جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك اتّفاق واسع الآن على أنّ الأزْمة التي تعيشُها بلادنا هي بصدد جرّها إلى مأزق حقيقّي إنْ لمْ تكنْ قد وقعت فيه بَعْدُ. ويكاد يتّفق الجميع أيضا على أنّ إنقاذ البلاد ممّا آلت إليه لنْ يكون بالأمر اليسيرِ. فالأزمة مركّبة ومعقّدة ومتشعّبة ومتشابكة الأسباب والظّواهر والمخاطر ودخلت طورا متقدّما باتت معالجاتُها صَعْبة وأحيانا غيرَ مُتاحة وحتى إن تجشّمنا صعوباتها فإنّ النّتائج غير مضمونة. إنّ الأزمة حاصلُ عقود من الزّمن اتَّبَعَتْ فيها منظومة الحُكم بكل تشكيلاتها المتعاقبة سياسات مُمْلاة من الخارج لا تَمِتّ لحاجات التّنمية الوطنية بصلة. وهي سياسات اقتصادية رَيْعيّة بإجراءات ترقيعيّة فكّكت النّسيج الاقتصادي النّاشئ والهشّ واستنزفتْ طاقاته الإنتاجية وعطّلت بالتّالي مسار التنمية حتّى في معناها الأوّلي والبسيط وهو خلْقُ الأدنى من الثّروة وتحقيق نسبة قليلة من التّراكم (نسبة نمو الناتج الداخلي الخام Pib حتى شهر مارس الماضي سلبية: – 0.20 %).
لذلك نحن اليومَ حيال اقتصاد مفكّك تفتقد فيه قطاعاتُه الأساسية (الصّناعة والفلاحة والخدمات) لأبسط درجات الانْدماجِ وتمرّ منظوماته الإنتاجيّة بحالة عطالةٍ وضعفِ مردودية رهيبة. وقد كان النّسيج الاقتصادي التّونسي على الدّوام يعاني عاهةً هيكلية لازَمَتْهُ منذ تشكّله تتمثّل أساسا في طبيعته الرّيْعيّة وارتباطهِ بلْ تبعيتهِ للمركز الرأسمالي الغربي وفي ارتكازه على ما يسمّى بالمؤسسات الصّغرى والمتوسّطة (لا تتجاوز مؤسسات الإنتاج الكبرى نسبة 0.1 % من مجموع مؤسسات الإنتاج في تونس (1)).
وعندما تعشّش، في منظومة بمثل هذه الخصائص، آفة الفساد وسوء التّصرّف وأساليب التّسيير "الرّعواني" التقليدية والمتخلّفة والاستهتار بقيمة العمل يصبح حجم الكارثة فَوْقَ قدرة البلاد على تحمل تبعاتها. فآفات الفقر والخصاصة والبؤس والبطالة والتّهميش هي ظواهر متأصّلة في المجتمع التونسي وأصبحت من المحدّدات الاجتماعية والثقافيّة في رسم شخصيّة التّونسي وتكييفها. وقد تظافرت هذه المُعطيات مع تداولِ النّظم الاستبدادية (من البايات إلى قيس سعيد مرورا بالاستعمار الفرنسي المباشر فبورقيبة وبن علي فالنّهضة) على حكم البلاد بما نحت الصّورة المزدوجة للشخصية التونسية بكل عناصرها المتداخلة، الخوف والطمع والخنوع والرياء من جهة والتمرد والعصيان من جهة ثانية. لذلك كان تاريخ تونس حافلا بالثّورات والانتفاضات في وَجْه كل النّظم التي عرفها.
ثورة 17 – 14 محاولة جريئة ولكنّها منقوصة
تندرج ثوة 17 ديسمبر-14 جانفي ضمن هذا السّياق التاريخي العام. سياق تحمّل فيه الشعب التونسي ويلات الاستغلال والتعسّف والمهانة وصبر على ذلك عقودا من الزمن ثم ينفجر فجأة ويكنس منظومة الحكم لتبدأ عجلة التاريخ في الدوران من جديد. غير أنْ مسار التّغيير الذي دشّنته يوم 14 جانفي بفرار بنْ علي سُرعان ما توقّف فانْحصر في الجانب السّياسي وذلك بتغيير شكل الدّولة من نظام حُكم ديكتاتوري إلى دَوْلة ديمقراطية برجوازية. لقد منحت الثّورة للشّعْب التّونسي الحرّية وفسحت أمامه المجال واسعًا للمشاركة في الشّأن العام رغم أن المال الفاسد نجح في تلويث الديمقراطية الوليدة وتمكّن من تعفينها. أما البنية الاقتصادية الاجتماعية القديمة فقد ظلت في منأى عن أي تغيير وظلت الطبقات والفئات الاجتماعية تتمتع بمنافع سيطرتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية رغم انحلال منظومة التجمع وسقوط الحكومة وهروب بن علي.
لذلك لم تستطع ديمقراطية ما بعد الثورة الصمود في وجه محاولات الثورة المضادة المتتالية. لقد تكالبت كل القوى الرجعية على المنجز الديمقراطي في تونس وحاول كل منها تسخيره لصالحه ولكنّ جذوة الثورة والاحتجاج أفشلت كل تلك المحاولات طيلة حوالي عشر سنوات. غير أنه وفي غياب حلول للمشاكل الحقيقية للجماهير الشعبية بدا لدى فئات واسعة من التونسيين أن مكسب الديمقراطية فقد مغزاه وأن الثورة التي لم تستجب لمطامحهم لم تعد تعني لديهم شيئا. ومن هنا تسرّبت مشاعر الإحباط التي استغلتها الشّعبوية لتتسلّل إلى الحكم وتدفع بالبلاد في مسار مضادّ للثّورة على طول الخط. لقد انقلب قيس سعيد على مكتسبات الثورة على قِلّتِهَا ونسفها تماما لا فقط في المجال السياسي، بإقامة نظام الحكم الفردي المستبد، وإنما أيضا على جميع الأصعدة الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
درس من دروس الثورة
لقد أثبتت تجربة الثورة أن أيّ تغيير لا يقوّض أسس الدولة البرجوازية العميلة، دولة الاستعمار الجديد في تونس، يصعب أن يؤمّن ما دون ذلك من مستويات التغيير كتغيير شكل السلطة الذي حصل بعد 14 جانفي 2011. فطالما استمرّت البورجوازية ماسكة بوسائل الإنتاج ومتحكّمة في القاعدة الاقتصادية للحياة العامّة فإنها مهما فقدت من نفوذها السياسي ومن قدرتها على التحكم في مجريات الحياة العامة فإنها عائدة لا محالة طال الزمن أو قَصُرَ لموْقِعِها على سدّة الحُكم.
وقد أكّدت التّجارب المُعاصرة للثّورات في مختلف البُلْدان أنّها، ما أنْ تنجَحَ في الإطاحة بنظام الحكم حتى تجد نفسها عُرْضَةً لكلّ المناورات والمؤامرات من الدّاخل كما من الخارج بما في ذلك الأعْمَال العسكريّة والتدخّلات الأجنبيّة النّاعمة والعنيفة للالتفاف على الثّورة وغلق قوْسِها.
ذلك ما حصل للثّورة التّونسية. وقد اسْتَعمَلتْ البورجوازية هذه المرّة التّيار الشّعبوي ليكون أداتها في هذه المُهمّة القذرة وبات على الشّعب التونسي أن يعود على أَعْقابه وأن يستأنف مهمّته التّاريخية من جديد مُحمّلا بكثير من الأوْجاع والجِرَاحَات ولكن أيضا بدُرُوسٍ ثمينة وبرصيد ثوري سيكون على درجة عالية من الأهمية في معارك المُسْتقبل.
الدّيمقْراطيّة الشعبيّة هي الحلّ
إن التطورات السلبية الحاصلة منذ مَجِيءِ قيس سعيد للحكم وخاصة منذ انقلاب 25 جويلية 2021 تَفْرِضُ إعادة النّظر في المقاربة السّياسية التّكتيكية للثّورة في تونس. فلئن ظلّ شعار "الثّورة الوطنية الدّيمقراطية ذات الأفق الاشتراكي" هو الطّرح السّليم للهدف الاستراتيجي الذي يتوافق مع المهمّة التّاريخيّة المطروحة على الشّعب التّونسي من أجل التحرّر من ربقة الاستعمار الجديد وكذلك من سيطرة الائتلاف الطّبقي الرجعيّ العميل فإن التّغييرات الجدّية الّتي أدخلها قيس سعيد على شكل الدّولة تتطلّب إجراء التّدقيقات اللّازمة فيما يتعلّقُ بتكتيك المرْحلة.
إنّ عودة الاستبداد يطرح من جديد مسألة إسقاطه وتحرير الحياة السّياسيّة منه كمهمّة لازمة على درب مسار إعداد الظّروف اللّازمة لخلق حالة ثوريّة ضمنها سيقع الإطاحة بدولة الاستعمار الجديد في تونس أي دولة البورجوازيّة العميلة والهيمنة الامبرياليّة على بلادنا. غير أنّه وبالنّظر لمنجزات ثورة 17 – 14 صار لا بدّ من مزيد التّمعّن في ارتباط تكتيك المرحلة بالمهمّة الاستراتيجية.
حاصل هذا البحث هو وعي جديد بمجمل ما يطرحه مسار الثّورة من أجل التّحرير الوطني والاجتماعي في تونس، وخلاصة ذلك برنامج الدّيمقراطية الشعبية في أبعاده الثلاثة:
- خطّة مواجهة الاستبداد العائد من جديد واستنهاض حركة المقاومة الشعبيّة لحماية المُكتسبات والتّقدم باتّجاه تحسين موازين القوى لفائدة الشّعب ضدّ الرجعية،
- مضمون البرنامج الذي على أساسه يقع توحيد الشّعب وتنظيم نضاله حتى لحظة الانتفاضة وإسقاط المنظومة الرّجعيّة الحاكمة
- برنامج الحُكم البديل المُباشر (الإجراءات الثورية المستعجلة) ومحاور بناء الدّولة والاقتصاد والمجتمع الجديد.
تتجمّع هذه الأبعاد الثّلاثة في برنامج الديمقراطية الشعبيّة. ويتقدّم هذا البُعد أو ذاك عن بقية الأبعاد الأخرى، أي يتغير سُلّم الأولويّات بحسب الظرف العام الذي يميّز موازين القوى بين الشعب وأعدائه. فالديمقراطية الشعبية هي عِنْوان النّضال دفاعًا عن الحقوق والحريات (السّياسية والاقتصادية والاجتماعية) وفي مواجهة التّراجعات التي ما انفكّ يقوم بها قيس وللتّصدّي لمسار عودة الاستبداد في تونس. وهوما يَعْني إقامة كلّ التّحالفات والأعمال المشتركة مع القوى السياسية والمدنية المستعدّة للعمل تَحْتَ هذا العنوان ولكن أيضا، وبشكل متلازم، تحت عنوان التّصدي لعودة المنظومات الرجعية السابقة التي حكمت تونس قبل الثّورة (الدسارتة) أو بعدها (النهضة).
ولئن تعلق هذا النضال بمطالب جزئية فإنه يتم من خارج منظومة الحكم وفي قطيعة معها وعلى أنقاضها. فالمراكمة التي تضمن تحسين شروط النضال وتعديل موازين القوى هي تلك التي تتم من خارج "السيستام" وتحقق مكاسب على حسابه لا تلك التي تُضْفِي عليه مصداقية وتساعدُهُ على تمرير الأوهام والمغالطات. هذا هو البُعْد الأول للدّيمقراطية الشّعبية في ظروف الردّة العامة والتقدم "الكاسح" للثورة المضادّة على حساب حركة النّضال.
وعلى مستوى آخر وفي نفس السّياق تتضمّنُ الديمقراطيّة الشّعبيّة مسارا كاملا من الدعاية والشّرح والتّفْسير للارتقاء بوَعْي الجماهير حتى تتبنّى برنامج الثّورة وتقطع تدريجيا مع منظومة الحكم وتُصْبِحَ مستعدّة للتمرّد عليها. فكما يجري تعديل موازين القوى السّياسية والطّبقية على قاعدة النّضالات الميدانيّة حَوْلَ مطالب ملموسة وملفّات تَشْغَلُ الناس فإنّه يجري أيضا عبر العمل الدعائي والتّثقيف السّياسي والتّوعية إلى أن تَعِيَ الجماهير العمّالية وعُمُوم الفئات الشّعبية بذاتها وبالنّضال من أجل ذاتها أي من أجل تحرّرها من سيطرة الطّبقات الرجعيّة. وهذا هو البُعد الثّاني للديمقراطيّة الشّعبيّة الذي يُوَاكب النضالات البسيطة والمُشَتّتة والحركة الدفاعية الجَارية الآن في محاولة لوقف زحْف الشعبوية على مكتسبات الحركة الديمقراطية والشعبية. ويتمادى هذا البُعد على مدى مرحلةٍ أخرى لتحسين مزاج الجماهير وللانتقال بالوعي العام إلى مقدّمات لحالة من الهجوم المضاد على منظومة الحكم.
تتركّز هذه الدعاية حول فحوى برنامج التغيير في المجال الاقتصادي وملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة وتنمية البلاد وفي المجال الاجتماعي (تحرير قوى الإنتاج في الريف والمدينة عبر تطوير الإنتاج كميا ونوعيا) وفي مجال تنظيم مؤسسات الحكم البديلة وحوكمتها عبر المشاركة الفعلية لجماهير العمال وسائر فئات الشعب في إدارة شؤون الدولة ومؤسساتها. ويجري عبر عملية الشرح الواسع لهذا البرنامج لإقناع الجماهير بضرورة القضاء على المنظومة الرجعية ووضع صورة البرنامج وشعاراته موضع تنفيذ كنظام بديل.
هذا البرنامج الذي تشرع الطبقة العاملة وعموم الجماهير الشعبية في تطبيقه على جميع الأصعدة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. في كلمة المشروع المجتمعي الجديد في كل أبعاده. ومعلوم أنّ تفكيك أسس القاعدة الاقتصاديّة للمجتمع القديم تمثّل الحلقة الأبرز في مسار بناء المجتمع الجديد وتأمين ديمومته وحمايته من محاولات الثورة المضادّة الرامية لعودة الطبقات المطاح بها للحكم من جديد. وتكتسي مسألة تأميم كل المؤسسات التي تجسد هيمنة الرأسمال الأجنبي وعميله الرأسمال الكبير المحلي (في كل القطاعات، الصناعة والفلاحة والخدمات وتجارة الجملة والتجارة الخارجية) أهمية خاصة. ولا تقلّ عنها أهمية عملية تطوير قوى الإنتاج في الريف (عبر تصنيع الفلاحة وتحويل المالكين الصغار والمهمشين إلى تعزيز للطبقة العاملة) ووضع مؤسسات الإنتاج في المدن تحت إدارة الطبقة العاملة وعموم الكادحين. هذه الإجراءات وغيرها من الإجراءات السياسية (تنظيم أجهزة الحكم تنظيما طبقيا جديدا) والاجتماعية تجسد البعد الآخر للديمقراطية الشعبية بصفتها نمط المشروع العصري الجديد في سيطرة الطبقة العاملة وسائر القوى المنتجة على ملكية وسائل الإنتاج وعلى جهاز الدولة.
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟