همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 19:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يمكن أن نلاحظ في الخطاب العراقي شيوع فكرة أن الارتقاء الطبقي هو إنجاز أخلاقي بحد ذاته، وأن الصعود الاجتماعي هو فضيلة خالصة مستقلة عن العدالة والخير العام. هذا منطق مضمر ومسكوت عنه في أنماط اللغة السياسية والإعلامية والاجتماعية والثقافية السائدة في العراق.
كما يستخدم هذا المنطق لتبرير التعايش مع الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتكيّف مع مظاهر الفساد والزبائنية وانعدام العدالة وغياب تكافؤ الفرص في الدولة والمجتمع. فهذه الاختلالات مهما كانت بنيوية وعميقة فإنها تقدَّم بوصفها ثمناً مقبولاً أو مبرّراً لتحقيق الارتقاء الطبقي لفئات مهمشة.
وطبعاً ليس المقصود هنا الارتقاء الطبقي بوصفه طموحاً فردياً مشروعاً ومطلوباً؛ ولكني أتحدث عن الارتقاء الطبقي عندما يتم تسويقه بوصفه "نصراً" في الصراع الطبقي بين الفئات الاجتماعية، وعندما يتم تقديمه بوصفه عنواناً للإنصاف والعدالة والكرامة لفئات مجتمعية معينة على حساب جوهر العدالة وشموليتها باعتبارها إنصافاً للجميع، وعدالة للمجتمع، وكرامة للكل، وإصلاحاً بنيوياً في عمق النظام، وسعياً دؤوباً إلى النماء الجماعي والمصلحة العامة والخير الوطني، أي العدالة بمعناها الإنساني والمُواطني والحقوقي الواسع، الشامل الجامع، والديناميكي المستدام.
فمثلاً يتم الاحتفاء بقصة كفاح ونجاح "الفلاحة التي كانت تعمل في الزراعة وتدرس في جامعة خاصة وتتعرّض للتنمّر الطبقي ثم حصلت على بكالوريوس التحليلات الطبية وصارت موظفة في مستشفى".
السيدة صاحبة القصة توصف بأنها "بطلة" في مواقع التواصل الاجتماعي لأنها عملت بجدّ واجتهاد وارتقت طبقياً من "فلاحة" إلى "موظفة"!
أليس الأجدى هو مساءلة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يجعل "الموظفة" أرقى من "الفلاحة"؟!
لماذا تكون مهنة تحليل دم المريض في مختبر طبي أعلى اجتماعياً من مهنة زراعة الباميا والباذنجان والطماطم في الحقل؟!
ألا يمكن للفلاحة أن تتطور وتترقى في الريف في إطار كونها فلاحة من دون الحاجة إلى أن تصبح موظفة في المدينة؟!
ماذا عن الفلاحات الأخريات في القرى والبساتين، وما أحلامهن وطموحاتهن؟!
هل الاحتفاء بالخلاص الفردي يعفي من التفكير في الأزمة الجماعية؟!
ما العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي ساعدت صاحبة القصة على النجاح والتي قد لا تتوافر لغيرها؟!
أليس في الإشادة بها بوصفها "فلاحة أفلتت من طبقتها" تكريساً لنظرة "دونية" عن الفلاحين وليس تقويضاً لهذه النظرة؟!
قد يكون حلم هذه السيدة الشخصي هو أن تدرس في الجامعة وتعمل كموظفة، وهذا طموح أحترمه وأهنئها على تحقيقه كما أقدّر مثابرتها؛ لكني أشير هنا إلى طريقة تلقّي المجتمع لقصة كفاحها وتجييرها لصالح سردية جماعية تتعامل مع الارتقاء الطبقي بوصفه هدفاً أخلاقياً في حد ذاته من دون التفكير في ماهية هذا الارتقاء وحيثياته وظروفه الذاتية والموضوعية وعما إذا كان النظام المهيمن يتيح فرص الترقي للجميع بعدالة أم لا؟!
في حالة هذه السيدة، المجتمع لا يحتفي بطموحها كحق شخصي، بل يحتفي بها لأنها تحوّلت من فلاحة (طبقة أدنى) إلى موظفة (طبقة أعلى)، وكأن مجرد الخروج من الطبقة التي توصف بأنها "أدنى" هو فعل أخلاقي ناصع!
هنا يصبح الارتقاء الفردي بديلاً زائفاً عن الإصلاح الجماعي، وهو منطق يروق للطبقة السياسية لأنه يعفيها من مسؤولية تحقيق التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية وخلق الفرص المتكافئة أمام العراقيين جميعاً، ثم إتاحة المجال أمامهم للسعي والتنافس وفق قدراتهم وجهودهم الفردية وطموحاتهم.
وهناك مثال آخر يمرّ أمامنا ويتجسّد في إشادة نخب عراقية بعهد الزعيم عبد الكريم قاسم؛ لأن إصلاحاته الاجتماعية أتاحت الفرصة لمجتمعات محلية محرومة ومهمشة للتحرّر من الفقر والانسحاق، وفتحت أمامهم فرص التعليم والترقي الاجتماعي.
لاحظ أن شرعية الزعيم تُستمد هنا من دوره في مساعدة فئات اجتماعية على الارتقاء طبقياً؛ وليس من مدى كفاءة سياساته الاقتصادية والاجتماعية من الناحية العلمية والاستراتيجية، أو من مراجعة آثارها على الدولة والمجتمع ككل.
وفي منطق مماثل، أتذكر أن صدام حسين قال مرة لمواطن بعثي رفض التطوع للقتال في حرب إيران: كم كنت تملك قبل الثورة؟!
كأنه يقول له إن الثورة رفعت منزلتك الطبقية (الاقتصادية والاجتماعية) ويجب أن ترد الجميل بالتطوع للقتال! هذا المنطق يضمر فكرة أن الارتقاء الطبقي (الشخصي أو الفئوي) هو الهدف والغاية والإنجاز وليس الشعارات الكبيرة عن العدالة والمساواة والحرية والاشتراكية والخير العام.
العدالة هنا تعني ما تحقق لي ولجماعتي أو لفئتي أو للمقربين مني وليس ما تحقق للجميع.
صدام كان يعتقد أن كل خطوة يخطوها في حكم العراق، مهما كانت مدمّرة، هي خطوة أخلاقية بامتياز بالنسبة له لأنها تصبّ في صالح مشروعه الشخصي: الارتقاء الطبقي من شاب "ريفي" مُعدَم مهمّش في إحدى قرى تكريت إلى رئيس دولة وزعيم أمة وبطل للتحرير القومي!
وكان ينظر إلى دوره كرئيس في حياة العراقيين من خلال ذاكرة الفقر والألم والحرمان التي عاشها في طفولته، فتراه يعبّر عن سعادته خلال زيارة لمدرسة ابتدائية زمن الحرب مع إيران لأن التلاميذ جميعاً يرتدون الأحذية!
لكنه لم يسأل نفسه عن مصير آبائهم الذين أرسلهم إلى ساحات القتال!
ولا عن تداعيات الحرب التي ستعيد إنتاج الحفاء والفقر والأمية في الريف والمدينة على حد سواء!
وفي سياق المنطق ذاته، قالت نائبة في البرلمان العراقي في لقاء تلفزيوني إننا في زمن صدام كنا محرومين من الموز والبيبسي! بمعنى أن شرعية النظام الحالي الذي جاء بعد صدام تُستمد من قدرته على جعل فئات اجتماعية ترتقي طبقياً وغذائياً بحيث تستطيع أن تستمتع بالموز والبيبسي؛ وليس من كفاءة هذا النظام السياسية والسيادية والاقتصادية والتنموية! ولا حتى من مدى عدالة توزيع الثروة (أو الموز والبيبسي!) على العراقيين! ولا حتى من مدى قدرة هذا النظام على المحافظة على استدامة تدفق توريدات الموز والبيبسي إلى المستهلكين مستقبلاً!
تعتقد السيدة النائبة أن النظام العراقي الحالي نظام أخلاقي بما لا يقبل الشك لأنه يساعد شرائح اجتماعية محرومة على الارتقاء الطبقي إلى مستوى تناول الفواكه والمشروبات الغازية!
ولكنها لا تقول لنا شيئاً عن المحرومين الجدد الذين أنتجهم هذا النظام، وأزمات النظام الهيكلية التي تهدد باتساع دائرة المحرومية وتعميقها نوعياً في المستقبل، ولا تتحدث عن الفساد السياسي الذي جعل أقصى أمانينا أن تتناول فئات من العراقيين الموز والبيبسي!
وبالتالي فإن هذا المنطق؛ منطق اعتبار الارتقاء الطبقي بحد ذاته قيمة أخلاقية وهدفاً نبيلاً وفضيلة سياسية واجتماعية بغض النظر عن الطريقة التي يتحقق بها أو مدى عدالة البيئة التي يتحقق فيها، صار يمنح شرعية ضمنية للفساد البنيوي في الدولة العراقية لأن الطبقة السياسية بعد 2003 لم تفعل شيئاً سوى أنها تماهت مع هذا المنطق فارتقى أعضاؤها طبقياً من خلال الامتيازات الغنائمية والفساد المشرعن، وسمحت من خلال إعادة توزيع جزء من الريع النفطي على نحوٍ هوياتي وزبائني وتحاصصي، بصعود فئات مجتمعية على السلّم الطبقي، وبنسب ترقٍّ متفاوتة، اقتصادياً واجتماعياً، أو حتى رمزياً واعتبارياً، فأصبح النظام "شرعياً" لأنه "رَفَع" من شأن ومكانة جماعاته، لا لأنه بنى دولة عادلة أو مستدامة أو مستقرة.
بهذا المنطق، لا يبدو الفساد خيانة، بل آلية لتحقيق "الإنصاف الطبقي" لفئات محددة تتماهى سياسياً أو تتماثل هوياتياً أو مناطقياً مع النظام الريعي - المكوناتي، أو يتقرّب إليها أو تتقرّب إليه زبائنياً، أو يعطف عليها لشراء ولائها ثم استخدامها كحاضنة اجتماعية أو رافعة انتخابية.
وبالتالي، وفق هذا المنطق، فإن الطبقة السياسية الحاكمة اليوم غير متهمة أو مقصرة، فهي أدت ما عليها وفق سردية تؤمن بها ويتقبّلها المجتمع، فصار رموز هذه الطبقة أثرياء وأباطرة، والعديد من الموالين والمقربين صاروا من كبار الموظفين، وأتاحت المحاصصة الريعية لفئات عراقية الفرصة لأن يتناولوا الموز والبيبسي والمكسّرات والحلويات ويشتروا سيارات حديثة ويرتقوا اجتماعياً وتعليمياً ووظيفياً.
حتى التوسّع في تأسيس الجامعات الخاصة، وفتح برامج الدراسات العليا، والتوظيف في الدولة، واستحداث المناصب الحكومية، والترقية العسكرية إلى رتب عليا؛ كلها تصبّ في تعويض ذاكرة التهميش الطبقي والجهوي المتجذرة، ففي العراق، كما في مجتمعات مشابهة، يتداخل صعود الطبقة الوسطى أو العليا مع السرديات الأسرية والعشائرية والهوياتية والمناطقية، فيتحوّل الصعود الطبقي إلى بطاقة تزكية معنوية تُستعمل في إعادة ترسيم مكانة الأفراد والجماعات من خلال الاحتفاء بمَن "ارتقوا إلى الأعلى" وازدراء مَن "بقوا في الأسفل".
قضايا سيادة القانون والعدالة والتنمية ليست مهمة ولا تشكّل أولويات فعلية في ظل وجود اتفاق ضمني غير مكتوب بين العراقيين على أن الصعود الاجتماعي هو هدف أخلاقي في حد ذاته، وأن الأنانية والفئوية والطائفية والاستحواذ والإقصاء، وحتى الفساد والعنف والارتباط بالخارج، ضرورات ما دامت تؤدي إلى تحقيق هدف "أخلاقي" مشروع هو "الارتقاء الطبقي"، ومغادرة "الهامش" إلى "المركز" والانتقال من "القاع" إلى "القمة"، وأن قيمة "الإنجاز" لا تقاس بمدى شموليته الخيرية وعموميته الوطنية واستدامته التنموية، أو بمدى تعبيره عن معنى العدالة والمساواة في جوهرهما الإنساني وعمقهما الأخلاقي؛ بل تقاس بمدى ما تحقّق لصاحب هذا "الإنجاز" نفسه من مكاسب شخصية ترتقي به طبقياً وما تمكّن من تحقيقه لأتباع حزبه أو أبناء هويته أو أهالي منطقته من مكاسب فئوية تجعلهم في منزلة أعلى في التراتبية الطبقية للمجتمع العراقي.
السؤال هنا:
هل نريد نظاماً فئوياً ريعياً، قلقاً وهشاً، يرتقي ببعض الشرائح، أم نظاماً مُواطنياً تنموياً، فعالاً ومستداماً، يرتقي بالمجتمع ويحقق العدالة للجميع؟
أم أننا، كمجتمع، لم نعد نعرف الفرق بين الصعود الطبقي والعدالة الشاملة، بين الأنا والوطن، بين الموز والكرامة؟
#همام_طه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟