أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث














المزيد.....

ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 14:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


​ فلسفة الدين في الفلسفة الأوروبية الحديثة
في عصر الحداثة، شهدت أوروبا تحولًا جذريًا في طريقة التفكير، حيث بدأت فلسفة الدين تتحرر تدريجيًا من قبضة اللاهوت التقليدي، وتنتقل إلى فضاء العقلانية والتحليل النقدي. كان الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (René Descartes) من أوائل من مهدوا لهذا التحول، ففي محاولته لإيجاد أساس صلب للمعرفة، وضع الكوجيتو الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (Cogito, ergo sum). من خلال هذا اليقين الذاتي، سعى ديكارت إلى إثبات وجود الله كضامن للحقيقة، معتمدًا على براهين عقلية خالصة بعيدًا عن سلطة الكنيسة، مما فتح الباب أمام فلسفة دينية قائمة على العقل لا على الوحي وحده.

تلا ذلك فلاسفة آخرون، أبرزهم باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza) الذي قدم رؤية ثورية في كتابه "الأخلاق" (Ethics)، حيث اعتبر الله والطبيعة شيئًا واحدًا (Deus sive Natura)، مما جعله يُتّهم بالإلحاد من قبل معاصريه. لقد رأى سبينوزا أن الكون كله هو تجلي جوهر إلهي واحد، وأن فهم هذا النظام هو أسمى أنواع العبادة. من جهة أخرى، جاء الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (John Locke) ليقدم مقاربة تجريبية للدين، حيث أكد على أن المعرفة الدينية يجب أن تكون متوافقة مع العقل والخبرة الحسية. في كتابه "عقلانية المسيحية" (The Reasonableness of Christianity)، حاول لوك أن يبرهن على أن جوهر المسيحية يمكن استيعابه بالعقل البشري، مما أدى إلى ظهور ما يسمى بـ الربوبية (Deism)، وهي فلسفة تؤمن بوجود إله خالق للكون لكنه لا يتدخل في شؤونه.

أما النقلة النوعية الأبرز في هذه الفترة فكانت على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant). في كتابه "نقد العقل الخالص" (Critique of Pure Reason)، أثبت كانط أن العقل النظري غير قادر على إثبات وجود الله أو نفيه، لأن هذه المسائل تتجاوز حدود التجربة الحسية. ومع ذلك، لم يكن كانط ملحدًا، بل نقل الدين من فضاء المعرفة النظرية إلى فضاء الأخلاق. في كتابه "نقد العقل العملي" (Critique of Practical Reason)، اعتبر كانط أن الإيمان بوجود الله وخلود النفس هو "مسلمة عقلية عملية" (Postulate of Practical Reason) ضرورية لإرساء أساس للأخلاق، فبدون وجود إله يضمن العدالة النهائية، قد يصبح السعي وراء الفضيلة أمرًا لا معنى له. هذا الطرح الكانطي نقل فلسفة الدين من البحث عن براهين ميتافيزيقية إلى التركيز على وظيفتها الأخلاقية والعملية في حياة الإنسان.

فلسفة الدين في الفلسفة الأوروبية المعاصرة

في القرن التاسع عشر وما بعده، اتخذت فلسفة الدين مسارات جديدة ومتعددة، متأثرة بالتحولات الاجتماعية والعلمية الكبرى. كانت نقطة التحول الرئيسية هي ظهور الوجودية (Existentialism). فقد انتقد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد (Søren Kierkegaard)، الذي يُعتبر أب الوجودية الدينية، العقلانية الهيغلية التي حاولت استيعاب الإيمان ضمن نظام منطقي. بالنسبة لكيركغارد، الإيمان ليس مسألة عقل، بل هو قفزة شخصية وجذرية وغير عقلانية نحو المجهول، وهي مغامرة وجودية فردية لا يمكن اختزالها في مفاهيم مجردة.

أما فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche)، فقد أعلن "موت الإله" (God is dead)، ليس كخبر إلحادي بسيط، بل كتشخيص لحالة الحضارة الأوروبية التي فقدت إيمانها بالقيم الدينية المطلقة. رأى نيتشه أن هذا الفراغ الروحي يمثل تحديًا وفرصة في آن واحد، حيث يجب على الإنسان أن يخلق قيمه الخاصة ويصبح "الإنسان الأعلى" (Übermensch). كانت أفكار نيتشه بمثابة هزّة عميقة لفلسفة الدين، حيث دفعت الفلاسفة للتساؤل عن جدوى الدين في عالم ما بعد الحداثة.

في القرن العشرين، شهدت فلسفة الدين تيارات متنوعة:

* فلسفة الدين التحليلية (Analytic Philosophy of Religion): اتخذت منحىً لغويًا ومنطقيًا، حيث ركزت على تحليل المفاهيم الدينية مثل "الله"، "الخير"، و"الشر" باستخدام أدوات المنطق والفلسفة اللغوية. سعى فلاسفة مثل ألفين بلانتينجا (Alvin Plantinga) إلى الدفاع عن الإيمان العقلاني في وجه التحديات الحديثة، وتقديم براهين جديدة على وجود الله.

* الظاهراتية والهرمنيوطيقا (Phenomenology and Hermeneutics): ركزت على فهم التجربة الدينية من منظور ذاتي، بعيدًا عن البراهين الميتافيزيقية. فلاسفة مثل مارتن هايدغر (Martin Heidegger) وبول ريكور (Paul Ricoeur) بحثوا في معنى الوجود والتجربة الدينية كجزء لا يتجزأ من فهم الإنسان لنفسه وللعالم.

* التشريح النفسي للدين: تناول فلاسفة مثل سيغموند فرويد (Sigmund Freud) وكارل يونغ (Carl Jung) الدين من منظور نفسي. رأى فرويد أن الدين هو "وهم" نابع من حاجة الإنسان إلى أب يحميه من قسوة العالم، بينما رأى يونغ أن الدين يعبر عن "أرشتايبات" (Archetypes) جماعية كامنة في اللاوعي البشري.

باختصار، يمكن القول إن فلسفة الدين في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة انتقلت من محاولات إثبات وجود الله عبر العقل، إلى التساؤل عن وظيفة الدين الأخلاقية والوجودية، وصولًا إلى تحليل بنيته اللغوية والنفسية والظاهراتية. لقد أصبح الدين موضوعًا للتحليل النقدي العميق، بدلاً من كونه مجرد عقيدة مسلم بها، مما عكس تحولًا جذريًا في نظرة الإنسان الغربي إلى نفسه، إلى العقل، وإلى مكانه في الكون.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيادة في عصر الشبكات: الأمن الرقمي كدرع للأمن القومي
- أشباه الموصلات وصياغة ملامح القوة في القرن الحادي والعشرين
- حدود العلم بين رؤية كارل بوبر وتأملات محمود كيوان: نحو فلسفة ...
- التخيل الاجتماعي في زمن الذكاء الاصطناعي: صراع السرديات وإعا ...
- اقتصاد الجليد: سباق القوى الكبرى على كنوز القطب وأسرار المست ...
- الحوسبة الاجتماعية: البنية الرقمية الجديدة لسلوك الإنسان الج ...
- من الإنسان إلى الإله: جدلية لاهوت المسيح في القرون الثلاثة ا ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد النفسي: عقل بشري في قبضة خوارزمية ...
- الإقناع الخفي في عصر الذكاء الفائق: استعمار اللاوعي وتحرير ا ...
- إمبراطورية الانقسام: كيف أعادت بريطانيا رسم العالم بالصراعات
- إعادة رسم النفوذ: أوروبا و أمريكا في معترك التوازنات الجديدة ...
- من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العق ...
- الذكاء الاصطناعي واختبار الديمقراطية: بين التمكين والخطر
- حروب بلا جنود: صعود الذكاء الاصطناعي كقوة ضاربة في أيدي الجم ...
- إعادة رسم خرائط النفوذ : السباق الفضائي وأشباه الموصلات في م ...
- التحرر من الهيمنة الرقمية: نحو سيادة معرفية وتقنية عادلة
- المرتزقة السيبرانية وحروب الظل بالوكالة
- القيادة الإبداعية في عصر الذكاء الفائق: التحول من الكاريزما ...
- العقل المستبدّ: جنوح التيار العلماني المتطرف لتفكيك ثوابت ال ...
- حين تتكلم الخوارزميات: المؤسسة السياسية في زمن التفاعل الذكي


المزيد.....




- في حوار حول فيلمه الجديد -Highest 2 Lowest-.. دينزل واشنطن: ...
- وُصفت بـ-خطة يوم القيامة-:.. إسرائيل تعتزم إقرار مشروع استيط ...
- الأمومة لأول مرة في غزة: -ابنتي هي النور في أرض غارقة بالظلا ...
- تركيا توقع اتفاق تعاون عسكري مع سوريا وتتعهد بتدريب الجيش ال ...
- ترامب يقر بإمكانية فشل قمة ألاسكا: ستشكل تمهيدًا لاجتماع ثلا ...
- تفاقم أزمة الكهرباء في العراق .. غضب شعبي وحلول بديلة كارثية ...
- السودان: أسوأ تفش للكوليرا منذ سنوات وأوروبا تدعو لإدخال الم ...
- الأمين العام لحزب الله يستقبل لاريجاني ويجدد شكر إيران على - ...
- خيوط حمراء وذاكرة أندلسية.. نول -الدرازة- المغربي يقاوم غزو ...
- عاجل | نتنياهو: اتفقنا في الحكومة المصغرة على مبادئ لإنهاء ا ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث