، وأن تعلمها بما يتناسب مع مرحلتها العمرية وقدرتها وتقبلها للمهمة التي تكلفها بها.
والتعليمات التربوية التي كانت تلقيها الأم على ابنتها انتهت صلاحيتها اليوم فلم يعد ينفع القول
(اش ديقولون عنك بيت حماك اذا تزوجت) أو ربط ذلك بالدين.
ـ التوعية بأهمية حفظ التراث الذي يميزنا عن المجتمعات الأخرى، ومنها تعلم الطبخ الذي هو شكل من أشكال هويتنا التي تميزنا عن المجتمعات الأخرى، خاصة وأنها أكلات لذيذة ومميزة، من واجبنا أن نتعلمها ونشيع ثقافة الإهتمام بها.
ـ أن تفهم المرأة أن الطبخ لا يحط من قدرها، وهو جزء من تحمل المسؤولية، وأن تحمل المسؤولية نضج، والنضج من صفات الجاذبية في كلا الشريكين، فكما أن المرأة يجذبها الرجل الناضج القادر على تحمل المسؤولية المالية، كذلك الرجل تجذبه المرأة الناضجة القادرة على تحمل مسؤولية رعاية البيت والتي أهمها الطبخ.
وأن صنع الطعام في البيت من المهمات التي تعين بها زوجها فمن خلاله يمكن مواجهة الظروف الإقتصادية الصعبة.
وأن الطبخ فن حاله حال بقية الفنون يمكن من خلاله تفريغ الكبت النفسي كالموسيقى والرسم وغيرها، ويمكن من خلال إتقانه أن تفتح مشروعًا تحقق به ذاتها وتدر به دخلًا لأسرتها.
ـ أن يتعلم الرجل الطبخ ويتعاون مع المرأة، من أجل ضمان الإستقرار الأسري وحفظ الهوية المجتمعية، فليس عيباً أن يطبخ الرجل.
الخلاصة
مجتمعنا اليوم في حال تطور ومن حقنا أن نقلق ونخاف على عاداتنا الجميلة من الإندثار نتيجة تأثير هذا التطور السريع، ولم يعد ينفع التشدد المجتمعي ولا الديني أمام هذا الجيل المتمرد، وأن نبحث عن مفاهيم تتلاءم مع تفكير الجيل الجديد نضمن بها حفظ عاداتنا والإستقرار الأسري، والبطولة اليوم ليست بالتشدد والتسلط والإكراه، البطولة اليوم بالإقناع.
ختاماً
صنع الطعام ثقافة وتأصيل لهوية مجتمعنا، وليس حشو بطن فحسب.
#رحمة_يوسف_يونس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟