همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 14:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الخطاب السياسي التقليدي، تُختزل الدولة إلى مؤسسات دستورية وبنى سلطوية وإدارية، بينما تُفهم السياسة بوصفها فن الممكن أو تدبير المصلحة العامة. غير أن هذه التعريفات – برغم مشروعيتها الأكاديمية – تعجز عن النفاذ إلى جوهر الأزمة العراقية، حيث لا يتعلق الإخفاق فقط بالاقتصاد أو الأمن أو القانون، من حيث كونها بنى مادية يعيش في ظلالها أفراد المجتمع، بل بما يمكن أن نطلق عليه: غياب الدولة بوصفها منظومة وجدانية ومعنوية، وبنية شعورية وإنسانية.
لقد أثبت الواقع العراقي بعد 2003 أن بناء دولة بالمفهوم المؤسسي لا يكفي، ولا ينجح ولا يكتمل، إذا لم يترافق مع خلق شعور جمعي مستدام بالانتماء إليها. الدولة ليست كياناً إدارياً محايداً فحسب، بل هي كيان رمزي وعاطفي، يُفترَض أن يوفّر للناس شعوراً بالحماية والكرامة والاعتراف، للجميع وعلى قدم المساواة. وما لم يتحقق هذا الشرط الوجودي، فإن كل ما تبنيه المؤسسات، إذا افترضنا أنها قادرة على البناء وأن ثمة نيّة خالصة حاضرة للبناء أساساً، سينهار عند أول هزّة داخلية مفاجئة أو زلزال إقليمي يُثقل على العراق بارتداداته وتداعياته.
الولاء البديل: حين يصبح الخارج بديلاً عن الداخل
في ظل غياب هذا المشروع الدولتي المُشبِع نفسياً ووجودياً، لم يعد غريباً أن تتوزع تطلعات وانحيازات كثير من العراقيين بين قوى خارجية ورموز إقليمية تنشط في المنطقة كمراكز جذب واستلاب لمشاعر الولاء والانتماء. ففي العراق، يتحوّل فشل الدولة وتآكل سيادتها الوجدانية إلى عواطف جيو-أيديولوجية تبحث عن ظالتها خارج الحدود. ويمكننا أن نقرأ هذه الظاهرة في أنماط من الخطاب العراقي تغرق في محبة أنظمة إقليمية، أو تنظيمات ثورية، أو منظمات كفاح مسلح، أو منظومات تعبئة أيديولوجية وبؤر نفوذ روحي، بشكل يتجاوز حتى منطق التحالف أو المصلحة ليصل إلى درجة الذوبان الوجداني والتعاطف العقائدي المفرط.
هذا السلوك ليس مجرد نموذج لتسييس الانتماءات أو الاصطفاف "الطائفي"، بل هو تعبير عن فراغ داخلي هائل: العراقي – كما يبدو – لا يجد "ذاته" في دولته، فيبحث عنها في الخارج.
نحن هنا لا نتحدث عن مواقف عقلانية، بل عن حاجات عاطفية وروحية غير مُشبَعة، مثل الحاجة إلى دولة تُشعرك بأن سلامتك وكرامتك تُحمى بالقانون ولا تُنتَهك تحت مظلته، وأنك تُعامل بعدالة ومساواة ولا تُقمَع فئوياً أو طبقياً أو عنصرياً، وأنك تُحتَرَم لإنسانيتك ومواطَنتك ولا تُحتقَر على أساس انتمائك أو منطقتك.
حين تغيب الدولة بوصفها كياناً راعياً وفاعلاً ومُلهِماً في الوجدان الجمعي، يلجأ الأفراد إلى بدائل رمزية وعاطفية تمنحهم الشعور بالمعنى والأمان الوجودي، وفق ما يتماشى مع مرجعياتهم الثقافية والتاريخية. في هذا السياق، تتحوّل سرديات وأمثولات مستمدة من تجارب إقليمية أو حركات تحرّرية أو نماذج أممية إلى ملاذات وجدانية تسد هذا الفراغ. هذه السرديات والمقولات لا تُستحضَر حتى باعتبارها أقنعة لتوازنات مصلحية أو تحالفية، بل بوصفها مصادر بديلة للكرامة والانتماء والتمثيل الرمزي.
في مناخ الاستلاب الوجداني هذا، تسود آليات دفاعية نفسية تسهم في إعادة تشكيل الانفعالات الجمعية. فالتعاطف مع حروب وثورات وتحوّلات في دول مجاورة يُوظّف بوصفه نوعاً من الانتصار الرمزي على القهر الداخلي، أو تعويضاً عن شعور مزمن بالحرمان من العدالة والحرية داخل الدولة الوطنية. وفي المقابل، يتحوّل الانجذاب إلى نماذج أيديولوجية أو مشاريع "نضالية" خارجية إلى ما يشبه العاطفة التعويضية التي تُلبي حاجات لم تلبِّها الدولة القائمة: الحاجة إلى الشعور بالحماية، والمشاركة، والانتماء والتقدير، والانخراط في مشروع وطني حقيقي يتجاوز المكوناتية والعزلة والانكفاء.
ليست هذه الظواهر مجرد مواقف سياسية أو انحيازات ثقافية، بل تعبيرات عن أزمة وجودية عميقة: حين تفشل الدولة في بناء معنى جامع لمواطنيها، يبدأ كل فرد أو جماعة بالبحث عن ذلك المعنى على امتداد الجغرافيا، أو في عمق التاريخ، أو في سرديات كبرى تمنحه الشعور بأنه ليس وحده في معاناته، وأن هنالك كياناً – حتى لو كان متخيلاً – يشعر به ويمثّله ويمنحه قيمة ويعطي لألمه جدوى.
من الدولة العادلة إلى الدولة المحبوبة
غالباً ما نرفع شعار "دولة المواطَنة" أو "دولة العدالة"، لكننا ننسى أن الإنسان يحتاج أيضاً إلى دولة "محبوبة" و"موثوقة" و"مؤتمنة"، بالمعنى الرمزي والعاطفي والأخلاقي لهذه المفردات. لا يكفي أن تكون الدولة "راعية" فحسب، بل يُفترض أن تكون "حانية" أيضاً. الإنسان لا يعيش بالخبز وحده، ولا بالراتب فقط، بل يحتاج إلى هوية، إلى اعتزاز، إلى شعور بأن "دولته" تقف معه، تُمثّله، تُلهِمه، تعطيه الأمل، تتيح له الفرص لينمو ويتطوّر، وتمنحه الإحساس بالكرامة والجدارة والأمان.
حتى أن الخبز والخدمات الأساسية وجودة الحياة كلها ينبغي أن توظف لصناعة الثراء الوجودي والمعنوي لدى المجتمع، والاستغناء الوجداني والشعوري لدى الفرد بحيث لا يكون محتاجاً للبحث عن المعنى والهوية من خلال التطلّع إلى نماذج خارجية "مُلهِمة أيديولوجياً" أو الاستغراق في التعاطف مع مشاريع إقليمية تمدّدية أو الإعجاب بأنظمة "إمبراطورية" أو "أبوية" النزعة أو تنظيمات "لا-دولتية" تنشط في المنطقة.
حين تغيب الدولة الوطنية الفاعلة، يتحوّل المجتمع إلى مجتمع يتيم، يتوسّل عواطفه السياسية من خارج حدوده، ويُنتج أوهاماً وولاءات متخيلة تعويضاً عن الدولة الغائبة. وهنا، تتحوّل الميول الإقليمية إلى علاقات وجدانية: لا تتجلى فقط في صيغة دعم سياسي أو تأييد ديني أو مذهبي، بل في شكل نوع من الهجرة النفسية إلى رموز وملاذات تمثّل ما فشلت الدولة الوطنية في تمثيله.
شرذمة الوجدان لا تقل خطراً عن تشتّت السلطة
المخيف في هذه الحالة أن التفتّت في المجتمع العراقي لم يعد سياسياً فقط، بل وجدانياً أيضاً. وتحوّلت الأرض من "وطن" إلى "فندق" يشكو الجميع من رداءة خدماته ويشاكس نزلاءه ويستعجل مغادرته. والانقسام المقلق هنا ليس إدارياً أو جغرافياً، بل شعوري ومعنوي. كل جماعة تحمل "دولة إقليمية" في قلبها، وتاريخاً خاصاً في ذاكرتها، وزعيماً مخلّصاً خارج حدود بلدها. وفي ظل هذا الواقع، تبدأ كل فئة بإعادة إنتاج مفهومها لـ"الوطنية" وفق مرجعية الهوية الذاتية والانتماء الأممي والامتداد الإقليمي. وكل مجموعة تعتقد أن مصلحة العراق "الوطنية" هي مع سردياتها وتوجهاتها "الأممية" التي يمثلها هذا "الفسطاط" أو ذلك الخندق أو تلك الجبهة الإقليمية.
وحين تتعدد "الوطنيات الخيالية" داخل وطن واحد، فإن ما تبقى من الدولة الواقعية يتآكل تدريجياً، لا بفعل ظواهر الفساد أو التدخل الخارجي أو الفوضى وحدها، بل بفعل الانفصال الأخلاقي بين الإنسان والأرض، ونتيجة لأفول الشعور بالرابطة الوطنية – المُواطنية التي تربط الفرد/المواطن بالدولة/الوطن من جهة، وبالمجتمع/المواطنين الآخرين من جهة ثانية.
لا يكفي أن تؤدي الدولة أدوارها "الحمائية" أو "التنظيمية" أو "الرعائية"، بل يُفترض أن تفضي أدوارها الدستورية والسيادية هذه إلى أن تكون في مخيال مواطنيها دولة "مُحبّة" و"مُلهِمة" و"مُمثّلة" للكرامة والثقة والحلم.
حين يفقد المواطن الإيمان بوطنه، يقع في غواية أي "نظام" أو "تنظيم" أو "أمة" أو "أيديولوجيا" أخرى. وحين ينفصل عن الواقع يحلّق مع السرديات المثالية القابعة في أعماق التاريخ أو التي تلوّح له من خلف الحدود. وحين لا يجد المعنى في مشروع الدولة الوطنية والمواطَنية، يبحث عنه في مشروع فئوي انعزالي "اغترابي ومظلومياتي" داخلي، أو مشروع أممي توسّعي "كفاحي وملحمي" خارجي. وحين تصبح الدولة مجرد جهاز إداري بلا وجدان وطني أو منطق أخلاقي أو هوية جامعة، ومن دون روح عدالتية أو معنى مساواتي أو سيادة شعورية على عقول وقلوب مواطنيها، يتحوّل المواطن إلى كيان مهزوز يبحث عن "حبٍّ بديل" في كل الاتجاهات. إنّ مشروع إعادة المعنى إلى الدولة ليس ترفاً فكرياً، بل شرط لنجاة الوطن، والمواطنين، وضرورة حيوية للاندماج والنماء والإنجاز.
#همام_طه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟