أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - التفاهة تشخيص الداء ووصف الدواء















المزيد.....


التفاهة تشخيص الداء ووصف الدواء


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 14:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" لكل داء دواء يستطب به............................. إلا الحماقة أعيت من يداويها ،المتنبي."
المقدمة:
التفاهة اصبحت في حياتنا بنية متكاملة تحاصرنا من كل الاتجاهات والأركان، فيكفي النظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي والتي اصبحت تمثل بوابة كبيرة جداً في حياتنا، سنجد الكثير من التفاهات وبكل أشكال السخافة والانحطاط والفيديوهات الضحلة والصور السخيفة الخالية من أي معنى أو مضمون، ولكن بالمقابل تجد هذه المحتويات التافهة تحقق في ساعات قليلة ملايين المشاهدات، وقد تمكن التافهون من إفراغ الكثير من القيم الاجتماعية والأخلاقية واصبح الابتذال هو السائد ويضرب بجذور القيم الأخلاقية وبضراوة في وجداننا، ولقد اصبحت التفاهة كنز عند البعض يحافظون عليها بكل الطرق والوسائل، ويطلقون العنان لتأكيد دورهم في نشر الوباء، ولا يوجد سلاح آخر لديهم غير التفاهة، لإثبات وجودهم في المجتمع، ولا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي وفرت لهؤلاء التافهين فرصة للظهور والانتشار والخروج من جحورهم، ودفعت بهم إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية نتيجة أعمالهم التافهة، وهنا الأمر لا يخص التافهون فقط في وسائل التواصل الاجتماعي، بل أيضاً الكثير من السياسيين والإعلاميين وحتى من يدعون أنهم رجال دين، فاصبح اليوم لدينا الكثير من رجال الدين المزيفون، فلا عجيب من أن نرى التافهة يجني الأموال من السرقة والاحتيال وتجارة المخدرات ويلبس لباس رجال الدين، وتراه يقوم بخطب رنانة وغير صادقة ويبني المساجد لتبييض أمواله الحرام، وأيضاً المستشفيات ويعمل جمعيات خيرية، وهذا كله بالحرام والقتل والاتجار بالبشر، ومن العجيب يصدقه الكثير من التافهين ويعطونه قدسية رمزية ويصبح رجل وطني وقومي، وهو يمارس كل أنواع التفاهة بحق مجتمعه وبحقه أيضاً، واصبحت التفاهة اليوم سوق لها نظامها واسعارها وطرق تداولها، وتحمل معها قيماً جديدة تتعلق بالأخلاق والمثل والعادات وأساليب العيش.
مفهوم التفاهة:
يدور معنى كلمة التفاهة في معاجم اللغة العربية على القلة والخسة، والأمر الحقير اليسير الذي لا قيمة له(1). ومن معانيها:
1_تعبير عن عدم الأهمية أو القيمة.
2_صفة لمن لا يمتلك ذكاء أو حكمة.
3_شيء لا يستحق الاهتمام أو العناية.
ظاهرة التفاهة، ظاهرة متنامية واسعة الانتشار، عميقة التأثير، لها منابر لا تعد واشكال وصور لا تحصى، ومالاتها المستقبلية على الأمة وأجيالها باللغة الخطر عظيمة الضرر، فطبيعة التأثير الحاصل من خلالها عميق يتناول الجذور ولا يكتفي بالسطح، فعالم التفاهة يصنع القدوات ويؤسس المعايير التي من خلالها يحكم الإنسان على الاشياء، مثل معيار التقدم والتسامح والتشدد والتدين والسعادة، والحزن وبناء العلاقات، هذه المعايير وغيرها يتلقاها الشاب من خلال رموز شبكات التواصل وهذا اعمق ما يكون من التأثير، إذ أن من يصنع المعايير يظفر بالتأثير، فعالم التفاهة فيه هيمنة مسيطرة على الذهن والوقت والعلاقات والشعور، بل يمكن أن تصل بالبعض إلى حالات متقدمة يصفها بعض المختصين بالإدمان، إذ سيطرت التفاهة على العالم حتى أصبح الحديث عن الثقافة ضربا من العبث العقلي في العصر الراهن، فالإنسان الحالي لا رغبة له في التأمل والتفكير ولا وقت له، حتى اصبحت القراءة و الكتابة غريبة في العصر الراهن وغدت الكلمات مشردة تبحث لها عن مأوى بين الأنامل فلا تجد.(2)
سمات ظاهرة التفاهة:
إن من أبرز سمات ظاهرة التفاهة أنها قائمة على تصدر التافهين الذين يقودون التأثير على الجماهير المتابعة، وهؤلاء الرموز والمشاهير هم من يغذي التفاهة ويروج لها ويزينها، ومن أهم سماتها:
1_أنها ذات نمط يتسم بشدة الجاذبية والمتعة والسرعة، فلا يحتاج الشاب إلى كلفة حتى ينجذب إلى المخرجات التافهة، بل على العكس من ذلك، يحتاج إلى مجاهدة ليدافع عن رغباته في الانسياق إليها، بينما نجد في المقابل انخفاضاً في مستوى انجذابه إلى المحتوى المفيد النافع الذي ليس فيه صفة الجاذبية والمتعة المتوفرة في المحتوى التافه.
2_التجدد الدائم والتحديث المستمر من حيث المحتوى والأدوات، فالمتابع لهذا النمط من المحتوى يرى حالة من عدم الثبات على مستوى واحد من التفاهة، بل يرى التجديد المستمر للأنماط والمحتوى والأساليب بحيث يبقى المتأثر بها دائم الانجذاب بعيداً عن الملل، متقلباً من فضاء تافه إلى آخر أتفه منه، إذ قد يمتد لسنوات طويلة دون ملل، لأن التحديث مستمر، وهذا يؤدي إلى ضياع عظيم للأوقات، وإهدار للأزمان، وهي مصيبة هادمة للأمم مراكمة للأمراض.
3_أنها تحمل أمواجاً من الشتات، والمتناقضات في داخلها، مما هو كفيل بتمزيق صفاء النفس واجتماع القلب، فأتت في عالم شبكات التواصل أمام كم هائل من المداخلات المتناقضة.(3)
اسباب ظاهرة التفاهة:
1_الكثرة والتنوع في مصادر التفاهة مع الضخ الدائم المستمر الناتج عنها، فالظاهرة ليست مرتبطة بأشخاص محددين، ولا بمنصة إلكترونية دون أخرى، ولا بموسم زمني دون غيره، بل نحن أمام مساحة واسعة من المصادر التي تنشر التفاهة وتروج لها، ما بين رموز وشخصيات، إلى تطبيقات ومنصات وشركات ومؤسسات بأعلى صور الجذب وأقوى وسائل الدعاية والنشر والترويج.
2_اسهام اصحاب الشركات التجارية والاعمال في ترسيخ مكانة هؤلاء التافهين عبر استجلابهم للترويج لمنتجاتهم، وخاصة في أيام المواسم والافتتاح للمحلات والاسواق، مصحوبة بزخم كبير، وحضور الجموع من الناس لهذا الحدث الذي يكون نجومه أولئك المشاهير الذين لا يقدم كثير منهم شيئاً أكثر من التفاهة.
3_أن رواج هذه المواد التافهة مرتهن على أثارة إعجاب الجمهور، ولفت انتباههم وعدم مخالفة القوائم، دون اعتبار للمبادئ أو الوقوف مع الحق وانكار الباطل، وهذا أمر سهل في زمن شبكات التواصل، فلذلك نجد أن اساس تفكير عامة المشاهير هو كيف أحقق أكبر قدر من المشاهدات، وتحقيق أكبر قدر من علامات الاعجاب، بغض النظر عن صحة ما يقدم أو مناسبة لأخلاق الجيل أو موافقته للشرع وما إلى ذلك.
4_البطالة فموجة التفاهة لا تنتشر إلا في مساحة من البطالة، فالذي لديه عمل ومشغول بعمله أو مشغول بدراسته لن ينزل إلى المستوى التافه بأي شكل من الأشكال.(4)
آثار ظاهرة التفاهة:
1_تدني المستوى الأخلاقي، واكتساب نمط الهزل في التعامل والعلاقات، وانتشار ثقافة الاستهزاء والتعليقات.
2_اضعاف الروابط الاجتماعية والأسرية، وذلك أن مقدار الجذب والاشغال والهيمنة في حالة التفاهة تعزز الفردانية، وتزيد من انكفاء الشاب على ذاته، وتقلل من قيمة ارتباطات الإنسان بالبيئة التي يرى فيها نفعاً دنيوياً، مما يؤدي إلى اضعاف الترابط الأسري والاجتماعي.
3_ذوبان المبادئ وترسيخ النفعية، وذلك أن الرموز التافه التي تسعى في الاستكثار الدائم من المتابعين مع التخلي عن كثير من المبادئ، وتنقل هذا المعنى إلى الجمهور الذي يرى كيف كانت التفاهة سبباً سهلاً في الوصول إلى الشهرة والجاه والأموال الطائلة.
4_نشوء حالة عامة من الضعف المعرفي، وذلك أن ظاهرة التفاهة تصنع قوالب معينة للمعرفة تمتاز بالسرعة والترفيه والجاذبية، وكان من آثار ذلك على الفرد، النفور من المعلومات التي لا تتوفر فيها هذه الصفات، فأن من المتوقع أن يكون هذا الضعف سمة عامة للمرحلة القادمة، لأن هذه الإشكالية لا تنحصر في أفراد قليلة من الجيل، بل هي من الأمور العامة المنتشرة، وهذه مسألة خطر يتطلب انتباهاً مبكراً ورسم حلول فاعله له.
5_يؤدي إلى ضعف التدين والعقيدة لدى المجتمع، فلاطلاع على التفاهة والانغماس بالحيادة الدنيوية يؤدي إلى ضعف التدين، وبالتالي زيادة في عدد الجرائم الاباحية والتعري من أجل المشاهدات، وغيرها من الجرائم، لذلك ارتفعت نسبة الجرائم بشكل مرعب في هذه السنوات.
6_وضع التافهون معياراً واحداً وهو المال، فالعمل الجاد والخير للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخلق والآداب والفنون والرياضة، قد أختزل في المال فقط.(5)
وسائل التواصل الاجتماعي:
يقول أمبرتو إيكو(1932_2016)" أن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناولهم كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم اسكاتهم فوراً، أما الآن فإن لهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنها غزوة البلهاء." وتقول الدكتورة مشاعل في مقدمة كتاب الآن دونو(نظام التفاهة) " أن شبكات التواصل الاجتماعي نجحت في اختصار مسيرة طويلة من التبادل الفكري والخطابات والمراسلات، ورغم كل هذا فقد استغلت هذا الوسائل الاجتماعية من قبل التافهين، وتحويل التافهين إلى رموز، مما جعل الكثير من التافهين مشاهير ورموز." وقد اصبحت التفاهة بنشر أي جملة غبية، أو حركة غبية ممكن أن تحصد الكثير من المشاهدات، وكذلك الحال لأي جميلة بلهاء أو وسيم فارغ، ممكن أن يصبح عالماً في كل شيء ويعطي رأيه بكل شيء، ويتم تداول المحتوى الذي يخص التافه بحجة السخرية منه، لكن في الحقيقة أن تداول المحتوى يحقق للتفاهة نجاح كبير، وبالتالي سيؤثر هذا المحتوى على الأجيال الناشئة بقوة، وهذا ما نراه في مجتمعاتنا من تقليد الكثير للأشياء التافه، وقد اصبح اليوم مقياس النجاح بعدد المشاهدات أو المتابعين، فليس مطلوباً أن يكون المحتوى مفيداً، بل على العكس تماماً، فكلما كان المحتوى الذي تقدمه مبتذلاً وهابطاً كان أدعى لكسب المشاهدات والمتابعين، إذ في وسائل التواصل الاجتماعي يكفي أنك تعرض قليل من التفاهة لتحصل على مشاهدات كثيرة، أو يكفي أنك تتعرى أو تصطنع لك فضيحة، ستحقق نجاحاً باهراً، وفي عالم التفاهة لم تعد الشهادات لها قيمة تذكر، فليس المهم ما تقدمه، بل كيف تبدوا وتظهر، ولذا اصبح التافهون يفهمون في كل شيء، ولهم آرائهم في كل شيء، وخاصة في أزمة كورونا رأينا العديد من التافهين ينصحون بعلاجات لكورونا وكأنهم اطباء، وليس هذا فقط، بل تجدهم لهم آرائهم الشرعية والسياسية والاجتماعية والخ... من المواضيع المهمة في تسيير حياة الناس، ولقد أثرت هذه المحتويات التافهة والرخيصة على ثقافاتنا وأسلوب عيشنا وتم نحر الدين والعادات الاجتماعية، فاصبح اليوم لدينا بما يعرفون باليوتيوبر والتيكتوكر، ومنهم الكثير يستعرض في فيديوهاته حياته الشخصية ويتم نشرها على وسائل التواصل، وهذه نعتقد إنها دعوة للدعارة والخلاعة وموت الحياء، فقد تم التخلي عن الفضيلة، أن معالجة هذا الموضوع يتطلب دخول الحكومة على الخط ومنع هكذا تصرفات، وأيضاً التركيز على مواد التربية الأخلاقية وعدم الترويج ونشر المحتويات التافهة، وعلى الرغم من أن شبكات التواصل الاجتماعية لديها حسنات لا تعد ولا تحصى، فهي قد جعلت العالم قرية صغيرة، لكن مع ذلك فقد سمحت هذه الشبكة لنشر الكثير من الأشياء التافهة، وقد تسببت هذه الشبكة بأمراض نفسية كثيرة، والعجيب في الأمر أن هذه التفاهة اصبحت موضة وثقافة لها روادها، فهي تسير بسرعة كبيرة جداً، وقد اصبح الكثير من الفنانين والشعراء والرياضين وحتى السياسيون ورجال الدين لديهم مواقع تواصل اجتماعية، ولا ضير بذلك لكن نشاهد منهم من يستعرض حياته الشخصية وهذه قمة التفاهة، وقد قلبت الكثير من العادات والاعراف ودخلت بيوتنا وعقولنا فقلبتها رأساً على عقب وانتهكت الخصوصيات، وكسرت الكثير من القواعد، فأنتجت عالماً مغايراً وسلوكاً لا يوجد فيه الحياء.
المتأمل لأحوال هؤلاء التافهين يجد أنهم لا يمتلكون أدنى موجبات التصدر على مختلف المستويات العلمية والثقافية والاجتماعية، لكن بالمقابل هم يحققون أرقام هائلة من المشاهدات واللايكات لا تتناسب مع المحتوى المقدم، وتجد الكثير من المشاهير يعرضون مشاكلهم وحياتهم وحتى لبسهم وأكلهم وخروجهم من المنزل ويعرضونها على برامج التواصل الاجتماعي، والأكثر من ذلك يدربون أولادهم منذ الصغر على التطبع ببرامج وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا له أثر كبير على تربية الطفل وسلوكياته في المستقبل(6). وخطورة التفاهة وصناعها لا تقف عند الحراك الثقافي بقدر تأثيرها العميق في مدخلات المعرفة والرؤية للحياة عند جيل المراهقين الذين يشكلون العامود الفقري لجمهورهم، وهذا واضح اليوم في مفاهيم قطاع كبير من المراهقين يرى أن إصرار المربين بمختلف أنواعهم على تنمية القيم إنما هو ضرب من العبث، لما يرونه من معايير مختلفة عن الجيل السابق، وأولويات الغنى والتميز والتأثير إنما تأتي عن طريق الشهرة وليس العلم أو المعرفة، وأن ما يحدث الآن هو ترجمة حقيقية لكلام الفيلسوف والروائي أمبرتو إيكو حيث انتجت لنا وسائل التواصل الاجتماعي مجتمعات فاشلة ونظام مجتمعي سيء اثر على جميع مفاصل الحياة التي تحولت من حياة عملية بتفكير حقيقي يعتمد على المنطق العلمي والفكر القويم الى حياة مادية، فالمال فيها اصبح كل شيء بغض النظر عن مصدره وسبل الحصول عليه، فهذه المواقع اصبحت سلاح خطر في تغذية مستنقعات التفاهة، ومع تقدم التكنولوجيا اصبحت هذه المواقع مصدراً هاما لدخل الكثير من الأشخاص، سواء كانوا أفراداً أو شركات أو منظمات، وهذا الدخل يتوقف على عدد المشاهدين والمتابعين والإعجابات والتعليقات وهو ما جعل البعض يلجأ إلى استعمال الحيل والخدع والاسفاف كالعناوين المثيرة للجدل والصور المضللة والاباحية وحتى الفيديوهات المهينة للنفس والانسانية وتسقيط الآخرين ووصل الامر بالبعض إلى تناول اعراض الناس بالباطل والكذب وكل هذه الحيل لجذب الانتباه وزيادة المشاركات(Share) والمشاهدات لتؤدي بعد ذلك الى زيادة الدخل المالي.
الآن دونو وكتابه نظام التفاهة:
الآن دونو(1970) فيلسوف كندي، واستاذ للفلسفة في جامعة كيبيك، وهو أكاديمي ناشط، معروف بنقده للرأسمالية ومحاربتها على عدة جهات، وقد كانت مساعيه موجعة للأطراف التي حاربها حتى أنه لوحق قضائياً من قبل أقطاب صناعة التعدين عام(2008)، صدر له كتاب نظام التفاهة في عام 2017، وتم نقله إلى العربية ونشر في دار سؤال للنشر في عام 2020،من قبل الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري، وقد نجح هذا الكتاب نجاحاً كبيراً فلاقى رواجاً في كثير من دول العالم بسبب اطروحاته الجريئة واسلوبه المختلف، ويعد كتاب نظام التفاهة، كتاباً ثورياً في تشخيص ما نعيشه اليوم في ظل نظام التفاهة والسيادة السطحية والرداءة في الوصف، التي اعتمدها التافهون والحمقى من أجل السيطرة على كل مجالات الدولة، وخاصة المؤثرة منها، وتدور فكرة الكتاب حول مرحلة نعيشها اليوم وهي مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على الكثير من أمور حياتنا، ويعرض دونو في كتابه كيف تؤثر التفاهة في مفاصل العالم ومراكز صناعة القرار، وكيف تتداخل التفاهة في الثقافة والفن والتعليم والصحافة والإعلام والتجارة والسياسة، وأيضاً في بيوتنا، إذ اصبحت بيوتنا عرضة لفيروس التفاهة الذي لا ينفع معه الحظر الصحي ولا الكمامات ولا المطهرات، اصبح يسير بسرعة الضوء، واصبحت مراكز السيطرة والسلطة هدفاً متاحاً لهؤلاء التافهين، إذ يسعون إليها بكل الوسائل والطرق.
يقول دونو " أن التفاهة تشجعنا بكل طريقة إلى الإغفاء بدلاً من التفكير، والنظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، إلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنها تحيلنا إلى الأغبياء." ويرى أن اليوم العالم يمر بمرحلة تاريخية غير مسبوقة، يسود فيها نظام التفاهة ويغير القواعد والتقاليد القديمة، ويستبدلها بالرداءة والابتذال، ويسيطر هذا النظام على تدهور متطلبات الجودة العالية وتغييب الأداء الرفيع وتهميش منظومات القيم وإبراز الأذواق المنحطة وإبعاد الأكفاء، كل هذا أدى إلى تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، واصبحت الديمقراطية لا تؤدي وظيفتها.
ينتقد دونو الحكم التكنوقراطي، ويرى أن هذا النظام استبدل مفهوم السياسة بالحاكمية، والإرادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية والمواطن بالشريك، فصار الشأن العام تقنية وإدارة، وليس منظومة قيم ومبادئ ومفاهيم، وتحولت الدولة بكاملها إلى شركة استثمار ومجلس إدارة، فالتفاهة تخدرنا بلغة خبرائها الفارغة وبالاستشارات العامة والملخصات المكتوبة مسبقاً والتي لا تفيد سوى تأييد خيارات السلطة، ويعتقد أن البديل عن التفاهة هو الرجوع إلى المثقف وجعله محل اهتمام للحوار والتواصل ، والتركيز على البرامج التي تساهم في بناء المواطن والرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وحقوق الأفراد والجماعات والمساواة والسلطة وتوزيع الثروة، وأيضاً لا بد من الرجوع إلى الفلاسفة المتنورين كجان جاك روسو(1712_1778)، الذي ركز في مشروعه الفلسفي على العقد الاجتماعي في كتابه الشهير( العقد الاجتماعي) ومونتسكيو(1689_1755)، الذي وضع تصوراً لفصل السلطة وتوازنها في كتابه (روح القوانين)، وفولتير(1694_1778) الذي اجتهد لتنظير الحرية والاختلاف والتسامح وتقبل الأخر، واحترام الرأي والرأي الأخر، وكانت(1724_1804)، الذي يؤكد على استعمال العقل في القضايا العامة والشأن العام، ويورغن هابرماس(1929) الذي ساهم بصياغة تصور فلسفي وسياسي لمشروع مجتمعي يصبح فيه الفضاء العمومي مجالاً مهماً للفعل التواصلي للمواطن.( أن الدول العربية لم تأخذ بمنتجات وتنظيرات مفكريها ولهذا السبب لم تتطور الدول العربية، بل على العكس كان المفكر العربي دائماً معرض للاغتيال والتهميش، وصدق عالم الكيمياء المصري احمد زويل(1946_2016) الحاصل على جائزة نوبل عندما قال " الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل." )
تجدر الإشارة إلى أن دونو يرى أن هناك مبالغة في خلق التخصصات العلمية الدقيقة تدخل هي الأخرى ضمن منتجات نظام التفاهة، فأصبحت الجامعات تهتم بتسطيح المعرفة من خلال تعميقها بدل من توسعها، وأيضاً أن الجامعات اليوم أصبحت تستجيب للشركات التجارية وتحولت المعرفة إلى سلعة، وبذلك تحولت الجامعة من منتجة للمعرفة إلى تاجر فيها، وهذا ما حذر منه عالم الاجتماع ماكس فيبر(1864_1920) في كتابه (العلم بوصفه حرفة)، وكذلك غياب الفلسفة أوجد فقراً عميقاً، فمع دعاوي التخصص أخذت الفلسفة تبتعد عن العلوم والمعارف، وعندما سارت الجامعات في طريق التخصص العلمي الدقيق اصبحت تتلقى التمويل من الشركات التجارية، واصبح الاساتذة والطلاب يعملون مشاريع الشركات، وأنتجت الجامعات خبراء ذوي تخصص دقيق يخدم السوق، ولم تنتج علماء من ذوي الأفق الواسع القادر على مواجهة مشكلات الحياة، فالخبير ممثل للسلطة وينتج أفكاراً مقابل الحصول على منافع مادية وعلاقته بالعلم قائمة على المصلحة والمنفعة، أما العالم والمثقف فهو حالة تحركه دوافعه الأخلاقية، وكذلك المبالغة في التخصصات الدقيقة أوجد تخصصات لا جدوى منها، والفن أيضاً كان له نصيب كبير من التفاهة فعندما دخل التجار واصحاب الأموال على السينما والمسرح وكافة الفنون اصبحت الفنون مادية جداً، وتخلت عن رسالتها الحقيقية، وفي وقتنا الحاضر بدأنا نسمع الكثير من الفنانين يتكلمون عن قضية أجورهم في الأعمال الفنية، وبدأت الأجور هي من تحدد العمل الجيد، وأيضاً أدخال التافهين من رواد مواقع التواصل، ويقدمونهم للتلفزيون على اعتبار أن لديهم الكثير من المشاهدين، وبذلك أدخلوا التفاهة إلى التلفزيون والذي يعتبر من أكثر الأشياء التي يجتمع حولها العائلة، ويعتقد دونو أن هناك عدة اسباب لانتشار التفاهة وهي:
1_ تجارة التفاهة، فالرأسمالية العالمية تغرق في أوحال التفاهة من خلال الترويج لبرامج وسلع تافهة.
2_ الترويج للتفاهة، أن التفاهة لها أبعاد نفسية وفكرية واجتماعية، ووسائل التواصل الاجتماعي تصنع وتصدر بعض التافهين وتصورهم على أنهم نجوم، فاليوتيوب وبرامج أخرى تكون لديهم قيمة المحتوى على اساس المشاهدات بغض النظر عن قيمته الفكرية.
3_ مجانية التفاهة، عندما تكون البضاعة مجانية، فتذكر أنك أنت الثمن.
4_ تسيس التفاهة، في هذا العالم يتم أنفاق الملايين لإنتاج برامج تافهة والهروب من الواقع، ويصبح السفل أسهل من الترفع، واصبح المحتوى التافهة محل الاهتمام والتطوير وتسويقه لأفراد المجتمع، وهذا أدى إلى زعزعة ثوابت المجتمعات وقيمها وأخلاقها.
5_ تنمر التافهون، أن التافهين تغلغلوا في جميع قطاعات المجتمع ومن بينها الإعلام والاقتصاد والتجارة والتعليم، واصبحوا يتصدرون المشهد ويوجهون أفراد المجتمع كما يشاؤون، لأنهم يرون أنفسهم الأفضل، وغير مدركين عدم نضجهم وقلة فهمهم لأمور الحياة.(7)
معالجات ظاهرة التفاهة:
1_صناعة الأهداف العالية للجيل، واحياء الهمم والغرائز لهم، فتزول التفاهة من حياتهم بمجرد إيجاد الأهداف العظيمة والبرامج التي تحقق هذه الأهداف.
2_ الحرص على التشجيع والتحفيز والدعم النفسي للأبناء، فإن من أبرز ما يجذب الأبناء إلى عوالم التفاهة والتصدر فيها، هو ما يجدونه من الاعجاب والاهتمام والتقدير والمشاركة العاطفية، فإذا حرصت الأسرة على اشباع هذا الجانب فيهم شكل هذا قدر من الوقاية، بل قدر صالحاً من العلاج.
3_العمل على تربية الجيل تربية صحيحة ومتمسكاً بمبادئ الاسلام وثقافته وحضارته، هذا كله تعطي للجيل قوة حصانة كبيرة من كل الأمور التافهة المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وغرس شعور الحب والتعظيم لله(جل جلاله) ودينه وكتابه، وغرس شعور المحبة والاقتداء بالإسلام ونبيه(ص) وآل بيته(ع) وغرس مكانتهم، وتثبيت قيمة الاعتزاز بالدين، وهذا له أثر كبير في رفع مستوى المناعة تجاه الأفكار التي تتضمنها موجة التفاهة.
4_ضروري أن يغزو وسائل التواصل الاجتماعي دعاة الخير والدين والعلم، وكل البرامج الهادفة التي تؤدي إلى اصلاح المجتمع، وهذا الدور يقع في المرتبة الأولى على كافة مؤسسات الدولة لدعم هذه البرامج، وبالمرتبة الثانية على جميع منظمات المجتمع المدني ورجال الدين وشيوخ العشائر والمثقفون.
5_تطبيق قانون المحتوى الهابط بحزم، أي لا يعود صاحب المحتوى الهابط إلى تفاهته بعد تطبيق القانون عليه، وغلق المواقع التي تنشر المحتوى الهابط وفرض غرامات مالية على صاحب المحتوى الهابط.
6_لا يسمح لعمل قناة في اليوتيوب أو التيكتوك، أو أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، إلا بعد تقديم محتواه أمام لجنة متكونة من تربويين واجتماعيين وقانونيين.
7_لايسمح للأطفال استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، لأي سبب، إلا إذ كان السبب هادف، ووضع رقابة شديدة على هذا الموضوع ومحاسبة أولياء الأمور محاسبة شديدة.
8_من أهم العوامل في تخفيف أثر هذه المصادر وفي رفع مناعة الجيل تجاهها، وهو ما تقدمة الأسرة من تربية لأبنائها، وما يقدمه المصلحون المربون، والدعاة الناصحون من بناء وتوجيه، فإذا قام هؤلاء بدورهم، واحسنوا العمل والتربية والدعوة، وأدركوا سمات الجيل وكيفية مخاطبتهم، وفهم معالم التربية الاسلامية، وحرصوا على تحقيقها وتطبيقها، فإن أثر المصادر السلبية سيكون محدوداً وضعيفاً مهما كان حجمه وطبيعته، وهذا ينطبق على التحديات الفكرية عامة، كالألحاد والتشكيك في الثوابت.
الهوامش:
1_ينظر أحمد بن يوسف السيد: مقاومة التفاهة( مشكلة التفاهة، اسبابها، مالاتها، كيفية معالجتها)، منار الفكر، ط1، 2023، ص17.
2_ينظر المصدر نفسه، ص12_31_32.
3_ ينظر المصدر نفسه، ص23_29.
4_ ينظر المصدر نفسه، ص35_36.
5_ ينظر المصدر نفسه، ص50_51.
6_ ينظر المصدر نفسه، ص24.
7_ينظر الآن دونو: نظام التفاهة، ترجمة مشاعل عبدالعزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، بيروت، ط1، 2020.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العمل التطوعي، استثمار في الإنسانية
- على ضفاف دجلة حيث تتجدد روح الجواهري
- الآثار العامة للبطالة
- فلسفة العمل
- دراسة في أسس النهضة اليابانية
- الحكم المدني في فلسفة جون لوك
- رائد الفيزياء الحديثة العبقري أينشتاين
- عراب النضال السلمي غاندي
- سقراط الجديد جبريل مارسيل
- الرجل الثاني في الإسلام وصوت العدالة الإنسانية، أمير المؤمني ...
- مفهوم الميتافيزيقا
- الظاهرة العبثية الإلحاد
- الاقتصاد في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- النظام الاجتماعي في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- العالم الذي قهر الإعاقة ستيفن هوكينج
- مفهوم الهوية في فكر عبدالجبار الرفاعي
- فرسان العراق في حرب 6أكتوبر
- مفهوم الولاء في فلسفة جوزايا رويس الأخلاقية
- المعوقات الاجتماعية لمشاركة المرأة العربية في صنع القرار الإ ...
- الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي


المزيد.....




- هوس أكياس الكافيين: موضة بين المراهقين تثير قلق بعض الخبراء ...
- ألمانيا تعتبر -التقدم الأولي المحدود- في إيصال المساعدات إلى ...
- أكثر من ألف موظف أوروبي يدعون لتعليق العلاقات مع إسرائيل
- بعد قرار ترامب في وجه روسيا.. تعرف على أسطول غواصات أميركا
- لغز يحيّر المحققين.. رضيعة تنجو من مجزرة عائلية مروعة والقات ...
- حماس ترد على تصريح ويتكوف حول استعدادها لنزع سلاحها
- أكسيوس تجذب الجمهور بأسلوب تحريري فريد
- تقرير بريطاني: إسرائيل تفعل في غزة ما لم تفعله ألمانيا بالحر ...
- بسبب -صوت مصر-.. شيرين عبد الوهاب تلجأ إلى القضاء ردا على تص ...
- إعلام إسرائيلي: العالم يتكتل ضدنا بعد أن اتحد لدعمنا في 7 أك ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - التفاهة تشخيص الداء ووصف الدواء