عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 04:50
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يتطلب فهم سمات البرجوازية الصغيرة في الحركات الثورية المعاصرة العودة إلى جذورها التاريخية؛ فالاستعمار لم يكن مجرد احتلال سياسي أو اقتصادي، بل مختبر لتشكيل طبقة وسيطة محلية كانت حلقة وصل بين المستعمِر والمستعمَر، وهو ما يفسر استمرار التبعية والتردد الطبقي والنخبوية والانفصال عن الجماهير لاحقًا. فبدون تحليل تاريخي دقيق، يصعب فهم الظاهرة الراهنة في الأحزاب الثورية والقيادات الحزبية.
لم يكن الاستعمار مجرد آلة للنهب والسلب، بل كان مهندسًا طبقيًا بارعًا؛ صمم بدقة "طبقة وسيطة" لتكون صمام الأمان لاستمراريته، وجسرًا يعبر فوق تناقضاته. هذه الطبقة، التي سُميت لاحقًا بالبرجوازية الصغيرة، لم تكن نتاجًا طبيعيًا للتطور الاقتصادي المحلي، بل كانت مصنوعة في مختبرات الإدارة الاستعمارية.
نشأت البرجوازية الصغيرة الاستعمارية في سياقات متنوعة تخضع لطبيعة المشروع الاستعماري ذاته؛ ففي النموذج الاستيطاني الإحلالي، كما حدث في الجزائر وفلسطين، لم يُرِد المستعمِر سوى طبقة ضعيفة ومهمشة، تُستخدم كأداة مساعدة في نظام الفصل العنصري، فكانت وظيفتها محدودة بالوساطة بين المستوطن والمحلي في أدنى مستويات الإدارة (مترجم، محصل الضرائب المحلي، عمدة قرية مُعيّن)، مما جعلها طبقة هشة، عديمة الاستقلال، ومكروهة من الجماهير التي رأت فيها مجرد امتدادًا لقمع المستوطن. أما في النموذج الاستعماري الإداري، كما في الهند ومستعمرات غرب أفريقيا، حيث كان الهدف استغلال الموارد والسكان وليس الإحلال، فقام المستعمر بخلق طبقة وسيطة أوسع وأكثر تعقيدًا. هذه الطبقة لم تكن فقط لإدارة الحكم، بل لإدارة الوعي أيضًا؛ من خلال التعليم (مدارس الإرساليات، ومعاهد إعداد المعلمين)، والقضاء (المحاكم الشرعية والعرفية الهجينة)، والإدارة المدنية (موظفو السكك الحديدية، البريد، الجباية). هنا، لم تكن الطبقة مجرد أداة، بل كانت شريكًا صغيرًا في عملية النهب، تحصل على حصة ضئيلة ولكنها حاسمة لهويتها الطبقية، مما جعلها أكثر رسوخًا وأكثر استعدادًا لوراثة الدولة بعد "الاستقلال الشكلي".
وهذا ما تجلى بوضوح في السودان إبان الحكم الثنائي البريطاني-المصري، حيث صاغ الاستعمار جهازًا إداريًا معتمدًا على فئة محدودة من "الأفندية" والكتبة والمعلمين، الذين جرى انتقاؤهم من أبناء الشرائح الوسطى وتدريبهم ليكونوا حلقة الوصل بين المستعمر والجماهير. لقد لعب هؤلاء دورًا مزدوجًا: فمن ناحية كانوا أداة لنفاذ السلطة الاستعمارية إلى القرى والمدن عبر الإدارة الأهلية والمكاتب الحكومية، ومن ناحية أخرى تحولوا لاحقًا إلى نواة طبقة برجوازية صغيرة تبحث عن الاستقلال لا بهدف تحطيم البنية الاستعمارية والطبقية، بل بهدف وراثتها وإعادة إنتاجها بشكل محلي. وبذلك فإن استقلال السودان لم يأتِ عبر تفكيك جذري لآليات الاستعمار الاقتصادي والاجتماعي، بل عبر انتقال السلطة إلى شريحة اجتماعية متذبذبة حملت معها كل تناقضات الاستعمار، لتعيد إنتاجها في صورة دولة وطنية عاجزة عن الانحياز لمصالح الأغلبية الكادحة.
خلق الاستعمار وظائف لا علاقة لها بالإنتاج المادي: الكاتب، المترجم، المحصل، الشرطي المحلي، رئيس العمال، المدرس الذي يدرس بلغة المستعمر. هذه الوظائف لم تكن لتوجد لولا آلية الاستغلال الاستعماري. كانت مهمتها الأساسية هي التوسط في عملية النهب: ترجمة أوامر المستعمر، جباية الضرائب من الفلاحين، مراقبة العمال في المناجم والمزارع، وتلقين أبناء المحليين ثقافة المستعمر لخلق النموذج ال"أعلى" الثقافي. هذا الترتيب الطبقي المقصود هو الذي مهّد مباشرة لانفصال هذه الشرائح عن عملية الإنتاج المادي، وجعلها تعيش في عالم موازٍ تحكمه امتيازات مصطنعة. لذا جعل هذا الانفصال الجذري عن الإنتاج وجودهم الاقتصادي والسياسي رهينًا بالسلطة الاستعمارية، وأسس لنمط التبعية المتواصل بعد الاستقلال.
أدت هذه الوظائف إلى تشكيل هوية مزدوجة: محلية الجذور لكنها مهجنة ثقافيًا ولغويًا، مما عمّق الفجوة الطبقية بينها وبين الجماهير. فقد استخدمت هذه الطبقة اللغة والثقافة المستعمرة كأداة للتميز الاجتماعي والتحصيل الوظيفي، وهو ما عزّز من انفصالها عن الجماهير وعزّز عقلية تفضيل الوساطة على المواجهة. إن هذا التردد السياسي ليس مجرد سمة عابرة، بل هو نتاج مباشر لموقعها الطبقي الذي يعتمد على رضا السلطة المستعمرة أو السلطة التابعة لاحقًا.
تميزت هذه الطبقة بتناقضاتها الداخلية الحادة التي شكلت علاقتها المتذبذبة مع جميع الطبقات. فمن ناحية، استغلت البرجوازية الصغيرة موقعها الوسيط لتعزيز امتيازاتها على حساب الجماهير الكادحة؛ فعمدة القرية المعين من قبل المستعمر كان يمارس القمع اليومي، ورئيس العمال في المزارع كان يضغط على العمال لزيادة الإنتاجية لصالح السيد الأبيض، والمترجم كان يحرف كلمات المضطهدين لخدمة رغبات المسئول الاستعماري. لقد كانت أداة القمع المزدوج: قمع مباشر لمصلحة المستعمر، وقمع طبقي داخلي لترسيخ تفوقها الاجتماعي على الفلاحين والعمال. ومن ناحية أخرى، دخلت في صراع خفي ومستمر مع شركائها في عملية النهش، أي شريحة البرجوازية الكومبرادورية المرتبطة بالتجارة والمراكمة الأولية، والتي كانت تنظر إليها بازدراء لـ "وضاعة" منصبها الوظيفي في حين كانت هي (البرجوازية الكومبرادورية) تقبض على المال الحقيقي. هذا التناقض بين "السلطة الإدارية" و"القوة الاقتصادية" هو الذي أنتج تلك التحالفات الهشة والصراعات الدامية أحيانًا على النفوذ داخل حركات التحرر الوطني، حيث سعت كل فئة لقيادة عملية "التحرر" بما يخدم مصالحها الطبقية الضيقة وموقعها في هرم النهب.
ورغم أن جزءًا من مثقفي هذه الطبقة لعبوا دورًا قياديًا في حركات التحرر، إلا أن هذا الدور كان محدودًا بحدود مصالحهم الطبقية. فهدفهم الأساسي لم يكن التحرر الشامل للجماهير بل تحرير أنفسهم من السيطرة الاستعمارية المباشرة، مع الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية التي تكفل لهم مكانة القيادة في الدولة الجديدة. ويظهر هذا جليًا في التحول السريع لبعض القيادات بعد الاستقلال إلى إعادة إنتاج الدولة البيروقراطية أو الانخراط في مؤسسات تحافظ على تبعية الدولة للمراكز الرأسمالية العالمية، مما يثبت أن ولاءهم الطبقي كان أعمق من التزامهم بالشعارات الثورية.
بعد "الاستقلال"، لم تختفِ هذه الطبقة، بل ورثت الدولة. تحولت من وسيط في خدمة المستعمر الأجنبي إلى وسيط في خدمة الرأسمالية العالمية (الاستعمار الجديد) والبرجوازية الكومبرادورية المحلية، بعد ان منحتها السيادة الشكلية الغطاء لتمارس نفس الوظيفة بشراسة أكبر.
إن استمرارية هذه الطبقة بعد الاستقلال تتجسد في الجهاز البيروقراطي الضخم الذي تعيد به إنتاج علاقات التبعية الاقتصادية والثقافية. تُدار الدولة ومؤسساتها الإعلامية والثقافية بما يخدم مصالح نخبة البرجوازية الصغيرة، مما يثبت أن سمات التردد الطبقي، والنخبوية، والانفصال عن الجماهير ليست مجرد ظواهر عابرة، بل إرث تاريخي يعود إلى وظيفتها الوسيطة في ظل الاستعمار، وهذا ما يفسر سهولة هيمنتها لاحقًا على الأحزاب الثورية.
إن البرجوازية الصغيرة استطاعت، بفضل امتلاكها للتعليم واللغة والثقافة، أن تحتكر تعريف "الثورية" و"الوطنية". حوّلت النضال من تحرر جماهيري إلى مسار وظيفي فردي ("الكادر")، ومن مواجهة الطبقات إلى مناقشات أيديولوجية عقيمة في قاعات مغلقة.
يُضاف إلى ذلك أن استمرار هذه الطبقة يشكل العمود الفقري للاستعمار الجديد، إذ تعمل البرجوازية الصغيرة كأداة داخلية لإدامة تبعية الدولة للنظام الرأسمالي العالمي، حيث تتحكم في التمويل، في الإعلام، وفي المؤسسات الحزبية، مما يجعلها الحلقة الأهم في إعادة إنتاج العلاقات الهيكلية السابقة، لكنها تحت واجهة "الاستقلال" و"الحكم الوطني".
إن استمرارية هذه الطبقة داخل الأحزاب الثورية تجعلها سلمًا للترقي الاجتماعي لأعضائها. يصبح الهدف هو الاستيلاء على مناصب في الدولة أو الحصول على التمويل الخارجي، وليس قلب نظام الهيمنة. الصراع داخل الحزب غالبًا ما يكون صراعًا بين أجنحة من البرجوازية الصغيرة على الموارد والمناصب، وليس على الخط الاستراتيجي.
إن تشخيص هذه الظاهرة التاريخية ليس مجرد سرد للماضي، بل قاعدة لفهم كيفية مواجهة هيمنة البرجوازية الصغيرة داخل الحركة الثورية. فالوعي بهذه الجذور التاريخية يوضح أن معركة تحرير الحزب والمجتمع لا يمكن أن تنجح بدون تفكيك الإرث البنيوي لهذه الطبقة وفهم دورها الوسيط في خلق التبعية والاستمرار فيها، وهو ما يمهد مباشرة للمقالات التالية التي ستتعرض لاقتصاديات التنظيم والسيطرة على الخطاب ومؤسسات الحزب.
"التاريخ لا يعلمنا فقط ما حدث، بل يكشف عن القوانين الموضوعية للصراع الطبقي."
كارل ماركس
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟