عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 22:13
المحور:
الادارة و الاقتصاد
منعطف تاريخي في المنطقة : تشهد إيران اليوم مخاضاً سياسياً وأمنياً عميقاً يعيد رسم ملامح مستقبلها. فدعوة جبهة الإصلاحات – وهي أعلى هيئة تنسيقية للأحزاب المؤيدة للرئيس مسعود بزشكيان – إلى وقف تخصيب اليورانيوم طوعاً وقبول رقابة كاملة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية مقابل رفع العقوبات الدولية، ليست مجرد خطوة تقنية أو تفاوضية، بل تمثل خريطة طريق جديدة تعكس إدراكاً متنامياً لحجم المخاطر التي تواجهها البلاد بعد حرب حزيران/يونيو الأخيرة مع إسرائيل، وما خلّفته من ارتدادات استراتيجية على الأمن القومي الإيراني والإقليمي معاً.
إن ما يجري اليوم داخل إيران لا يمكن وصفه إلا بمرحلة منعطف حاسم بين تيار الاصوليين قائم على المواجهة الصلبة مهما كانت التكاليف، وبين تيار آخر يسعى إلى مراجعة جذرية تنقل إيران من منطق الاستنزاف والعقوبات إلى منطق الانفتاح والتوازن. وهي اليوم واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخها السياسي والأمني. فبعد حرب حزيران/يونيو الأخيرة مع إسرائيل وما خلفته من تداعيات استراتيجية، برزت أصوات إصلاحية من داخل المؤسسة السياسية الإيرانية تدعو إلى مراجعة شاملة للمسار.
إن جبهة الإصلاحات، وهي أعلى هيئة تنسيقية للأحزاب المؤيدة للرئيس مسعود بزشكيان، بطرحها هكذا مبادرة جريئة تدعو إلى وقف تخصيب اليورانيوم طوعاً وقبول الرقابة الكاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، مقابل رفع العقوبات الدولية. هذه الدعوة لا تقتصر على بعدها الأمني، بل تعكس إدراكاً عميقاً بأن إيران وصلت إلى مفترق طرق يتطلب تحوّلاً في التيار الإصولي الذي حكم سياساتها لعقود. فالصراع الداخلي اليوم في إيران يتمحور بين تيار متمسك بـ"الإطار القديم" القائم على المواجهة المفتوحة مع الغرب مهما كانت الكلفة، وبين تيار إصلاحي يرى أن البلاد لم تعد تحتمل مزيداً من العقوبات والاستنزاف الاقتصادي والاجتماعي. ولعل ما يميز هذه المرحلة هو أن الدعوة إلى التغيير تأتي من داخل النخبة الإيرانية نفسها: أكاديميون، اقتصاديون، ودبلوماسيون، ما يعكس حالة من الوعي المتنامي بضرورة الانتقال إلى إستراتيجية أكثر مرونة وتوازناً.
ومن موقعنا هنا في العراق، تبدو هذه المبادرة (أذا ما أُخذ بها) في غاية الأهمية. فهي لا تعني تخفيف التوتر الإيراني–الغربي فحسب، بل تفتح أيضاً نافذة إقليمية قد تسهم في تعزيز الاستقرار في الجوار العراقي، وتمنح بغداد فرصة لالتقاط أنفاسها في ملفات حساسة مثل أمن الحدود، أمن الطاقة، وإدارة التوازنات الإقليمية.
إن العراق، الذي يتأثر بشكل مباشر بكل تحولات إيران، معنيّ بأن ينظر إلى هذه المبادرة باعتبارها فرصة استراتيجية ينبغي البناء عليها، لا مجرد خبر عابر في وسائل الإعلام.
إذ يمكننا القول إن إيران اليوم تعيش مخاض التحوّل الكبير؛ إما أن تتمسك بموروث المواجهة والعزلة بما يحمله من مخاطر الانهيار الداخلي، أو تنفتح على مقاربة جديدة توازن بين الأمن والتنمية. وفي كلتا الحالتين، يبقى دور العراق محورياً في قراءة هذا التحوّل وتوظيفه في خدمة استقراره وأمنه القومي – إذا ما تم تبنيها بجدية – قد تمثل أفضل الخيارات المتاحة ليس لإيران وحدها، بل للعراق والمنطقة بأسرها؛ إذ تمنح فرصة لتخفيف الضغوط الدولية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وفتح أبواب التعاون بدلاً من دوامة الصراع.
أولاً: لماذا المبادرة مهمة لإيران؟ : من منظور إيراني داخلي، يمكن قراءة الدعوة في ضوء ثلاثة أبعاد:
1. البعد الأمني: استمرار التخصيب العالي يعني بقاء إيران تحت تهديد دائم بـ”سناب باك” الأوروبي أو حتى إعادة الملف إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما سيضفي شرعية قانونية لأي ضربة عسكرية مستقبلية. المبادرة ترفع هذا الغطاء وتؤمّن مجالاً أكبر للمناورة.
2. البعد الاقتصادي: العقوبات المتراكمة منذ عقود أضعفت قدرة الاقتصاد الإيراني على النمو، وأدخلت المجتمع في أزمات تضخم، بطالة، وانكماش. رفع هذه العقوبات عبر تسوية نووية سيكون بمثابة “طوق نجاة” لإعادة ربط إيران بالاقتصاد العالمي.
3. البعد الاجتماعي والسياسي: الشارع الإيراني – الذي خرج في احتجاجات واسعة في السنوات الماضية – لم يعد يحتمل أثمان العزلة الدولية. مبادرة جبهة الإصلاحات تستجيب لتطلعات الناس نحو انفراج داخلي وفتح أفق جديد للمشاركة السياسية والاقتصادية.
ثانياً: ماذا يعني ذلك للعراق؟ : إن أي تحول في المسار النووي الإيراني لا يقف عند حدود طهران، بل يمتد أثره العميق إلى بغداد. العراق بحكم الجغرافيا والتاريخ يجد نفسه الأكثر التصاقاً بهذه التحولات، ما يفرض عليه أن يتعامل معها ليس فقط من زاوية أمنية، بل من منظور فرص التنمية والشراكات الاقتصادية أيضاً:
1. الأمن الحدودي والسيادة الوطنية: لطالما كان العراق مهدداً بأن يتحول إلى ساحة أو ممر في أي مواجهة أمريكية–إسرائيلية مع إيران. إن خفض التصعيد النووي يفتح الباب أمام تعزيز استقرار حدوده الشرقية، ويقلل من احتمالية الزج بأراضيه في معادلات صراع لا تخدم مصالحه. هذا الاستقرار الأمني هو الشرط الأول لبناء اقتصاد قوي وتنمية مستدامة.
2. الشراكة الاقتصادية والتنموية: العراق وإيران يرتبطان بشبكة مصالح متشابكة في مجالات الطاقة (الغاز والكهرباء) والتجارة والمواد الغذائية. رفع العقوبات عن إيران لن يكون مجرد انفراج لها، بل يمثل للعراق فرصة ذهبية لبناء شراكة اقتصادية وتنموية كبرى تستفيد من القرب الجغرافي، والتكامل في الموارد، والبنية التحتية العابرة للحدود. هذه الشراكة يمكن أن تتحول إلى رافعة لتنويع الاقتصاد العراقي وتقليل اعتماده الأحادي على النفط، عبر مشاريع مشتركة في البتروكيماويات، الصناعة، والزراعة.
3. تعزيز الدور الدبلوماسي والإقليمي: يمتلك العراق موقعاً فريداً يؤهله للعب دور الوسيط بين القوى الإقليمية والدولية. المبادرة الإصلاحية الإيرانية تمنحه فرصة إضافية لتكريس صورته كـ"جسر وسطي" قادر على الموازنة بين المصالح المتناقضة. هذا الدور لا يعزز مكانة بغداد الإقليمية فحسب، بل يفتح لها مساحة أوسع في ملفات حيوية مثل أمن الخليج، إعادة إعمار سوريا، والتسويات في اليمن.
✦ وباختصار: إن تحول إيران نحو مسار -إصلاحي– لا يعني فقط خفض التوتر الأمني، بل يمنح العراق فرصة تاريخية للاستثمار في القرب الجغرافي، وبناء شراكة اقتصادية–تنموية واسعة تضعه في قلب معادلة الاستقرار الإقليمي والازدهار الاقتصادي.
ثالثاً: التحديات التي تعترض المبادرة : رغم إيجابياتها، فإن المبادرة ليست خالية من العقبات:
1. معارضة المحافظين: التيار المحافظ في إيران قد ينظر إلى المبادرة باعتبارها “تنازلاً مجانياً” للغرب، ويخشى أن تضعف مشروع الردع الاستراتيجي.
2. غياب الثقة الدولية: تجارب المفاوضات السابقة (الاتفاق النووي 2015) أثبتت أن الغرب ليس دائماً ملتزماً برفع العقوبات بعد توقيع الاتفاقات.
3. إسرائيل والولايات المتحدة: ستبقى تل أبيب وواشنطن قلقتين من قدرة إيران على “إعادة التخصيب بسرعة”، ما قد يضع عراقيل أمام رفع العقوبات بشكل كامل.
لكن، تجاوز هذه التحديات ممكن عبر ضمانات متعددة الأطراف، وإشراك قوى إقليمية مثل العراق وتركيا ودول الخليج في ترتيبات الضمان الأمني.
رابعاً: قراءة عراقية – لماذا هي الأفضل للجميع؟
1. لإيران: المبادرة تسمح بخروج من دائرة “التهديد الوجودي”، وتفتح باباً للمصالحة الوطنية والاندماج الاقتصادي العالمي، وهو ما يحتاجه الشعب الإيراني لتخفيف الضغوط الداخلية.
2. للعراق: تخدم أمننا القومي مباشرة، وتبعدنا عن أن نكون ساحة حرب بالوكالة. كما تمنحنا فرصة للاستفادة من رفع العقوبات عبر شراكات اقتصادية متوازنة مع إيران وأوروبا.
3. للمنطقة: تضع حداً لمسار التسلح النووي في الشرق الأوسط، وتفتح الباب أمام منظومة أمن إقليمي جديدة يكون العراق فيها لاعباً محورياً.
خامساً: توصيات عراقية : من متطلبات مسؤولية أمننا الإقليمي:
1. دعم دبلوماسي علني: أن يصدر العراق بياناً مرحباً بالمبادرة الإيرانية، باعتبارها خطوة نحو الاستقرار الإقليمي.
2. إطلاق مسار حوار ثلاثي (عراق–إيران–الخليج) برعاية أوروبية، لضمان أن يكون تخفيف التوتر النووي جزءاً من تفاهمات أوسع تشمل الطاقة والمياه والأمن الحدودي.
3. تشجيع الاستثمار المشترك: بعد رفع العقوبات، يمكن للعراق وإيران إطلاق مناطق اقتصادية حدودية مشتركة تجذب رؤوس الأموال وتخلق فرص عمل.
4. العمل داخل الأمم المتحدة: على العراق أن يستخدم موقعه لدعم أي مسار يبعد الملف الإيراني عن الفصل السابع، حفاظاً على الاستقرار الإقليمي.
إن دعوة “جبهة الإصلاحات” لوقف تخصيب اليورانيوم طوعاً ليست مجرد مناورة سياسية، بل نافذة تاريخية على مصارحة داخلية إيرانية، وانفتاح إقليمي يمنع الانزلاق إلى حروب جديدة. وهو ليس مجرد جدل داخلي حول تخصيب اليورانيوم أو تفاوض تقني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بل هو مخاض سياسي–أمني عميق قد يفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة. خفض التصعيد النووي يعني أولاً حدوداً أكثر أمناً، وثانياً شراكة اقتصادية–تنموية واسعة تستفيد من القرب الجغرافي والتكامل في الموارد، وثالثاً فرصة لبغداد كي تكرّس نفسها جسراً إقليمياً ووسيطاً متوازناً.
بالنسبة للعراق، لا يمكن التعامل مع هذه التحولات بمنطق المراقب السلبي، بل بمنطق المستثمر الاستراتيجي.
إننا أمام نافذة تاريخية نادرة:
• أن يحوّل استقراره الحدودي إلى منصة للتنمية،
• وأن يترجم شراكته الاقتصادية مع إيران إلى مشاريع استراتيجية كبرى،
• وأن يثبت أنه ليس مجرد تابع لمعادلات الآخرين، بل فاعل يصوغ مسار الإقليم.
وفي عالم يعاد تشكيله تحت ضغط الأزمات، فإن استثمار العراق لهذا التحول سيكون بمثابة تأمين مستقبله الاقتصادي والسيادي حتى 2030 وما بعدها.
فإن هذه المبادرة هي الأفضل للعراق وإيران معاً؛ لأنها ترفع التهديد العسكري عن حدودنا، وتفتح الباب أمام تعاون اقتصادي وقانوني مشروع، وتمنح العراق فرصة لعب دور الوسيط والموازن في المنطقة.
إنها لحظة تستدعي من بغداد أن تتحرك بسرعة، لتكون شريكاً في صناعة الاستقرار لا متلقياً لارتداد الأزمات.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟