جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عرف قيس سعيد كيف يتسلل "في غفلة" من الجميع تقريبا، القوى السياسية الماسكة بالحكم والقوى المعارضة على حد سواء. لكنّ وصوله إلى قصر قرطاج ومن ثمة استيلاؤه على كلّ مراكز الحكم لم يحصل بمعزل عن التطورات التي اختصت بها التجربة التونسية وبالتحديد الفترة الانتقالية ولا عما ميّز العشرية الماضية على الصعيد العالمي من تقلبات وتحولات كان من أهم خاصياتها صعود الشعبوية في أكثر من مكان في العالم.
كنت فيما سبق قدّمت بشكل موجز ومكثّف الأسباب السياسية العامّة التي فسحت المجال لقيس سعيد كي "يتسلّل" إلى الحكم وأعود إلى ذلك هذه المرة من زوايا أخرى وخاصة منها زاوية سلوك الطبقات الاجتماعية الأساسية في تونس خلال العشرية الماضية.
في سلوك الطبقات الاجتماعية خلال المرحلة الانتقالية
خلّف رحيل بن علي وانحلال حزب "التجمع" فراغا كبيرا في الساحة السياسية. فكلّ الأحزاب المعارضة لنظام بن علي داهمتها الثورة وهي تعاني من الضعف والتشتت والعزلة الاجتماعية. لقد فرض عليها بن علي حالة من العزلة عن الجماهير ومنع عليها كل سبل الارتباط بالحركة الاجتماعية. لذلك وجدت نفسها إبان الثورة وجها لوجه مع مهمتين عويصتين الأولى العمل على افتكاك موقع في المشهد السياسي المستحدث وخاصة في منظومة الحكم ما بعد الثورة والثانية الانتشار جماهيريا وكسب طبقات وفئات اجتماعية كل حسب رؤاه ومقارباته.
فحركة "النهضة" التي كسبت الجولة الأولى من الانتخابات العامة في أكتوبر 2011 بفضل الخطة الانتخابية التي وضعتها واستغلال عامل الدّين وسذاجة أوساط واسعة من الناخبين من كل الطبقات والشرائح (من البورجوازية الكبيرة ومن الطبقة العاملة على حد السواء) راحت حالما استلمت الحكم تعمل على صنع قاعدتها الاجتماعية عبر استمالة الطبقة البرجوازية الكبيرة (في الصناعة والتجارة والفلاحة) والشرائح العليا من بيروقراطية الإدارة والمؤسسات الصلبة في الجيش والأمن والقضاء من جهة وعبر خلق "رجال الأعمال الجدد" التابعين لها وبثّ أعوانها وكوادرها في المؤسّسات والأجهزة من جهة ثانية. وقد قطعت أشواطا مهمّة في هذا المضمار وبدأ "رأس المال الجبان" في البحث عن الاستظلال بظلها لو لا التقلّبات السّياسية التي شوّشت عليها خطّتها. ومن أبرز مظاهر هذا التشويش سقوطها في "فخّ الإرهاب" (العلاقة بأنصار الشريعة...) الذي حاولت توظيفه بشكل خبيث فأفلت من رقابتها وتحوّل بسرعة إلى "عامل قلق" عكّر عليها أجواء المناورات السياسية في مرحلة انتقالية هشّة وأثار حولها كثيرا من الرّيبة والشّكوك حتى لدى الطبقات العليا التي قبلت من حيث المبدأ أن تستبدل "التجمع الدستوري" المنحل بحركة "النهضة" كتعبيرة سياسية تمثلها وتلهج باسمها.
لقد فشلت حركة "النهضة" في التوفيق بين مختلف الاستحقاقات المتناقضة التي طرحتها مرحلة ما بعد الثورة واضطرت إلى العودة للتحالف مع "النظام القديم "المرسكل" في "نداء تونس" بقيادة الباجي قائد السبسي. ولكن فشل هذا التحالف في معالجة الملفات الثقيلة عمّق ريبة وشكوك لا فحسب الطبقات العليا (البورجوازية الكبيرة بكل فصائلها) بل وسّع نطاق هذه الشكوك والرّيبة إلى فئات البورجوازية المتوسطة والشرائح العليا من البورجوازية الصغيرة في المدن والأرياف وبطبيعة الحال في صفوف أوساط من الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية الحسّاسة كالشباب والنساء.
أما الفئات الشّعبية والأوساط المثقّفة التّقدّمية فقد وجدت بُعَيْدَ انتخابات أكتوبر 2011 في "الجبهة الشعبية" التعبير السّياسي الملائم عن انتظاراتها ومطامحها رغم أنّها لم تمنحها ثقتها إلا بشكل جزئي وراحت تراقب تطوّر الأوضاع المتقلّبة ما بين 2012 وما بعد انتخابات 2014. ذلك أن هذه الفترة شهدت هجوم حركة "النهضة" القادمة للتو إلى منصب الحكم على الكثير من ثوابت المجتمع في إطار سعيها إلى وضع أسس نظامها من منظورها "الإسلامي"(هجوم على اتحاد الشغل، التبشير بمفاهيم جديدة في مجال الاسرة والمرأة والحياة المدنية، الاغتيالات السياسية الخ...). ورغم أن الجبهة ارتقت إلى مركز القوة الثالثة في السّاحة السياسية وتحوّلت في نظر الجميع تقريبا إلى قوة الضغط الأساسية لكسر الاستقطاب الثنائي بين "النهضة" و"النظام القديم" وأصبح ينظر إليها على أنها قوة التعديل والتوازن في البلاد، رغم ذلك فإنها لم تتمكّن من احتكار تمثيل الطبقات والفئات الشعبيّة الفقيرة والمتوسّطة. فقد بدأت بالظهور أطراف تنافس "الجبهة" على هذا التمثيل (التيار الدّيمقراطي، حركة الشّعب الخ...) ومن ثمّة انطلق مسار تراجع "الجبهة" وفقدانها لوزنها الاجتماعي وتأثيرها السياسي.
خلاصة القول إن الفترة الانتقالية ما بين سقوط نظام الاستبداد وحلول النظام الديمقراطي الليبرالي الجديد، تميّزت من النّاحية الاجتماعية بتردّد مختلف الطّبقات في حسم خيارها حيال العرض السياسي الغزير الذي قدمته الساحة إبّان 14 جانفي. واستمرّ هذا التردّد على امتداد المرحلة الانتقاليّة أي حتّى سنة 2019. وهو ما يفسّر تعطّل مسار "استكمال مهام الثورة" كما طرحته "الجبهة الشعبية" من ناحية وعدم قدرة الثورة المضادّة على التّقدّم بسرعة لغلق قوس الثّورة رغم تعدّد المحاولات وتنوّعها (هذا إذا اعتبرنا أن صعود السلفية كان أيضا وجها من أوجه الثورة المضادة) من ناحية ثانية.
لقد عاشت البلاد على وقع نوع من توازن حالة الهشاشة بين سلطة الحكم الجديد (ما بعد الثورة) والقوى المعارضة لها ولو لا الوزن الذي كانت تتمتع به الدّولة العميقة (الإدارة والجيش والأمن أساسا) لدخلت البلاد في منعرج كان يمكن أن يعطي للتاريخ خطّ سير غير الخطّ الذي سارت فيه البلاد. وهكذا توفّر المناخ لظهور الخطاب الشعبوي الذي لم يكترث له أحد في البداية واتضح فيما بعد فعاليته في اقتلاع ثقة "الشعب" واختصار المسافة للوصول بسرعة إلى الحكم. غير أنّ تعقيدات الوضع استوجبت مزيد الانتظار حتى تكتمل نضج "الفكرة الشعبوية". ومع استفحال حالة العجز شبه العامة لدى أهم الفاعلين السياسيين في الساحة، التحالف السياسي/الطبقي الممثل في النهضة والنداء ومن لف لفهم (حزب آفاق، حركة الشعب) من جهة والمعارضات السياسية وخاصة "الجبهة الشعبية" من جهة أخرى تهيأت الظروف فعلا لصعود التيار الشعبوي الذي كشف عن نواياه دون مواربة في الدخول إلى حلبة الصراع من أجل الحكم.
نسخة مشوّهة من بونابارت
لقد أنتج فشل منظومة الحكم الجديدة وعجزها عن معالجة الملفّات الكبرى التي أشعلت فتيل الثورة حالة من الضبابية والغموض احتضنت كثيرا من مشاعر الإحباط والقلق خاصة لدى كل الفئات والأوساط الاجتماعية/المهنية، لدى الشباب وجماهير المناطق الفقيرة والمهمشة وجزء واسع من الطبقة الوسطى ومثقفيها والغاضبين من أداء حركة "النهضة" وانقسامات "نداء تونس" والرافضين لما يسمى بـ"الطبقة السياسية" التقليدية. كانت تلك هي لوحة المشهد العام التي حفت بانطلاقة قيس سعيد في مسيرة الزحف نحو الحكم وكَيّفَهَا على النّحو الذي جعل من وصوله إلى الحكم ظاهرة سياسية واجتماعية باغتت الكثير وأثارت استغراب الجميع تقريبا.
اعتمد قيس سعيد أسلوبا غير معهود في السّاحة التونسية يعوّل على الاتصال المباشر فقام بسلسلة من الجولات والزيارات (خاصة إلى مثلث الثورة بوزيد/القصرين/قفصة) مستعملا خطابا مختلفا عن خطاب السياسيين "التقليديين" سواء الذين كانوا في الحكم أو في المعارضة وحرص على الظهور خلال هذه الزيارات وفي كل اتصالاته بمظهر الإنسان المتواضع. فلم يعقد ولو اجتماعا جماهيريا واحدا وروّج لنمط معين من "الدّاعية" الفقير (قهوة capucin وسجائر من النوع الشعبي كريستال). ويحيلنا هذا النمط من العمل على الأسلوب الذي اعتمده لويس نابليون بونابارت خلال الثورة الفرنسية 1848 – 1852 في جولاته في أقاليم فرنسا للاتصال بسكان الأرياف موزعا عن طريق جمعيته "10 ديسمبر" الكحول. والحقيقة أن قيس سعيد استعار من بونابارت، جدّ الشعبوية الأوّل، كثيرا من أدوات العمل وأساليب الدعاية.
لقد عرف كيف يوفّق بين متناقضات كثيرة أملتها خطته الشّعبوية التي عمل على أن يكسب على أساسها فئات وأصناف اجتماعية مختلفة ومتنوعة، الشباب وسكان الأرياف والمثقفين والبورجوازية المتوسطة والعنصر المحافظ وفي نفس الوقت العنصر البرجوازي الصغير نصير الثورة المحبط من "اليسار الثوري الفاشل" إلى جانب كبار مسؤولي الجهاز الإداري البيروقراطي بما في ذلك الأمنيون الذين يكنون عداء غير مخفي للثورة وللشباب الثائر.
إن القدرة على التأليف بين كل هذه المتناقضات لا يمكن أن يحصل إلا بواسطة برنامج انتقائي يقدّم عرضا مركّبا لكل هذه الفئات والأصناف التي تجد فيه كل فئة منها صدى لمعاناتها وجوابا على طموحاتها الفئوية الخاصة. وفي نفس السياق نجح في الترويج لصورة السياسي من نمط جديد يحمل مشروعا نقيضا لـ"لسيستام" بمواصفات السياسي النزيه النظيف المتواضع والصادق والجاد والمثقف الذي يحمل معه الأمل والأنجع في مقاومة "النهضة" وفي نفس الوقت ممثل الدين والأخلاق والقادر على إحلال الاستقرار وهيبة الدولة والسيادة الوطنية والقضاء على الفوضى والفساد والمفسدين الخ...
لخّص كل ذلك في شعار ذي تأثير "سحري" وهو "الشعب يريد .. ويعرف ما يريد" هذا الشعار الذي انتهى به فعلا إلى الحكم رغم أنه لم يكن يستند إلى طبقة معينة ولم يكن يتمتع لا بشرعية البرنامج ولا بشرعية النضال والتاريخ. وهو مدرك لهذه الحقيقة التي اقتضت منه أن يشرع حالما استوى على كرسي الرئاسة في استمالة الأجهزة الصّلبة للدّولة ريثما يَمُرُّ إلى صناعة قاعدته الاجتماعية وحزامه السياسي.
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟