همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 09:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في زمن تسعى فيه الدول إلى توثيق تحالفاتها الدولية عبر توقيع اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع القوى الكبرى؛ لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية، يبدو العراق وكأنه عالق في مفارقة مريرة: بلد غني بإمكاناته، فقير بواقعيته؛ مغمور بالثروات، محروم من الاستثمار فيها؛ حاضر في خرائط الصراع وغائب عن جغرافيا التقدم. لكن، ماذا لو أعاد العراق النظر في وجهته الاستثمارية؟ ماذا لو لم ينتظر الخارج، وقرر أن يوقّع مع نفسه اتفاقياته الوطنية - التنموية الكبرى؟ ألن تكون تلك الاتفاقيات الذاتية مع الداخل، إن أحسنّا تصميمها، أكثر استدامة وجدوى من كل التفاهمات العابرة التي أبرمناها ونطمح لإبرامها مع القوى الخارجية؟
وهل يمكن لصفقة وطنية داخلية، تقوم على الاندماج والتنمية، وعلى تمكين المواطن لا تصنيفه، وعلى تجميع الطاقات وتكاملها، أن تفتح أفقاً لتحوّل سياسي حقيقي يُعيد تشكيل الذات العراقية بوصفها الحامل الفعلي للسيادة، والمصدر الأول للمعنى والإنتاج والقدرة؟
نحو عقد اجتماعي - تنموي جديد
ليست الاتفاقيات مجرد أوراق تُوقَّع، بل هي أدوات استراتيجية لإعادة هندسة المصالح واكتشاف الذات وإدارة المستقبل. إن بلداً مثل العراق، بما يمتلكه من ثروة سكانية، وموارد طبيعية، وموقع جيوسياسي حاسم، يمكنه أن يحقق أعظم الاستثمارات حين يعيد توجيه بوصلته نحو الداخل: نحو الإنسان، والبنية التحتية الاجتماعية، والإمكانات الكامنة.
كيف يمكن للعراق أن يعيد هيكلة أفكاره وأدواته للتخيّل والإبداع والتخطيط، وأن يستثمر في الممكن والمتاح والفرص المسكوت عنها وغير المفكَّر فيها؟
أن توقّع وزارة التربية اتفاقية مع وزارة الشباب والرياضة لمكافحة الأمية، فذلك يعني تحويل المعركة من وهم الأمن الخارجي إلى أمن الوعي. وأن توقّع وزارة الصحة اتفاقية مع وزارة الثقافة لمواجهة آفة المخدرات، فهذا يعني إدراكاً عميقاً بأن الصحة ليست جسداً سليماً فقط، بل بيئةً معرفيةً وسلوكيةً سليمة. وأن تتشارك وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مع وزارة التعليم العالي في تدريب الطاقات الشابة، فذلك يعني إرساء أول حجر في مشروع التنمية المستدامة.
لا نتحدث هنا عن اتفاقيات دعائية أو تفاهمات استعراضية، بل عن تكامل تنموي واندماج مؤسسي حقيقي بين الوزارات في إطار فريق متناغم يعرف ما يريد.
مقارنة رمزية: الخليج والولايات المتحدة مقابل العراق ونفسه
حين أبرمت دول خليجية اتفاقيات استثمارية ضخمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال زيارته الأخيرة للمنطقة، كانت تهدف إلى تعزيز تحالفاتها الدولية لحماية أمنها واستقرارها ومصالحها، واستثمر ترامب بدوره سياسياً واقتصادياً في تلك اللحظة.
أما العراق، فوضعه مختلف، وحيثياته السياسية والاقتصادية مغايرة، فهو لا يحتاج اليوم إلى عقد صفقات مع الخارج بقدر ما هو بحاجة إلى قرار وطني شجاع لعقد اتفاق تاريخي مع الذات. فحين يستثمر بلد ما في وعي أفراده، في تعليم أطفاله، في صحة شبابه، في كرامة شيوخه، فإنه بذلك يؤسس لمعادلة تنموية طويلة الأمد، تخلق من الإنسان رأس مالٍ معرفياً وحضارياً قادراً على الإنتاج والتجديد والابتكار.
من الريع إلى التنمية
الاقتصاد العراقي ظل رهينة للنموذج الريعي، المرتكز على عائدات النفط كرافعة وحيدة لتمويل الدولة والمجتمع. لكن هذا النموذج عاجز عن تحقيق العدالة أو إرساء التنمية الحقيقية أو التأسيس لقاعدة إنتاجية. الاستثمار في الذات هو الخروج من الريع إلى الريادة؛ من الارتهان لتقلبات السوق إلى الاستقلالية الاقتصادية النسبية؛ من الاعتماد على مورد أحادي إلى تمكين الموارد البشرية.
فالإنسان هو البنية التحتية الأولى. لأنه منبع الطاقة والمعرفة والقدرات الخلّاقة. ومتى ما تم الاستثمار فيه، صار كل استثمار لاحق قابلاً للنجاح. والتعليم ليس قطاعاً خدمياً، بل صناعة استراتيجية مخرجاتها تعيد إنعاش المجتمع وإحياء الدولة وتجديد السيادة. والصحة ليست بنداً في الميزانية، بل ركيزة من ركائز الأمن الوطني لأنها عنصر أساسي في جودة حياة الفرد والأسرة وتماسك النسيج الاجتماعي. والثقافة ليست ترفاً، بل حزام أمان روحي وجمالي في مواجهة الانهيارات والتطرف والانحرافات السلوكية.
استراتيجية الممكنات بدل خطابات الشكوى
غالباً ما يُستهلك الخطاب العراقي الرسمي والشعبي في لائحة من الشكاوى: الفساد، التدخلات الخارجية، القوى اللادولتية، الأزمات المتوالية. لكن الاستثمار في الذات هو انقلاب في فلسفة التفكير من سرديات الشكوى إلى استراتيجية الممكنات. هو أن تُبنى الخطط ليس على ما ينقصنا فقط، بل على ما نملكه بالفعل: الطاقات، والموارد، ورأس المال الاجتماعي، والإرادات المبعثرة والنوايا المخلصة والرصيد الأخلاقي المكبوت الذي يحتاج إلى تثوير وتنسيق وقيادة.
المواطن شريكاً: السيادة بوصفها مشروعاً تنموياً
إن السيادة ليست مجرد إعلان سياسي أو دعاية عن احتكار العنف وفرض القانون أو موقف متوتر من الآخر الأجنبي، بل هي فعل بناء متراكم، يكتسب شرعيته من قدرة الدولة على الإنفاق على مجتمعها والاستثمار فيه، لا الارتهان لأزماتها والانغماس فيها، وعلى إثبات حضورها وتأثيرها من خلال مؤسسات قوية ومشاريع منتجة وسياسات عادلة، لا من خلال القبضة الأمنية وحدها. ما نسميه "السيادة التنموية" هو ذلك الشكل الناضج من السيادة الذي لا يُمارَس بالقمع بل بالخدمة، ولا يتحقق بالفرز والإقصاء بل بالمشاركة والإدماج الاقتصادي والاجتماعي، ولا يُنتزع بالعصا بل يُبنى بالعتلة، أعني عتلة الاقتصاد المُنتِج، والتعليم النوعي، والصحة العامة، والبيئة النظيفة، والعدالة الاجتماعية. إنها السيادة التي لا تجد في السكان تهديداً، بل ترى فيهم رأس مالها البشري، وشركائها في الإنجاز، وأصحاب الحق في القرار والكرامة.
فالسيادة التنموية لا تعني الانغلاق أو الانفصال عن العالم، بل تعني تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلالية السياسية والاقتصادية التفاعلية المرِنة، بما يضمن حرية القرار الوطني دون الوقوع في فخ العزلة أو الاتكالية.
الذات الوطنية كرأسمال بشري: من التنافر إلى التشارك
الاستثمار في الذات لا يقتصر على تحسين المهارات أو إصلاح المؤسسات، بل يشمل إعادة هيكلة الرؤية وتنشيط الخيال السياسي لإعادة تعريف العلاقة بين المواطنين والدولة على أسس شراكة معرفية وأخلاقية وتنموية. ففي بلد كالعراق، أنهكه التصنيف الطائفي والعِرقي والمناطقي، يبدو الانتقال من منطق "المكونات" إلى منطق "القدرات" ضرورة تاريخية. العراقيون ليسوا طوائف وسلالات متجاورة بل رأس مال بشري هائل، متنوع في طاقاته، متكامل في إمكاناته، وقادر – لو تم استثماره بكفاءة وأمثلية – على إنتاج قيمة حضارية عابرة للأزمات والانقسامات.
إن الاستثمار السياسي الحقيقي في الذات العراقية يبدأ من صناعة الاندماج الوطني لا بفرض التطابق بل بخلق التعاون، ومن فهم المواطَنة كإطار لإطلاق الطاقات وبناء القدرات، لا كأداة لفرز الولاءات أو تكريس الانتماءات الفرعية. حين يُنظر إلى الإنسان العراقي بوصفه أصلاً مُنتِجاً وليس مجرّد حامل لهوية مذهبية أو قومية، تتحول مؤسسات الدولة إلى ورش للبناء المشترك لا لمجرد مساحات لإدارة الصراع وإعادة إنتاجه. هكذا يصبح بناء الذات مشروعاً سياسياً نهضوياً لا يقل أهمية عن أي مشروع اقتصادي أو عمراني، بل هو شرطه المسبق وضمانته البعيدة.
صفقة كبرى مع الذات
لا تحتاج نهضة العراق إلى عدو، بل إلى حليف داخلي هو العراق نفسه. والاتفاقيات الكبرى لا تُبرم دائماً مع الدول العظمى، بل يمكن أن تُبرم في صمت وطني شجاع، بين هويات متعددة تراجع نظرتها للعراق وللعراقيين، ووزارات تعيد تعريف مهامها، ومؤسسات تتصالح مع رسالتها، وطبقات تتعاطف مع بعضها، وفئات تتخلى عن فئويتها لصالح المجموع، ومجتمع يرى في التنمية مشروعاً أخلاقياً ونهضوياً لا مجرد خطاب للتسويق السياسي أو ترف إداري أو أعمال خدمية متناثرة.
الاستثمار في الذات ليس شعاراً تنموياً فقط، بل فلسفة للوجود، وإعلان نُضج، وإعادة تعريف للوطن ككيان مُنتِج، لا كحقل انتظار دائم لوعود الخارج.
ليس مشروع "الاستثمار في الذات" مجرد خطة تنموية أو إصلاح مؤسسي، بل هو ثورة صامتة في وعي العراقيين بأنفسهم؛ انقلابٌ على المرايا المكسورة التي لطالما رأتهم مكونات متناحرة لا طاقات متكاملة، وأفراداً هشّين لا رأس مال بشري قابل للتنمية. إنه تحوّل في النظرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من جلد الذات إلى بنائها، ومن استهلاك الدولة وتقاسم غنائمها إلى المشاركة في إنتاجها وتثبيت أركانها، ومن انتظار الخلاص إلى المساهمة في صنعه.
ملاحظة: هذا المقال ثمرة شراكة فكرية وتحريرية بيني وبين الصديق ChatGPT، الذي أسهم في بلورة الأفكار وصياغة النص بروح حوارية بنّاءة.
#همام_طه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟