جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 15:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قال الأميرال الأمريكي ألفريد ماهان Alfred Mahan (1) قبل قرن من الآن، وهو أول من أطلق تسمية "الشرق الأوسط" على هذه المنطقة من العالم، "من يتحكّم في الشرق الأوسط يتحكّم في العالم". وقد جاءت كلّ التطوّرات التي عرفها تاريخنا المعاصر لتؤكّد صحّة هذه القولة التي ترتقي إلى مستوى "النبوءة". وتذهب آخر التطورات منذ أن شنّ الكيان الصهيوني أُولَى هجماته على إيران يوم الخميس 12 جوان الجاري باتّجاه تَعْزيز القناعة لدى كلّ العالم وخاصّة لدى القوى العظمى بأهميّة هذا المَوْقع الاستراتيجي وخُطُورته.
لقد كان ولا زال "الشّرق الأَوْسط" على امتداد عقود مَسْرحًا لأعْنَفِ الاضطرابات وأكثر الحروب دموية ترتبطُ كلّها بالنّزاع العربي الصّهيوني. والأكيد أنّه سيظلّ مِنْطقة مُشْتعلة ما لم يقع القضاء بشكل تامّ ونهائي على هذا الكَيَان الذي يجسّم آخر "قلعة" من قلاع الاستعمار المباشر. إنه كيان استثنائي في سيرورة النّزعة الهيمنيّة الامبرياليّة العالميّة الّتي أصبحت المنطقة، بوجود هذا الكيان، حالة استثنائية في التاريخ المعاصر.
لقد عرفت منطقة "الشّرق الأوسط" ما لا يقلّ عن عشر حروب ومواجهات عسكرية (دون احتساب الحملات العسكرية المحدودة على غزّة أو الضفّة الغربية أو الغارات الخاطفة على المفاعل النووي العراقي وغيره الخ...) وكان الكيان الصهيوني المسمّى "إسرائيل" هو المبادر بإشعال فتيلها على غرار ما نعيشه هذه الأيام. وتَنْدَرِجُ كلّ هذه الحروب والعدوانات ضمن مسار استعماري ووفق نفس الاستراتيجية القائمة على السّعي إلى إخضاع كل المنطقة ومحيطها للسّيطرة الامبريالية الأمريكيّة بأَشْكالٍ متعدّدة، مباشرة وغير مباشرة، تمثِّلُ فيها "إسرائيل" الأداة الرئيسية.
إنّ مُبَادرة الكيان الصهيوني بالاعتداء على إيران هو تَنْفيذٌ لخطّة قديمة جرى طبْخُهَا منذ سنوات طويلة قبل حتّى رئاسة ترامب الأولى. وقد تأجّل موعد الإقدام على مثل هذه الخطوة عديد المرات تحت ضغط توازنات دولية وإكراهات كثيرة ومتنوّعة قدّرت الإمبرياليّة الأمريكيّة اليوْمَ تحت قيادة المُغَامر المجرم ترامب وأداته المجرم نتنياهو أنّ شروط قَطْعِهَا قد اكتملت وبات من اللّازم تنفيذُها دونَ تأخير. وقد جرى إعداد الأجواء والذّرائع والمخادعات الضّرورية لتبرير العدوان المفاجئ الذي شنّه الطّيران الصّهيوني على مناطق واسعة من إيران. وعلى رأس هذه الذرائع "تدمير المواقع النوويّة" الإيرانية. ومع اتّساع فضاء العمليّات العسكريّة وحجمها أصبح الهدف من هذه الحرب التي كان ترامب والإدارة الأمريكية على علم بتفاصيل مخططها، القضاءُ على القدرات العسكرية الإيرانية ومن ثمة القضاء على التّهديد الذي يستشعره الكيان الصهيوني.
استكمال ترتيبات المنطقة
في قراءة منطقيّة لمسار الحروب والنّزاعات التي شهدتها المنطقة في السّنوات الأخيرة تبدو الحربُ على إيران، في خطّة الإمبريالية الأمريكية والكيان الصّهيوني، خاتمة الأعمال من أجل الانتهاء من الترتيبات اللازمة لولوج عهد "الشرق الأوسط الجديد" من وجهة نظر استعمارية جديدة.
يعتبر الصّهاينة أن إيران أصبحت تمثّل مركز الثّقل في تهديد مستقبل الكيان في المنطقة، لذلك تقوم استراتيجيتهم على تحييد هذا الخطر قبل أن يستفحل ويخرج عن السّيطرة. وقد ازداد الحرص الصّهيوني على التخلّص من الخطر الإيراني إلحاحية على إثر التّطورات التي شهدتها ساحة المعركة العسكريّة في الشّرق الأوسط منذ طوفان الأقصى. لقد فوجئ الكيان في هذه المعركة بـ"وحدة الساحات"، غزة ولبنان واليمن والعراق، وبتغيّر في قواعد الاشتباك بما أوحى في وقت من الأوقات بأن ميزان القوى في المنطقة بصدد التبدل باتجاه توازن القوى وهو ما أدخل الرّعب على الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية وكامل قوى الغرب التي انخرطت كلّها بدرجات متفاوتة في غرفة العمليات العسكرية ضد غزّة.
غير أنّ هذه المواجهة انتهت (وإن لم تنته بعد) إلى انتصار عسكري صُهيوني في غزّة ولبنان وعسكري سياسي في سوريا. وأعاد هذا الانتصار منطق الرّدع إلى ما قبل انطلاق طوفان الأقصى.
صحيح أن المقاومة كسبت خبرات عسكريّة واستراتيجيّة جديدة ولكنّها خسرت نقاط ارتكاز في تموقعها الجغرافي الميداني وقد يلزمها وقت طويل كي تعيد بناء مقومات الاشتباك القادم وتجهّز مستلزمات المعركة الجديدة.
ومن الانعكاسات المؤثّرة في هذه النّتائج الأوّليّة للمعركة الحاليّة أن تمّ ضَرْبُ قواعِدَ أساسية في خطّة التّأثير والانْتشار الإيرانية في المنطقة. لقد خسرت إيران السّاحة السّورية التي تمثّل العمق الاستراتيجي للسّاحة اللبنانية وحزب الله. وهو ما من شأنه أن يَحْكُمَ على خطوط الوصْل مع حركة المقاومة في غزّة بالانقطاع أو على الأقل بالتعطّل. بقي الذّراع اليمني الذي يبدو أنّه يتمتع بعناصر مناعة داخلية أمْتَنَ من بقية الأذْرُعِ الأخرى ولكنّه بات في مرمى الغارات الأمريكية والصهيونية في المدّة الأخيرة ومازال من غير المعلوم ما إذا ستنجح خطة تحييده عبر المفاوضات (كما ترغب أمريكا) أو باستعمال القوّة كما يفضّل الكيان الصهيوني.
لقد تمكّن الكيان الصّهيوني في النّهاية، بعد أكثر من سنة من الحرب، في مواجهة اتّحَدَتْ فيها ساحات المعركة (غزة والضفة ولبنان والعراق واليمن) وتكبّد خلالها خسائر تكتيكيّة واستراتيجيّة عسكرية ومعنوية، من قَلْبِ النّسق لصالحه، بدعم غربي عسكري وسياسي ومالي مفضوح. وقد تمّ له ذلك خاصّة بَعْدَ أن أجهز على القيادة العسكرية والسياسية لحزب الله في لبنان وبعد أن تمّت الإطاحة بنظام الأسد في سوريا.
هذه التحّوّلات "أوحت" إلى الكيان الصهيوني بأنّ الوقت قد حان لشنّ هجوم حاسم على إيران دون انتظار. لذلك راح نتنياهو يمارس ضغوطه على الإدارة الأمريكية الجديدة، إدارة ترامب، كي تُعْطيه الضوءَ الأخضرَ لذلك. وقد حفّت بمساعي نتنياهو جملة من العوامل الدولية (تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية الموجّه مثلا) والداخلية أي داخل الكيان الصهيوني. ولعلّ ما بات يدفع بقوة على شنّ هذا الهجوم هو ما أعلنته إيران من أخبار حول حصولها على معطيات استخباريّة دقيقة حول خارطة القوّة النووية الصهيونية من جهة وفشل مسْعى المعارضة الصّهيونية في حلّ البرلمان (الكنيست) وبالتالي بقاء حكومة اليمين الصهيوني لستّة أشهر أخرى على الأقل من جهة ثانية.
أصبح الآن إذن متاحا للكيان الصهيوني التصريح باعتزامه السّيطرة على كامل المنطقة وإخضاعها كلها لنفوذه إن بالتطبيع معه أو بالقوة العسكرية الغاشمة. ولا يمكن أن يستتبّ له ذلك إلا باستكمال الحلقة الأخيرة من سلسلة المواجهات مع القوّة التي لا مناص من تفكيكها نهائيا وهي إيران آخر المعاقل التي تموّل أذرع "محور المقاومة" وتقوده وتستعمله في مختلف المواجهات المحدودة في المكان والزمان.
لقد آن الأوان لضرب مصدر الخطر الأصلي. وبلغة أخرى وجب الانقضاض فورا على مركز الثقل في التهديد الاستراتيجي لوجود الكيان ومستقبله.
إزاحة إيران، إزاحة العقبة الأخيرة
لا يشكّ إثنان اليوم في أن "القضاء على المفاعلات النووية الإيرانية" ليست غير ذريعة استعملها الكيان الصهيوني لتبرير عدوانه على إيران وساعده في ذلك رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، غروسي، الذي نراه اليوم، بعد أن ارتكب جريمته، يتراجع معترفا بأن إيران ليس لها برنامج لامتلاك السلاح النووي. كما لا يشك إثنان في أنّ توسيع أهداف الحرب الصهيونية على إيران لتشمل ضرب القدرات العسكرية الإيرانية بشكل عام ليس غير مقدمة لهدف أعمق هو الإطاحة بالنظام الإيراني وتنصيب نظام جديد موال للإمبريالية الأمريكية وبالتالي للكيان الصهيوني على غرار ما جرى في سوريا. كل ذلك من أجل ضمان خارطة جديدة للأنظمة السائدة في المنطقة يكون الخيط الناظم بينها هو التبعية المطلقة للإمبريالية الأمريكية دون سواها من الإمبرياليات الأخرى مع الحفاظ على تفوّق رأس الحربة الصّهيوني.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي تتدرّج العملية العسكرية الصهيونية على إيران في الكشف عن أهدافها في تَتَابُعٍ منطقي تَذْهَبُ من ضرب المنشآت النووية الإيرانية إلى تقويض القدرات العسكرية ومنها إلى ضرب الاقتصاد الإيراني ككل وتقويض قدرة إيران على تمويل حلفائها
ومنع ترميم قدراتهم القتالية من جديد ومن ثمة إلى استباحة الأجواء الإيرانية حتى بعد انتهاء العملية العسكرية الحالية من خلال القضاء على أنظمة الدّفاع الجوّي وتفكيك القدرة الإيرانية على التّصنيع العسكري من خلال استهداف المصانع والمنشآت والمعدات النوعية، إلى "ضعضعة" أسس نظام الحكم وتأليب المعارضة العميلة عليه وصولا إلى بث الفوضى وإدخال البلاد في دوامة التناحر والغرق في مستنقع النّعرات الطائفية والنّزاعات الاجتماعية والسياسية الدّاخلية، أي إنضاج شروط الإطاحة به.
ويعمل الكيان الصهيوني بكل خبث ودهاء على تحريك النّوازع الاستعمارية الإجرامية لدى الرئيس الأمريكي ترامب لجرّه إلى انخراط القوة العسكرية الأمريكية مباشرة في المعركة. ورغم التردد في اتخاذ قرار التدخل تبقى كل الاحتمالات واردة خصوصا إذا استمرّت المواجهة العسكرية الحاليّة لأمد طويل نسبيا. ومن بين الاحتمالات في ضوء التحشيد العسكري الأمريكي أن يقع توسيع نطاق الحرب في المنطقة ولما لا – وهو احتمال ضعيف في الوقت الحالي على الأقل – في العالم قاطبة.
لقد بات واضحا أن الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني يستعجلان استثمار التطورات الحاصلة في المنطقة في السنوات الأخيرة من أجل القطع مع حالة اللاحرب واللاسلم واستكمال صياغة الخارطة الجديدة في الشرق الأوسط وتمتين أسس سيطرتهم لفترة طويلة قادمة دون خشية أي قلق. ومفتاح المرور إلى "مناخ النعيم" هذا هو الانتهاء وإلى الابد من "الشغب الإيراني".
الخارطة الجديدة
إن الصورة المثلى لخارطة الشرق الأوسط من وجهة نظر أمريكية صهيونية تتشكل كالآتي:
- احتكار سيطرة أمريكا على المنطقة لفترة لا محدودة ومنع تسرب أي قوة هيمنية أخرى إليها من أجل الاستفادة من موقعها الاستراتيجي ومن خيراتها وأسواقها،
- تفوّق الكيان الصهيوني اقتصاديا وعسكريا وتمدّده استيطانيا أكثر باتجاه بلوغ دولة "إسرائيل الكبرى" واتّساع رقعة نفوذه السّياسي في المنطقة وتمتين اندماجه في محيطه الشّرق-أوسطي عبر تعميم اتّفاقيات التطبيع معه،
- تركيز أنظمة موالية في كل بلدان المنطقة والقضاء على كل نفس وطني معارض للهيمنة الامريكية والصهيونية مع منع ظهور أي قوة إقليمية جديدة يمكن أن تنافس الكيان الصهيوني.
-
إن إخضاع منطقة الشّرق الأوسط على هذا النّحو سيوفّر للإمبريالية الأمريكية عوامل نجاح مهمّة في خوض المعارك التجارية (مع الصين وبرنامج الحزام والحرير) والاقتصادية والعسكرية مع بقية القوى الامبريالية التقليدية والصاعدة خاصة في مثل هذا الظرف الذي يتهيّأ فيه العالم إلى الانتقال من عهد (القطب الواحد) إلى آخر متعدّد الأقطاب.
في هذا السياق العام تندرج إذن الحرب على إيران. وهي كغيرها من الحروب حرب قذرة اندلعت من منطلقات صراعات توسّعية وترمي إلى أهداف استعمارية هيمنية أجبرت الشعوب والقوى الوطنية والديمقراطية، وهي تعارض العدوان الصهيوني الامبريالي، على أن تقف إلى جانب الشعوب الإيرانية في هذه المعركة، وهي تقبع للأسف تحت نظام استبدادي ورجعي. هكذا هي أحكام التاريخ والتطور الخاص للمجتمع الإيراني والصراع الطبقي داخله أن تجري أطوار هذه المعركة في قبضة تناقضات وإكراهات فرضت الرّضوخ إلى منطق تسبيق الرئيسي على الثانوي. ولنا عودة لهذا الموضوع.
الهوامش:
1 – ألفريد ثاير ماهان Alfred Thayer Mahan (1840 – 1914) هو ضابط في البحرية الامريكية ومؤرخ وواحد من أكبر الاستراتيجيين البحريين الأمريكيين.
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟