همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 20:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اتهمني أحد المتابعين الكرام بأني أمارس "التطبيل" لأحد السياسيين. أريد أن أردّ على ملاحظته بأني لا أعتبر هذه تهمة، لأن الجميع في الفضاء العام، بدون استثناء، يمارس التطبيل بشكل أو بآخر، لفكرة أو شخص أو هوية، بصورة صريحة أو ضمنية، فلماذا أخجل من شيء يفعله الجميع ويحظى بمشروعية اجتماعية وغير مجرّم قانوناً، كما أنه يبدو ضبابياً من الناحية الأخلاقية؟!
التطبيل ليس مجرد ظاهرة سطحية مرتبطة بتزييف الواقع في سياق النفاق والتزلّف، بل هو سمة جوهرية من سمات اللغة نفسها، وجزء من طبيعتها، وهو بنية فكرية كامنة في نسيج الخطاب ذاته. فما من نصّ أو خطاب يخلو من التطبيل بمعنى التسويق والترويج والدعاية. اللغة ظاهرة اتصالية، والاتصال في أحد أبعاده عملية دعائية تهدف إلى الإقناع وخلق الاستجابة لدى الطرف الآخر. يمارس الإنسان النشاط اللغوي لتسويق ذاته وحاجاتها ومصالحها وتحفيز المتلقي على تقبّلها؛ الأمر الذي يجعل التطبيل، بمعنى الدعاية والتسويق، مكوّناً أصيلاً في كل فعل كلامي ونصّ سردي، وعنصراً كامناً في طريقة اشتغال اللغة، والتفكير، والكتابة، والخطاب.
وإذا جاز لنا هنا اقتراح وتوظيف مصطلح "التطبيل البنيوي" في توصيف هذه الظاهرة اللغوية، على ما يتسم به المصطلح من غرابة؛ فالمقصود به أن كل إنتاج لغوي أو فكري يحوي بالضرورة انحيازاً ضمنياً لفكرة أو موقف أو منظومة قيمية، حتى وإن بدا أكاديمياً أو محايداً.
ولعل التطبيل المباشر، الفجّ و"الشعبوي" والصريح، أكثر أخلاقية في بعض الأحيان من التطبيل "النخبوي" المضمر المصاغ بلغة رصينة وإطار معرفي وإخراج أكاديمي. ومن هذا المنظور، لا أنكر أن مقالي المتهم بالتطبيل والذي بدا كدفاع فلسفي عن موقف سياسي لمسؤول حكومي، يندرج هو الآخر بشكل ما ضمن سياق التطبيل البنيوي المنمّق. لكني أزعم أنه تطبيل واعٍ؛ تطبيل لا يخفي نفسه خلف ادعاء الحياد، بل يعترف بانحيازه لموقف سياسي رآه أكثر تمرداً على التقاليد السياسية وأقرب إلى "المصلحة الوطنية".
وحتى دفاعي هذا عن نفسي هو نوع من "التطبيل" ففي النهاية أنا لست قديساً، ولا أحبّ أن أتقمّص هذا الدور. إن وعي الكاتب بأنه جزء من لعبة الخطاب لا ينقص من صدقيته، بل يعزّزها؛ لأن مصداقية النصّ وصاحبه لا تتحقق بادعاء الحياد، فاللغة ظاهرة غير محايدة والخطاب ممارسة منحازة، واللغة والخطاب والكتابة كلها ممارسات سياسية، تعبّر عن تموضعات سياسية في سياق صِراعي، فالسياسة لا يمكن أن تكون محايدة، وبالتالي، فإن الصدق مع الذات والمتلقي يكون في الاعتراف بالانحياز، وفي إدراك الكاتب لموقعه داخل لعبة السلطة.
كما لا يستطيع أي كاتب (أو كاتبة) تبرئة نفسه من وجود "مآرب شخصية" من وراء ما يكتب وما يتضمنه من "تطبيل" مُفترَض، لأن الغايات الذاتية والأنانية هي جزء من طبيعة كل سلوك بشري، ولكن عزاء الكاتب أن يسعى جاهداً لتضمين ما يكتب رؤيةً مفيدة لإثراء النقاش، وتقديم مفاهيم ومصطلحات جديدة تغني المعرفة، مع الحرص على أن لا يتسبّب ما يكتبه في أذى فعلي ومباشر على فرد أو جماعة. مثل هذه المساعي والنوايا التي يحاول الكاتب استحضارها عند الكتابة كافية لتجعل ضميره مرتاحاً حتى لو تضمن ما يكتبه تطبيلاً واضحاً أو بنيوياً لشخص أو موقف أو سياسة.
لماذا أقول إن التطبيل "حقيقة لغوية" لا يمكن أن يتبرّأ منها أي نص أو خطاب مهما ادعى الحياد والموضوعية، وإن النصوص والخطابات التي ننتجها هي صدى لانحيازاتنا ومصالحنا الشخصية؟!
لأن اللغة ظاهرة بشرية، وليست متسامية على البشرية، ومن صفات البشر ممارسة التكيّف من أجل البقاء. فالتطبيل، بوصفه ظاهرة لغوية وخطابية، ليس مجرد انحياز عابر أو سلوكاً متملّقاً، بل هو سلوك بشري طبيعي يعكس الحاجة العميقة للتكيّف مع البيئة الاجتماعية، والبقاء ضمن شبكات الانتماء، بل وأحياناً الارتقاء فيها. إنه تعبير لغوي عن غريزة التموقع في الحقل، فالإنسان يميل إلى التطبيل لفكرة أو قيمة أو جهة ما لكي يضمن لنفسه مكاناً آمناً أو نافذاً داخل الحقل الذي يتحرك فيه، سواء كان ذلك الحقل سياسياً أو إعلامياً أو فكرياً. إنه تعبير عن رغبة الإنسان في أن يكون جزءاً فاعلاً من منظومة المعنى والشرعية والقوة.
تقنياً، تتجلى هذه الظاهرة في سلوكنا كمستخدمين للغة عندما نتجنّب بعض المفردات ونوظّف مفردات أخرى في سياق الانحياز لفكرة معينة ومناهضة فكرة أخرى، حرصاً على التماهي مع شرعية ما والتموقع فيها. هذا الانحياز هو فعل تطبيلي بمعنى أنه يسوّق فكرة ويُمَركِزها ويدير الفعل الكلامي لصالحها. والتفكير ممارسة تطبيلية، لأنه يتضمن اجتذاب أفكار محددة وإقصاء غيرها في سياق عملية تطبيلية، تمجيدية، تسويقية، ترويجية، دعائية لفكرة مركزية أو موضوع محوري. والكتابة هي اشتغال تطبيلي، لأنها تتضمن التأنّي في الانتقاء والاستبعاد اللغويَّين للأفكار والمفردات، واللعب والتلاعب بالكلمات في إطار مشاغلة تطبيلية للمتلقي، وتشغيل تطبيلي للمفردات والأفكار لخدمة هدف ما، واشتغال تطبيلي على المعنى، وانشغال تطبيلي بفكرة يراد ترويجها فيتم التركيز عليها ومَركَزتُها وتهميش ما سواها. كما أن صناعة الخطاب، وتحليل الخطاب سياستان تطبيليَّتان، لأن عملية إنتاج الخطاب هي تطبيل لسلطة معينة، في حين أن عملية تحليل الخطاب هي تطبيل لسلطة أخرى تريد أن تصنع مكانتها وتعزّر نفوذها من خلال نقد وتفكيك الخطاب المهيمن الذي تخضعه للتحليل. والنقد الأدبي والسياسي هو ممارسة تطبيلية، لأنه يعتمد على ذائقة جمالية وأيديولوجية شخصية منحازة وغير محايدة في التمييز بين الجيد وغير الجيد في الموضوع الخاضع للنقد. وحتى لو كان تحديد الإيجابيات والسلبيات في موضوع ما، في سياق العملية النقدية، يتم بصورة "محايدة" مُفتَرضة، فإن مفاهيم الحياد والموضوعية والنزاهة العلمية هي في ذاتها مفاهيم تطبيلية تطبّل لأمانة أكاديمية وأخلاقيات بحثية مُدعاة، فكل من النقد والبحث والتحليل هو فعل فكري، والفكر لا يمكن أن يكون محايداً؛ لأنه انعكاس لحساسية ما، وانحياز ما، وتموضع ما داخل حقل الصراع الرمزي والمعرفي؛ وهي فكرة تؤكدها العديد من المقاربات في الدراسات النقدية المعاصرة، التي ترى أن المعرفة ليست بريئة بل مشروطة بسياقاتها ومواقع إنتاجها.
كما أن الفكر هو اجتراح الأفكار وخلقها، والمفكّر ينحاز لأفكاره التي ابتكرها بنفسه وتبنّاها فالانحياز هنا مسألة تلقائية ووجودية له ولأفكاره فلولا انحيازه ما وُجدت هذه الأفكار أصلاً وما وُجد هو كمفكّر.
والعمل الإعلامي والصحفي، الذي يُفترض أن يكون مستقلاً ومهنياً، هو عمل تطبيلي، لأنه ممارسة دعائية وتسويقية تعتمد التأطير الأيديولوجي للأحداث بما يتناغم مع أجندة سياسية محددة، أو ضمن فضاء من حرية التعبير تسيطر عليه اشتراطات معينة. وهنا، يوضح الباحث العراقي حارث حسن أن الأخبار تُصاغ ضمن أطر أيديولوجية تخدم مصالح معينة، مما يجعلها أداةً في تشكيل الرأي العام وتوجيهه.
الحياة السياسية هي مجال واسع لممارسة التطبيل انحيازاً لفكرة أو مشروع ومناهضةً لسواهما. ولا يمكن الحكم على موقف سياسي دون غيره بأنه "تطبيل" فهذا حكم "أخلاقي" يستأثر بالأخلاق وتعريفها لنفسه في حين أن أخلاقية الموقف السياسي تتحدد من خلال فحص جدواه وآثاره، وليس من خلال الاتهام أو الوصم، أو الطعن في النوايا، ذلك أن كل المواقف مهما بدت أخلاقية ومحايدة في ظاهرها هي في جوهرها مواقف تطبيلية لأنها تتضمن استقطاباً لفكرة واحتفاءً بها وتسويقاً لها وإلغاءً لغيرها وجوراً عليها.
تعليقاتنا التي نزايد بها على الآخرين أخلاقياً في مواقع التواصل الاجتماعي هي تعليقات تطبيلية تنحاز لفكرة وتطبّل لها على حساب أخرى، وحتى التعليق الذي اتهم مقالي بأنه "تطبيل" هو نوع من التطبيل لصالح الموقف المناهض لما طرحته، وشكل من المزايدة الأخلاقية التطبيلية لصالح صاحب التعليق!
حتى العلوم الإنسانية نفسها على الرغم مما تتسم به من أكاديمية ورصانة مفترضة هي علوم تطبيلية تعتمد منهجية تطبيلية تعزّز فكرة محددة وتتجاهل غيرها ابتداءً من اختيار موضوع الدراسة إلى بناء فرضية البحث إلى تشكيل وترتيب أسئلة البحث. كل هذا يتم بناءً على موقف ذاتي، أيديولوجي، عاطفي، يحاول أن يؤطر نفسه أكاديمياً ويقدّم انحيازاته الذاتية على أنها خلاصات موضوعية.
وكذلك الخطب الدينية والدروس الوعظية التي يفترض فيها النقاء والإخلاص، هي في عمقها خطابات تطبيلية لأنها تتضمن غرساً ثقافياً منحازاً وتكريساً و"تطبيلاً" لمفاهيم دينية محددة على على حساب مفاهيم علمية وعلمانية مناقضة.
كما أن التطبيل، بوصفه بنيةً كامنةً في اشتغال النصوص والخطابات، يكشف عن حقيقة أعمق تتعلق بنسبية المعرفة ونسبية الأخلاق معاً. فكل خطاب، مهما بدا علمياً أو موضوعياً، ينطوي على انحياز مسبق لموقف قيمي أو معرفي، يطبل له بطريقة ظاهرة أو خفية. وحين ندرك أن اللغة ذاتها تفرض علينا انتقاء المفردات وترتيب الحجج بما يخدم موقفاً دون آخر، يصبح من البداهة أن نقر بأن المعرفة ليست محايدة، وأن الأخلاق ليست مطلقة، بل هما معاً نتاج تموضعات ذاتية داخل بنية الخطاب والصراع على المعنى والشرعية.
يؤدي التطبيل دوره كعنصر بنيوي في خطاباتنا الخاصة، والعامة، السياسية منها والثقافية والاجتماعية والأكاديمية والقانونية، ويتجلّى في اشتغال اللغة والفكر بوصفهما آليات دعم وتأييد، عن وعي أو من دونه، لفكرة أو بنية رمزية محددة أو "صنم فكري" أو "وثن سياسي".
فلكل واحد منا صنم يطبّل له، هذا الصنم قد يكون فكرة أو فئة اجتماعية أو مشروع أو مصلحة أو رمز أو عقيدة أو طبقة أو هوية. وهذا الصنم أو الوثن هو التجسيد الرمزي والفكري لأنانيتنا الشخصية ونرجسيتنا الكامنة. إنها عاطفة حبّ الذات والحرص على مصالحها التي نسعى لتسويقها بوصفها موضوعية علمية أو نزعة مثالية أو مشروعاً أخلاقياً أو حرصاً على المصلحة العامة والنهضة الوطنية وخير الإنسانية!
بالتالي، فالاختلاف ليس بين مطبّل وغير مطبّل، بل بين صنم وآخر، وبين طريقة وأخرى في إدارة هذا التطبيل.
ولولا التطبيل لما كتبنا، ولما علّقنا، ولما استمر هذا الكرنفال البشري العظيم!
تنويه: تم إعداد هذه المقالة بالتفاعل المعرفي البنّاء مع الذكاء الاصطناعي ChatGPT، عبر حوارات معمّقة ساهمت في بلورة أفكارها وصياغاتها.
#همام_طه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟