جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 18:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الحرب التجارية الامريكية الأوروبية
حلقة في نظام الفوضى العالمية
زوبعة جديدة تهز أركان ما يسمى بـ "العالم الحرّ". زوبعة يبادر، مرة أخرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإثارتها بعد أن كان أعطى إشارة انطلاق جولة جديدة من الصراع بين شركاء الأمس الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا. وقبل انقضاء ثلاثة أشهر، الأجل الذي ضربه من جانب واحد، يعود ترامب اليوم ليقطع خطوة جديدة في توتير الأجواء وتعكير العلاقات التجارة العالمية والنظام العالمي "القديم".
ترامب وفك الارتباط مع أوروبا
كان ترامب حدد في بداية شهر أفريل الماضي مهلة بتسعين يوما للمحادثات التجارية بين بلاده والاتحاد الأوروبي للاتفاق على قواعد جديدة للعلاقات التجارية بين الطرفين. وقد اعتبر وقتها أن بلاده تضرّرت من قواعد التعامل السّابقة ويتعيّن بالتّالي مراجعتها مُهَدِّدًا بفرض رسوم قمرقية من جانب واحد إذا لزم الأمر.
عاد هذه المرّة ليعبّر عن استيائه من بطء المحادثات معلنا أنه سيتّخذ قرارا بسنّ رسوم قمرقية بـ 50 % على واردات بلاده من أوروبا. الأمر الذي أربك الاتحاد الأوروبي وجعل رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين تتّصل على الفور بالرئيس ترامب طالبة منح الاتحاد مُهْلة للتداول في الموضوع واتخاذ موقف أوروبي موحّد. ونقلت وسائل الإعلام قولها لترامب "سنجتمع معا بسرعة لنرى ما إذا كان بإمكاننا التوصل إلى شيء ما"، وقد قبل ترامب على أن يكون آخر أجل في ذلك هو يوم 9 جويلية القادم.
في المقابل اعتبرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاقارد (الرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي) أن "دعم واشنطن لنظام دولي قائم على القواعد والدولار كعملة احتياط "مهّد الطريق لازدهار التجارة والنمو المالي". وحذّرت من أن يُصَابَ هذا النّظام بالتّصدّع. وخرجت من خلال محاضرة ألقتها في "جامعة هرتي" في برلين الاثنين 26 ماي الماضي باستنتاج مفاده أن النظام الاقتصادي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية على مدى ثمانين سنة الماضية "أثبت أنه مفيد بشكل هائل بالنّسبة للاتّحاد الأوروبي. لكنه اليوم يتصدّع". ونبهت إلى أن الاضطرابات التجارية الأخيرة تهدّد "الدور المهيمن للدّولار الأمريكي"، وحذرت من التبعات الخطيرة لتفكك النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي الذي "يعرّض أوروبا لمَخَاطِرَ".
وقد حَمَلَ خطاب لاقارد لأول مرة انتقادا حادّا للرّئيس ترامب الذي قالت عنه أنه يستخدم "لغة فظيعة" ضد الاتحاد الأوروبي وحمّلتْهُ المسؤولية في التّوتّرات التي طرأت على التّجارة العالمية واستفحال الصراعات الثّنائية والسّياسات الحمائية التي حلّت مَحَلَّ التّعاون مُتَعَدِّد الأطراف. لذلك ودفاعا عن أوروبا التي قالت إنها "معرّضة للخطر" نتيجة الفوضى التي جاء بها ترامب اقترحت أن يقع اسْتِبدال الدّولار باليورو كعُمْلَةٍ احْتياطية عالمية. واعتبرت أن التراجع الذي سيحصل للدولار جراء تراجع التجارة العالمية وتفاقم ظاهرة التّكتلات الاقتصادية والتي من الممكن أن تُلْحِقَ بأوروبا أضرارا من شأنه أن "يفتح الباب لليورو لِلَعِبِ دور دولي أكبر".
ونوّهت بأن تطور دور اليورو على السّاحة الدولية من شأنه أن يخفّف من مديونية بلدان الاتحاد الأوروبي ويحمي الاتّحاد من تذبذبات سعر الصرف ومن شأنه أيضا أن "يسمح لأوروبا التحكم بمصيرها بشكل أفضل".
واجهات أخرى في فوضى العالم الجديد
تنضاف هذه "المواجهة" بين ترامب والاتحاد الأوروبي إلى التصعيد الذي شهدت العلاقات بينهما بخصوص الترفيع في ميزانيات التّسْليح إلى 5 % الذي اشْتَرَطَهُ ترامب للبقاء في حلف شمال الأطلسي. ولئن بقي ذلك الملف طي الغموض ولا يُعْرَفُ بعد ما إذا كان ترامب جادا في اعتزامه الانسحاب من الحلف الأطلسي، لأن العديد من البلدان الأوروبية لن تلبّي له رغبته في الزيادة في نفقات التسليح ولأن أوروبا ماضية باتجاه التعويل عن امكانياتها الخاصة للدفاع عن نفسها، فإن المواجهة الحالية التي تتركز حول الجوانب الاقتصادية والتّجارية كانت مُتَوَقّعَة وتضعُ الصّراع بين القوتين في مداره الحقيقي والصّحيح. وهو ما يؤشر حقا عمّا قيل في السّابق بخصوص اتّجاه أوروبا نحو إعادة صياغة موقعها كقوّة اقتصادية وسياسية وعسكرية في مسرح الصراع بين القوى العظمى وبشكل منفصل عن أمريكا.
من جانب آخر مازال ترامب "يلعب" على حبال التناقضات مع كل من الصّين وروسيا باستمالة الواحد دون الآخر. ولكن مازال من السابق لأوانه الحكم له بالنجاح في هذه اللعبة المعقّدة. فروسيا هي الخصم العسكري الأول للولايات المتحدة الامريكية أما الصين فهي خصمها الأول على الصعيد الاقتصادي والتجاري في الوقت الحالي ويتعين على ترامب ضبط أولوياته بمنتهى الدّقة. التهدئة المؤقتة مع روسيا والتفرّغ لمواجهة الصين لمنعها من أن تصبح قوة اقتصادية وعسكرية في نفس الوقت. فمن وجهة نظره أي تهاون في علاقة بالصين فيه مخاطرة غير مضمونة العواقب تماما كالتركيز على مواجهة روسيا اليوم لحسم التوازنات العسكرية معها الآن وهنا وما يحمل من مقامرة أيضا رغم ان تعاونها مع "الحلفاء الصغار" من قبيل كوريا الشمالية وإيران بات مزعجا بما لا يمكن احتماله لفترات طويلة.
لذلك اختار ترامب التاجر وسمسار العقارات والمستثمر في السياحة والمرابي في العملات الالكترونية الاتجاه إلى تصفية حساباته التجارية في المقام الأول ومع الصين بالدرجة الأولى. وهو ما يفسر تركيزه على ملف الرّسوم القمرقية في كل الاتجاهات.
مزيد من الصراعات ومزيد من الفوضى
يهيمن الدولار على حركة التجارة الدّولية إذ يقع تداول المواد الأولية الزراعية والمحروقات والمواد المصنعة باعتماد العملة الامريكية. كما يهيمن على التّحويلات المالية الدّولية ويُعْتَمَدُ في خلاص الدّيُون الخارجية وغيرها من التّداولات. لذلك يتفرّد الدولار دون سواه من العملات الأخرى بمكانته كعملة احتياطية دولية وبالتالي كعملة مهيمنة تجعل الاقتصاد الأمريكي قويّا ويمثل 26 % من الاقتصاد العالمي (وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي سنة 2024 حوالي 30 تريليون دولار). هذه المكانة باتت مُهَدَّدَة الآن في ظلّ حرب الرّسوم القمرقية التي من تداعياتها المباشرة أن انخفضت قيمة الدولار منذ منتصف جانفي الماضي بنسبة 9 % مقابل عدد من العملات الأخرى. وتتّفِقُ العديد من التقارير الاقتصادية والمالية المشهود لها بالجدية على أن وضع الدّولار كعُمْلة احتياطية أصبح موضع شكوك متزايدة ( 1 ). وهو ما من شأنه أن يعرّض المقدرة الشرائية للمستهلكين الأمريكيين للخطر نتيجة ارتفاع سعر الفائدة على الرهن العقاري وقروض الاستهلاك وصفقات السيارات وغيرها. كما من شأنه أن يرفّع في أسعار الفائدة على الديون الفدرالية الامريكية التي تبلغ 120 % من الناتج السنوي الأمريكي.
علاوة على كل هذه المخاطر فإن تراجع الدولار سيفسح المجال أمام تعدد "الملاذات المالية الآمنة" ذلك أن دول البريكس تسعى من مدة إلى أطلاق عُمْلة احتياطية خاصة بهذا التجمّع بعد أن أطلقوا منظومة مبادلات مالية بديلة عن منظومة "سويفت" swift. ولئن لم تتقدم الأمور بالسرعة الكافية فقد دخل ضمن التقاليد الجديدة في معاملات الصين إبرام الصفقات مع والبرازيل أو روسيا أو كوريا الجنوبية والسعودية وبلدان الخليج باعتماد العملة الصينية "اليوان". وهي ذات العملة التي تعتمدها الصين في منح قروض للبنوك المركزية لبعض البلدان مثلما حصل مع الباكستان والأرجنتين. ما يعني أن اليوان في طريقه إلى افتكاك موقع يزداد اتساعا كممول طوارئ وملاذ مالي بديل عن الدولار.
وبعد التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي ترامب بخصوص الترفيع في الرسوم القمرقية التي ينوي فرضها على واردات بلاده من أوروبا ردّ الأوروبيون الفعل بالتفكير في تحويل عملتهم اليورو إلى عملة احتياطية على الأقل في مستوى الفضاء الأوروبي. ويبدو أن الامر ليس مجرد نوايا أو تهديد للضغط على ترامب فقد انطلقت المشاورات الأوروبية بشكل جدي في هذا الصدد بعد تصريحات أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الاوروبية حسبما تتناقله بعض التقارير.
هذا التعدد الذي ترتسم ملامحه في الأفق غير البعيد يعكس في الأساس سير العالم إلى حالة جديدة من تعدد الأقطاب الاقتصادية والمالية والعسكرية ستكون فيها الصراعات على جميع الأصعدة أشد من أي وقت مضى. وسيتطلّب الأمر طوال الفترة الانتقالية ما بين عالم القطب الواحد والعالم الجديد مجهودات جبارة للسيطرة عن حالات الانفلات والفوضى الناجمة عن الحسابات الخاصة لكل طرف من أطراف الصراع. وفي مثل هذه المناخات التي ستدفع بقوة إلى ارتفاع نسب التضخم بسبب الرسوم القمرقية، سيكون لسياسات المغامرة الترامبية أثار أخرى وخيمة.
هوامش
1 - تقرير شركة "كابيتال إيكونوميكس" بلندن أنظر الرابط التالي :
La domination du dollar persistera dans un monde sans alternatives | Economie du capital
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟