همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 19:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن اختزال أزمة لبنان المعقّدة في قضية السلاح الخارج عن سلطة الدولة، إذ إن هذا السلاح، على خطورة وضعه والتعقيدات المحيطة به، ليس سوى واحدة من مجموعة أزمات بنيوية يعاني منها الكيان اللبناني، تشمل انهيار الثقة بالمؤسسات، وتآكل العقد الاجتماعي، وتفكك البنية الاقتصادية، وانقسام الهوية الوطنية. ومع ذلك، فإن التعامل الجاد والبنّاء مع ملف السلاح غير الرسمي يمكن أن يشكّل مدخلاً نوعياً لتفكيك بقية العُقد اللبنانية، باعتباره نقطة تماس حساسة بين ما هو سياسي وأمني، وما هو اجتماعي ورمزي. من هنا، تبرز الحاجة إلى مبادرة وطنية متكاملة تُعيد الاعتبار للمواطَنة والسيادة والكرامة، وتؤسس لمرحلة انتقالية تُبنى فيها الدولة اللبنانية على أسس جامعة، تتجاوز منطق التوازنات الهشة، وتطلق دينامية إصلاح هيكلي شامل يعيد الثقة بالدولة ومؤسساتها.
وفي سياق التحوّلات التي تشهدها المنطقة، لم تعد قضية السلاح الخارج عن سلطة الدولة اللبنانية مسألة خلاف سياسي عابر، بل غدت تحدياً وجودياً يمس تماسك الدولة ويهدد بنيتها المؤسسية واستقرارها، لا سيما في ظل المطالبات الإقليمية والدولية المتصاعدة بمعالجة هذا الملف الشائك، مما يفرض على الحكومة اللبنانية التحرك الجاد لإطلاق المبادرة المنشودة، لتكون إطاراً أخلاقياً لهذه اللحظة، وسقفاً يوفّر الشرعية للحراك السياسي، بهدف خلق إجماع سياسي ومجتمعي داعم لعلوية ومرجعية ومركزية الدولة في حياة اللبنانيين بوصفها الفاعل المركزي الذي يحتكر العنف المشروع وقرار السلم والحرب.
لا تهدف هذه المبادرة إلى فرض أمر واقع أو افتعال مواجهة داخلية، بل تسعى إلى تقوية الدولة اللبنانية، وبث الثقة في مؤسساتها، وتعزيز التماسك داخل نسيجها الاجتماعي، بما يهيئ الأرضية لصناعة موقف وطني موحد تتلاقى فيه الإرادات على مشروع إنقاذي ونهضوي مشترك يشكّل مظلة أخلاقية ضامنة وراعية لكل التحرّكات اللاحقة من جميع الأطراف.
في هذا السياق، تصبح عملية تسليم السلاح خطوة طبيعية في مسار وطني جامع، لا تعبيراً عن مغالبة سياسية، ولا خضوعاً قسرياً، ولا تخلق شعوراً بالانكسار لدى أي هوية من الهويات اللبنانية، بل تشكّل تحوّلاً مدروساً ومسؤولاً نحو دولة تحتكر قرارها السيادي وتكون ملاذاً آمناً لجميع أبنائها وبناتها دون استثناء.
إن المقاربة المطلوبة اليوم لا يمكن تضييقها في السجال التقليدي حول المفردات وألعاب اللغة: أهو نزعٌ أم حصرٌ أم ضبطٌ للسلاح، بل تتعلق بإعادة بناء الثقة الوطنية والشعور العام بأن تفكيك السلاح غير الرسمي ليس خصماً من رصيد أي مكوّن، وليس تقليلاً من إرث أي هوية، ولا افتئاتاً على حقوق أي طرف في بلده، فرداً كان أم جماعة، بل هو خطوة نحو تقوية الدولة واستكمال سيادتها وتعزيز حضورها كضامن لمصلحة وكرامة ومكانة جميع اللبنانيين واللبنانيات.
لا يمكن لهذه المسألة أن تُحل عبر القرارات الفوقية أو المعالجات الأمنية البحتة، ولا حتى بالتوافقات المرحلية الهشّة. فالسلاح الموازي، حين يتحول إلى بنية راسخة، يتطلب معالجة مركّبة تبدأ بتوفير بيئة سياسية واجتماعية وثقافية قادرة على إدماج كل القوى ضمن مشروع الدولة، بحيث يشعر جميع اللبنانيون بأنهم في قلب الفعل السيادي والمؤسسي وليسوا على هامشه، وأنهم شركاء في عملية وطنية وأخلاقية شاملة ومستدامة لتجذير سيادة ومدنية واستقلال لبنان.
يستدعي هذا الواقع انتقالاً مبرمجاً وواعياً، سياسياً وعسكرياً وإدراكياً، من منطق "المقاومة العقائدية" الذي تتبناه أحزاب أو جماعات، خطاباً وسياساتٍ، إلى منطق "الدفاع الوطني" الذي تقرره وتديره مؤسسات الدولة حصراً، بوصفه فلسفة سيادية متكاملة وبأبعاد متعددة، أمنية ودبلوماسية وتنموية.
لبنان قادر، إن توافرت الإرادة السياسية العازمة والرؤية الوطنية الشاملة واللحظة الضميرية الحقّة، أن يشكل نموذجاً عربياً مُلهِماً في الانتقال من زمن الاستثناءات والتسويات إلى عهد المواطَنة الدستورية، والمؤسسات الفعّالة، والدولة المدنية التي تحتكر استخدام العنف المشروع وفقاً للقانون.
والمطلوب اليوم أن يُفتح أفق تفاهم وطني واسع، تُطرح فيه رؤية واضحة لاستعادة السيادة وترسيخ الشرعية، بعيداً عن أية نزعة للإقصاء أو التغالب أو تصفية الحساب.
كما أن على القوى الفاعلة إدراك أن المشروع الدفاعي الوطني وحده كفيل بردع الاعتداءات، وحماية وحدة لبنان وسلامة أراضيه، وخلق شعور جمعي داخلي بالمشاركة والتكاتف والتضامن، وهذا الشعور هو رأس مال رمزي وأخلاقي للمجتمع وللدولة.
كما أن السلاح غير الخاضع لقرار سيادي موحد لا يمكن أن يشكل ضمانة لأي طرف على المدى الطويل، بل إن غياب الإجماع الوطني حوله يجعله يضاعف التهديدات والمخاطر بدل أن يقلّصها، إلى جانب ما ينتج عن حضوره الدائم من عسكرة داخلية تقوّض مدنية الدولة اللبنانية.
من المهم أيضاً ألا يتم استيراد تجارب ملتبسة من دول أخرى، حيث كثيراً ما أُفرغت عبارة "حصر السلاح" من مضمونها لتصبح مجرد شعار إعلامي. المطلوب هو طرح مشروع متكامل للسيادة والمأسسة، يعيد بناء الدولة على أسس مدنية حديثة، تعالج ظاهرة عسكرة الفضاء العام، وتكرّس المساواة الكاملة بين المواطنين، وترفض هيمنة الجماعات على حساب القانون.
وينبغي أن يُعطى كل طرف في المعادلة اللبنانية، بما في ذلك القوى التي ترى أنها متضررة أو مستهدفة، فرصةً حقيقية للمساهمة في هذا التحول الآمن، بما يجعل الجميع مسؤولاً تحت سقف التزاماته، ويحفظ كرامة الحاضنة الاجتماعية لتلك القوى ويجنبها الشعور بالخسارة أو الإقصاء، ويجعل من تفكيك السلاح بداية جديدة لمرحلة الشراكة الوطنية والاندماج المسؤول والسيادة الناجزة، لا نهاية لدور هوية معينة أو تهميشاً لها.
الفرصة سانحة اليوم أمام الجميع، سواء لاحتواء التوترات السياسية القائمة أو لوقف أي تصعيد خارجي، عبر الإقرار بفوقية الدولة وعلوية الدستور، وترسيخ مركزية ومرجعية الجيش اللبناني كمؤسسة جامعة ومعنية بحق الدفاع عن لبنان، وإطلاق حوار وطني يضمن تمدين الدولة وتوطين القرار والخطاب وتسليم السلاح بطريقة تصون الاعتبار الرمزي والمعنوي وتمنح العملية طابعاً طوعياً وتشاركياً.
على صعيد الموقف العربي، تتشارك دول الخليج في القلق من استمرار وجود سلاح خارج إطار الدولة في لبنان، ليس من منطلق التدخل في شؤونه، بل انطلاقاً من حساسية التجربة الإقليمية التي أثبتت أن تعدد مراكز القرار الأمني والعسكري يضعف الدولة ويجعلها ساحة للصراعات بالوكالة. فوجود السلاح غير الخاضع للسلطة السيادية المركزية يقوّض واحدية القرار الدفاعي ويجرّ البلد إلى مواجهات لا تتوافق مع مصالحه الوطنية أو خياراته الجيو-استراتيجية العقلانية، ويقوّض ثقة المستثمرين والداعمين الدوليين، وهو ما ينعكس مباشرة على الاقتصاد والرخاء الاجتماعي. ومن منظور خليجي، جيو-سياسي وجيو-اقتصادي، فإن استقرار لبنان مرهون بقدرة مؤسساته الرسمية على احتكار أدوات القوة، حتى لا تتحول أراضيه إلى منصة تُستغل في نزاعات إقليمية تستنزف مجتمعه وتُباعد بينه وبين الفضاء الجيو-تنموي العربي.
إن تجارب العالم في معالجة ظاهرة الجماعات المسلحة تشير بوضوح إلى أن الحلول لا تُختزل في الجانب القانوني أو العسكري فقط، بل تتطلب مساراً سياسياً مدعوماً بإجماع وطني وزخم مجتمعي، يفكك البنية اللا-دولتية الموازية، ويعيد إدماج المقاتلين كمواطنين مدنيين فاعلين، أو عسكريين رسميين تحت مظلة الجيش، ويُشركهم، من خلال المؤسسات وتحت سقف القانون، في بناء الدولة وترصين دورها.
إن الحديث عن السلاح الخارج عن إطار الدولة، في سياق لبناني تتشابك فيه الأبعاد الأيديولوجية بالسرديات التاريخية، والسياسي بالعسكري، والرمزي بالاجتماعي، يجعل من أي تفكيك لهذا السلاح مهمة معقدة تتجاوز ما هو إجرائي، لتتحول إلى مشروع وطني متكامل لإعادة تأهيل المجتمع اللبناني بأسره ومساعدته على التعافي والاندماج.
فالسلاح، خصوصاً في بيئة الجنوب، ليس مجرد أداة صراع بل رمز مكوِّن للذاكرة الجماعية والمخيال الأخلاقي ولتصورات الصمود والكرامة، رغم ما سببته ديناميكيته من أضرار مباشرة لتلك البيئة. لذلك، فإن أي مقاربة مسؤولة لا بد أن تضمن لهذه الحاضنة الاجتماعية حضوراً كريماً ومشرفاً وإنسانياً في هذا التحوّل البنيوي، بشكل يراعي الجانب المعنوي ويحفظ رمزية التضحيات ويعيد تجسير العلاقة بين المكونات، كما يكرّس في الوقت نفسه الانتقال السلمي نحو دولة تمتلك وحدها السلاح والسيادة والشرعية.
من هنا، فإن مبادرة لبنانية واضحة وخالصة ومخلصة ترتكز على ثلاث دعائم: المواطَنة بوصفها الإطار الحقوقي الجامع، والكرامة كضمانة لكل مكونات المجتمع، والسيادة باعتبارها الشرط الضروري لقيام الدولة، يمكن أن تُحدث فرقاً جوهرياً، وتمنح الجميع فرصاً متكافئة للاضطلاع بالدور الوطني والأخلاقي، والاستقواء بلبنان ومن أجله، للإسهام في إعادة إنتاج هذا البلد بوصفه وطناً لجميع أبنائه وبناته.
#همام_طه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟