|
على ضفاف دجلة حيث تتجدد روح الجواهري
حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق
الحوار المتمدن-العدد: 8420 - 2025 / 7 / 31 - 02:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتينِ الجواهري المقدمة: نهر دجلة باذخ العطاء وسر وجود العراق الحضاري الى جانب توأمه الفرات، فمنذ آلاف السنين كانت مناطق ما بين النهرين دجلة والفرات عامرة و كانت ضفافهما وحوضهما المهد الأساسي للحياة وابتكار الزراعة المروية قبل حوالي 12 ألف عام، كما مارست الشعوب القديمة عبر الحضارات المختلفة من أيام السومريين صيد الأسماك والنقل النهري والتجارة، وتتابعت الأنشطة البشرية الاقتصادية وبنيت آلاف المدن والقرى عبر آلاف السنين في حوضهما، وكان لنهر دجلة قدسية لدى سكان العراق القديم، فقد ذكر في نصوصهم المسمارية، وتشير أحد النصوص القديمة بأن الإله(أنكي) حفر مجرى نهري دجلة والفرات ليجعل أرض الرافدين أحد جنان السماء على الأرض. نهر دجلة كان وما زال شواطئه وأمواجه وبساتينه ومروجه وقصباته مرتعاً لخيال الشعراء والأدباء والمفكرين، وملاذاً لهم من زخم المدن وقلقه، فنهر دجلة ليس فقط يروي الإنسان والزرع، بل هو يروي الفكر أيضاً والأدب، ويمثل نهر دجلة للعراقيين ينبوع الحياة ورمز على مدى العصور، فدجلة بقت شامخة رغم الألم والمصائب التي مرت بالعراق، ويبقى يروي العراق من شماله إلى جنوبه، ورمز وتاريخ موحد للعراقيين، فعلى ضفتي دجلة قامت حضارات عريقة، ساهمت في بناء وتعليم الإنسان، فأغلب حضارات العراق قامت على نهر دجلة كالسومرية والآشورية ،و أن الحديث عن دجلة يختزن ذاكرة كبيرة للعراقيين ، فقد رويت أخبار وسير شكلت تاريخ دجلة الكبير. دجلة الخير: في اللغة العربية تشتق كلمة (دجلة) من الفعل "دَجَل" والتي تعتبر من الكلمات العربية الصرفة وهي تعني انتشر وعم وغطى، وقد سمي النهر بهذا الاسم نسبة إلى ذلك، بمعنى أن مياهه وفيرة وتعم مساحة النهر بل ويفيض عن ذلك. يعد نهر دجلة أحد أهم أنهار منطقة الهلال الخصيب، وقد كان له دور هام في تزويد العديد من الأقاليم بالمياه العذبة لقرون طويلة، مثل مدن تركيا والشام والعراق، وهو ثاني أكبر أنهار غرب قارة آسيا، ومحاط جغرافياً بأربع دول، وهي إيران والعراق وتركيا وسوريا. كما أنه يشكل نظاماً نهرياً مع نهر الفرات يحوط منطقة بلاد الرافدين (ما بين النهرين) في منطقة الهلال الخصيب، و يعتبر دجلة مصدراً هاماً للتنقل والسفر في الماضي وكذلك الري، وهو أحد الرموز التاريخية في الحضارات القديمة، لما كان له من دور حيوي في أيام القحط والجفاف آنذاك. ينبع نهر دجلة من بحيرة هزار الموجودة في جبال طوروس التي تقع في الجنوب الشرقي من الأناضول التركية، ويبلغ طوله الإجمالي حوالي 1718 كيلو متراً، منها حوالي 268 كيلو مترا في الأراضي التركية حيث يمر في العديد من المدن ، ومنها بيسميل وجزيرة ابن عمر وحصن كيفا، ويقطع نهر دجلة ما يقارب 1400 كيلو متر في الأراضي العراقية، و50 كيلو متراً في الأراضي السورية ويمر بمدينة المالكية وهو بذلك يختلف عن نهر الفرات الذي يقطع مسافة كبيرة في الأراضي السورية قبل دخوله في العراق ، ويجري في العراق نحو 1400 كيلومتر حيث يمر بالعديد من المدن ومنها: الموصل، وتكريت وسامراء وبغداد وبعقوبة والكوت والعمارة والبصرة. ويدخل نهر دجلة العراق من مدينة فيشخابور، و يرفد هذا النهر بالعديد من الروافد المختلفة وأهمها: الخابور و الزاب الكبير و الزاب الصغير و ديالي والعظيم حيث تغذي هذه الانهر التي تنبع من تركيا و ايران نهر دجلة وتشكل حوالي 66 % من مياه دجلة. الخابور، وهو أول روافد نهر دجلة وينبع من مدينة الاناضول الشرقية، في محافظة هكاري التركية باتجاه العراق ويمر بمدينة زاخو ويصب الخابور في دجلة بالقرب من فيشخابور الزاب الكبير، ينبع من بحيرة وان التركية ويمر بمحافظتي وان وهكاري ثم يدخل محافظة دهوك في العراق ويلتقي بنهر دجلة جنوب شرق الموصل، و ينتج حوالي 13.19 كم³ من الماء سنوياً عند مكان التقائه بنهر دجلة، ويتواجد 62% من مساحة حوضه الكلية في العراق والتي تقدر بحوالي 25810 كم². الزاب الصغير، ينبع من شمال غربي إيران ويصب في دجلة في شمالي مدينة بيجي ويتم تجهيزه بسد دوكان، وتشكل مساحة حوض النهر حوالي 21475 كم²، ويقع 74% منها في العراق، وينتج حوالي 7.17 كم³ سنوياً، منها 5.07 كم³ بعد بناء سد دوكان. العظيم، يعد نهر العظيم واحداً من أهم روافد نهر دجلة، وهو النهر الوحيد الذي ينبع من داخل الأراضي العراقية، حيث ينبع في محافظة السليمانية، و يصب في دجلة بمساحة تقدر بحوالي 13000 كم² في العراق بشكل كلي، وينتج حوالي 0.79 كم³ سنوياً عند التقائه بنهر دجلة، ويعتبر مجرى متقطع بالاعتماد على الفيضانات المفاجئة. ديالى، هو خامس روافد نهر دجلة، يتكون من التقاء نهري سيروان وتانجرو في بحيرة دربندخان في محافظة السليمانية شمال العراق. ويمر النهر عبر إيران والعراق ويبلغ طوله الإجمالي 445 كم، وينبع النهر من جبال زاكروس ويصب في نهر دجلة جنوبي العاصمة العراقية بغداد، وينتج حوالي 5.74 كم³ سنوياً عند التقائه بنهر دجلة، وهو مجهز بسد دربنديخان. ويتفرع من نهر دجلة في مدينة الكوت، نهرين هما الغراف والدجيل، ثم يكمل مسيره نحو الجنوب إلى أن يلتقي في مدينة القرنة بنهر الفرات ويتحدان في شط العرب معاً إلى أن يصلا إلى الخليج العربي ويصبا فيه، وأقيمت عليه الكثير من السدود من أهمها سد الموصل وسدة سامراء وسدة الكوت. سدة الموصل ، هو سد يبعد حوالي 50 كم شمال مدينة الموصل في محافظة نينوى شمال العراق على مجرى نهر دجلة، افتتح عام 1986، يبلغ طوله 3.2 كيلومترا وارتفاعه 131 مترا، يعتبر السد أكبر سد في العراق ورابع أكبر سد في الشرق الأوسط. سدة سامراء، هو سد يقع على نهر دجلة قرب مدينة سامراء في العراق أنشئ عام 1951 م وأنجز عام 1956 م بطول 1200 متر ويرتبط السد عبر قناة تحويل بمنخفض الثرثار غرباً. سدة الكوت، هو سدة يقع في محافظة واسط في مدينة الكوت على نهر دجلة ويعد من أطول سدود العراق حيث يـتألف من 56 بوابة، تم بناء سدة الكوت بين عامي 1934 و1939 من قبل شركة بلفور بيتي البريطانية1939 ويعتبر من السدود المهمة في العراق لما لها تأثير في خزن المياه. الموقف التركي من مياه نهر دجلة: بحسب المواثيق والأعراف الدولية فإنه يحظر على أي دولة الانتفاع بمياه الأنهار الدولية لوحدها، وهناك اتفاق بين دول الحوض النهري المعني في هذا الشأن، أي دول المنبع والمصب، وتنص قرارات الأمم المتحدة الصادرة عن لجنة القانون الدولي على أن الدول المتشاطئة على النهر الدولي تستطيع استعمال المياه طبقاً لحاجاتها شرط ألا يسبب هذا الاستعمال ضرراً للدول الأخرى المشتركة معها في هذا النهر، وتعرف القوانين الدولية المياه الدولية، بأنها المياه التي تمر عبر عدة دول وتتشارك بنسب متفاوتة من المصدر المائي ، حيث ينبع النهر من دولة ويجري ويصب في دولة أخرى أو عدة دول، مثل النيل والفرات ودجلة وغيرها من الأنهار، أما المياه الوطنية ، هي المياه التي تنبع وتجري وتصب في الدولة نفسها، ولا تتعدى حدودها الجغرافية، ولا يجوز لأي دولة من الدول المشتركة بالنهر إقامة السدود إلى بموافقة الدول المتشاطئة، لكن الحكومة التركية لا تعترف بدولية نهر دجلة والفرات، وهي هنا تتلاعب بالتعريفات الدولية للمياه الدولية، حيث تزعم أن نهر دجلة والفرات نهران وطنيان عابران للحدود ولكنهما ليس ضمن الأنهار الدولية، وترى أنه لا يوجد نص قانوني يلزمها بعدم إنشاء السدود على نهر دجلة، ولها الحق الكامل في بيع واستقلال مواردها المائية، وفق ما يخدم مصالحها ويطورها دون الالتفات لمعارضة أي من الدول المتشاطئة، وتم التأكيد من الحكومة التركية أكثر من مرة بأنها غير ملزمة بأي نص قانوني حول نهر دجلة والفرات، ولكنهم ملزمين من باب الانصاف والعدل الإنساني بعدم إلحاق الضرر بالدول التي يمر منها المجرى المائي، فالقضية أخلاقية وليست قانونية كما يعبر عنها الأتراك، ولذلك قاموا بإنشاء عدة سدود منها سد إليسو، وهو سد ضخم انشئ على نهر دجلة بالقرب من قرية إليسو وعلى طول الحدود من محافظة ماردين وشرناق في تركيا، ويبلغ ارتفاعه نحو 140 مترا وطوله نحو 1820 مترا، ويشكل سد إليسو ناقوس خطر حقيقي على العراق ومياهه حيث سيؤدي إلى نقصان حصة العراق من مياه نهر دجلة من 21 مليار متر مكعب سنوياً إلى نحو 9 مليارات و700مليون متر مكعب فقط، وسينتج عنه أيضاً حرمان العديد من المدن العراقية من مياه الشرب، بالإضافة الى حرمان العراق أكثر من 696 ألف هكتار من الأراضي الزراعية. السياسة المائية العراقية: يعتمد سكان العراق بشكل أساسي وكبير على مياه نهر دجلة، لكنه في السنوات الأخيرة بدأت دجلة بالجفاف جراء قيام تركيا وإيران ببناء السدود على دجلة والأنهر المغذية لدجلة، مما ترك آثاراً سلبية خطيرة على السكان القاطنين في دولة المصب أي العراق، وتعود جذور أزمة المياه العراقية التركية إلى عشرينيات القرن الماضي، ولم تنقطع سلسلة اللقاءات والتفاهمات بين البلدين، ففي أنقرة عام 1978 تم توقيع بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني الثنائي على إثر إنجاز تركيا سد كيبان الذي خلف أزمة كبيرة عادت مرة أخرى للواجهة مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد إنشاء سد أتاتورك الذي خلف نقصاً حاداً في مياه العراق، وفي عام 2018 تكرر المشهد ذاته عقب إنجاز سد إليسو ضمن السياسة المائية التركية، وأوضحت الحكومة العراقية أن منسوب تدفق المياه إلى نهري دجلة والفرات تراجع بين نهاية أبريل وبداية يونيو بنسبة 50%، مقارنة بالفترة نفسها في 2020، بسبب التغير المناخي وقلة الأمطار، إضافة إلى عوامل فنية أخرى، من ضمنها توسع مشاريع بناء السدود في بلدان المنبع، تركيا وإيران، من دون اتفاق مسبق مع العراق على تشغيلها، وتمثل مشكلة المياه وندرتها في العراق تهديداً مباشرا للأمن المائي والغذائي، وتزداد خطورتها في استمرار تركيا وايران ببناء السدود على نهر دجلة ، وتغيير وتجفيف مجاري الانهر التي تغذي روافد العراق، ويكمن حجم الاخطار وتأثير السدود على العراق باحتجاز المياه عنه ، بمقدار النصف، وهذا لن يعرض مشاريع الري وتوليد الطاقة الكهربائية في سوريا والعراق لأضرار بالغة فحسب، بل يعرضهما لخطر الجفاف وحلول الكوارث أيضا، وسينخفض الإنتاج الزراعي بشكل كبير جراء تزايد رقعة الجفاف وتدهور المراعي والحقول الطبيعية، وتراجع الثروة الحيوانية كل ذلك من شأنه أن يزيد من حجم المشاكل الاجتماعية لسكان الحوض القاطنين فيه مستقبلاً، وبالأخص الفلاحين والمزارعين الذين يعتمدون بصورة أساسية على مياه النهر في ارواء حقولهم ومزارعهم ، إلى جانب ظهور الحاجة إلى الاستيراد بدلاً من الاكتفاء الذاتي أو شبه الذاتي لبعض المحاصيل الزراعية، وحدوث زيادة كبيرة في معدلات البطالة الناجمة عن ارتفاع هجرة الفلاحين وانخفاض فرص العمل بالنسبة للعاطلين منهم، وستقضي على ثلث مساحة الأراضي الزراعية في العراق التي تقدر بأكثر من أربعة ملايين دونم خلال السنوات الخمس والعشرين المقبلة، مما يعني هذا حرمان مئات الآلاف من المزارعين من مزاولة أعمالهم ومهنهم الزراعية التي تعد مصدراً رئيساً لمعيشتهم الأساسية، وأيضاً الصيادين الذين يعتمدون في مهنهم على صيد الأسماك، حيث سيؤثر انخفاض معدلات تصريف مياه نهر دجلة على تنمية الثروة السمكية في البلاد، لذلك على العراق طرح حلول واقعية وآنية وبالسرعة الممكنة لتجنب حلول الكارثة، فعلى الحكومة العراقية طرح مشروع مائي جديدة ، وإنشاء خزانات عملاقة لخزن المياه التي يحتاجها سنوياً، وأضف إلى ذلك الاعتماد على نظام الري بالزراعة والتقليل من الهدر المائي ، وتوعية المجتمع بضرورة الحفاظ على الماء وأيضاً الاعتماد الكبير على مياه الامطار والمياه الجوفية، والمحاولة الجادة للوصول إلى اتفاقيات طويلة الأمد مع تركيا وإيران، لحفظ حصة العراق المائية، ومحاولة تدويل قضية المياه وحصة العراق من الماء كما فعلت مصر والسودان من تدويل قضية سد النهضة في أثيوبيا وطرحها في مجلس الأمم المتحدة، لذلك يفترض من العراق تقديم شكوى رسمية للأمم المتحدة، إذ لم تستجب دول المصب بإعطاء العراق حصته المائية الكاملة. سيرة شاعر العرب الأكبر: ولادته ونشأته: ولد الجواهري في النجف في 26 تموز من عام 1899م، من أسرة ذات سمعة ومقام بين الأوساط النجفية الدينية والأدبية، وكان أبوه الشيخ عبد الحسين عالماً من علماء النجف، وقد ألبس أبنه الذي بدت عليه مخايل الذكاء والمقدرة على الحفظ أن يكون عالماً عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة، وينحدر من أسرة نجفيه محافظة عريقة في العلم والأدب والشعر تعرف بآل الجواهري، نسبة إلى مؤسسها، الذي يدعى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، وقد ألف الأخير كتاباً في الفقه واسم الكتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام)، ومن هنا لقب بالجواهري، وكان لهذه الأسرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية، وكان والده حريصاً على إرساله إلى المدرسة وأن يدرس من أساتذة كبار يعلمونه أصول النحو والصرف والبلاغة والفقه. مسيرته السياسية: تكللت مسيرته السياسية بالكثير من المواقف، فتارة تجده مؤيد للحكام وتارة تجده معارض لهم ومصيره المنفى، بل عاش الكثير في المنفى من جراء مواقفه السياسية المعارضة للحكام، لكنه تجد القصيدة عنده سهله المنال، إذ بمجرد ما توافق مع الحاكم مدحه بقصيدة، وعند الخلاف معه يذمه بقصيدة، فالقصيدة تمثل رأيه السياسي، وكثيراً ما نفي أو طرد بسبب القصيدة، وهذه المواقف تمثل عدة احتمالات منها، أما أن الحكام كانوا يتقربون لشاعر كبير وذلك لتأثيره الكبير في الشارع ويحاولون أرضائه بشتى الطرق ورأينا تم فتح عدة صحف بموافقة الدولة وتم تعينه أول نقيب للصحفيين، أما الاحتمال الثاني هو أن الجواهري كان لا يتسامح مع أخطاء الحكام أبداً، أما الاحتمال الثالث وهو يبدو لنا أن الجواهري كان رجل عاطفي فعندما يرى حسنات الحكام على الشعب يمجده بقصيدة، وعندما يرى سوء الحكام يذمهم بقصيدة. من أوائل مواقفه الثورية السياسية، هي اشتراكه بثورة العشرين عندما اندلعت ضد البريطانيين ، بحكم أن النجف كانت إحدى مراكزها الأساسية، وبعد ذلك عمل لفترة قصيرة في البلاط الملكي بعد تتويج الملك فيصل الأول ملكاً على العراق، وقدم استقالته منه، ويعلل ذلك بقصيدته "جربيني"، وذلك لما فيها من تحد للمجتمع والعادات آنذاك، وبعد ذلك دخل إلى عالم الصحافة، وأسس جريدة الفرات، التي أغلقتها الحكومة، ولم يستطع إعادة فتحها، فتوجه الجواهري إلى سلك التعليم وعمل معلما في المدارس والثانويات في عدة مدن منها بغداد والبصرة والحلة، لكنه بقي غاضباً على سياسات الملك فيصل، وفي عام 1936م أصدر جريدة الانقلاب عقب الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي ضد حكومة ياسين الهاشمي ، وعلى أثر ذلك حبس لمدة ثلاثة أشهر وأُغلقت الصحيفة، وبعد خروجه وسقوط حكومة الانقلاب العسكري أعاد فتح الجريدة باسم "الرأي العام"، وكانت المقالات التي ينشرها سبباً لإغلاق الصحيفة أكثر من مرة ،حتى أن الضغوط دفعته للهجرة إلى إيران والعودة بعد فترة، وعندما قامت ثورة رشيد الكيلاني عام 1941 أيدها، وعقب فشلها اضطر لمغادرة العراق إلى إيران قبل أن ينجح في العودة مجدداً بالعام نفسه وأعاد إصدار جريدته "الرأي العام"، وفي عام 1946م ظهرت في العراق دعوات إلى نشر وترسيخ الديمقراطية ، وتأسس الحزب الوطني الذي كان الجواهري من الأعضاء المؤسسين له، وأجازت الحكومة للحزب الوطني ممارسة العمل السياسي، وفي 2 أبريل من نفس العام أتخذ الحزب من جريدة "الرأي العام"، ناطقاً رسمياً له، وبعد فترة نشبت خلافات بين أعضاء الحزب مما أدى بالجواهري إلى تقديم استقالته في آب من عام 1946م، وواصل الجواهري نشاطه السياسي بالإضافة إلى النشاط الصحفي، فقد كان مسؤولاً عن جريدة "الرأي العام"، وفي عام 1947م انتخب نائباً في مجلس النواب العراقي واستقال بعد عام واحد لمعارضته معاهدة بورتسموث التي كان شقيقه أحد ضحاياها نتيجة لتعرضه لإطلاق ناري خلال التظاهرات ومقتله متأثراً بجراحه بعد عدة أيام، وبسبب هذه الواقعة كتب قصيدتين يرثي فيهما أخيه بعنوان "أخي جعفر" و"يوم الشهيد"، وفي عام 1949م كان الجواهري العربي الجنسية الوحيد الذي حضر مؤتمر أنصار السلام العالمي، الذي أقيم في بولندا وعلى أساسه أُسس مجلس السلم العالمي عام 1950م واختير عضواً فيه، وخلال احتفال نظمته نقابة المحامين العراقيين في بغداد عام 1951، عاد الجواهري لانتقاد النظام، ونجح الجواهري مرة أخرى في إعادة إصدار جريدته "الرأي العام" عام 1953 إلا أن الحكومة عادت وعطلتها مجدداً في العام ذاته، بسبب قصائده المتتالية التي تنتقد النظام الحاكم والتي حرص فيها على عدم التعرض لشخص الملك، وبعد انتقال العراق من الملكية إلى الجمهورية في 14 تموز عام 1958م كان الجواهري من أشد المتحمسين لهذا الانتقال المهم والحساس، وأُطلق عليه في تلك الفترة لقب شاعر الجمهورية، وامتدح الجواهري عبد الكريم قاسم أيضا في قصيدة طويلة قال فيها "أبا كل حر لا أبا الشعب وحده... إذا احتضن الأحرار في أمة أب... هنيئاً لك العيد الذي أنت رمزه... بذكرك يستعلي وباسمك يطرب"، واختير أول نقيب للصحفيين في تاريخ العراق، في 7 أيلول من عام 1959م ضمن المؤتمر التأسيسي الأول بحضور الزعيم عبد الكريم قاسم، لكن تأزمت علاقة الجواهري بالنظام السياسي مما اضطر لمغادرة العراق إلى لبنان في عام 1961، ومن هناك سافر إلى جمهورية التشيك بدعوة من اتحاد الأدباء، وقدم طلباً للجوء السياسي، وبعد انقلاب 8 شباط 1963م سحبت الحكومة العراقية الجنسية العراقية من الجواهري، لرفضه الانقلاب بقيادة عبد السلام عارف، وعاد إلى العراق لاحقاً بعد انقلاب 17 تموز 1968 بدعوة من الحكومة العراقية وأعادت له الجنسية العراقية وقدمت له راتباً تقاعدياً قدره 150 دينار كل شهر، وكالعادة لم يطل الوفاق بينه وبين حكام البعث طويلاً، فسرعان ما تجددت الخلافات فاضطر على إثرها للخروج من البلاد نهائياً عام 1980، وغادر إلى سوريا حيث نزل في ضيافة الرئيس حافظ الأسد، الذي أكرمه ومنحه أعلى وسام في البلاد، وسرعان ما رد الجواهري التحية بـقصيدته الشهيرة "دمشق جبهة المجد"، التي تُعتبر واحدة من أفضل ما قدم من أدب، وامتدح فيها الرئيس حافظ، وقد عاش الجواهري في سوريا ما تبقى من حياته حتى مات عام 1997 عن عمر ناهز الـ98 عاماً، وشيع جثمانه في جنازة مهيبة ،بحضور أركان الدولة السياسيين والعسكريين بالإضافة إلى حضور شعبي كبير، ودفن الجواهري في مقبرة الغرباء في منطقة السيدة زينب في دمشق إلى جانب قبر زوجته السيدة أمونة، وعلى قبره نحتت خارطة العراق من حجر الجرانيت مكتوب عليها "يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير"، في إشارة إلى قصيدته، وتضم مقبرة الغرباء في دمشق رفات شعراء وكتاب عراقيين كثر، من أمثال الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، والشاعر والكاتب مصطفى جمال الدين، وشخصيات سياسية وغير سياسية أخرى. مسيرته الشعرية: اعتاد والد الجواهري أن يطلب منه حفظ قصيدة يومياً من ديوان أبي الطيب المتنبي والذي تأثره به كثيراً، وخطبة من كتاب "نهج البلاغة"، ما أكسب الطفل الصغير ذائقة لغوية سليمة دفعته لقرض الشعر مبكراً، يقول الجواهري في مذكراته: "بدأت محاولاتي لكتابة الشعر وأنا في الـ14 من عمري، لكني لم أستطع البوح به لأني كنت غير متأكد منه، ففي النجف يتمتع الشعر بحب أبناء المدينة وكلهم يعرفون جيده من رديئة". وكانت محاولته الأدبية الأولى كتاب "حلبة الأدب" الذي خرج إلى النور عام 1919م، ونشر فيه الجواهري عدة قصائد مختارة له يجاري فيها شعراء العرب الكبار، أما ديوانه الشعري الأول فقد صدر عام 1928 وحمل عنوان "بين الشعور والعاطفة". احتضن العراق موهبة الجواهري مبكراً وعده من مصاف شعرائه، وتسابقت الصحف على وصفه بـ"شاعر العرب الأكبر" و"نابغة الشعر العربي" و"أمير الشعراء بعد شوقي" وغيرها من الألقاب التي لم ينلها شاعر عراقي قبله، ولم يقتصر تقديره على داخل العراق فقط، وإنما في 1950 دعاه الأديب المصري المعروف طه حسين للمشاركة في مؤتمر ثقافي تابع للجامعة العربية عقد في الإسكندرية. في كتابات الجواهري وأشعاره نلمس إحساس الإنسان الذي يعاني، ذلك المعذب المهموم، والذي يبث آلامه وأحلامه في قصائده فتأتي محملة بالصور الشعرية، وقد انصرف الجواهري في شعره إلى التغني بحلم الإنسان الغريب المشرد المتطلع إلى السلام والحرية والعدالة، والعودة مرة أخرى لحضن الوطن، ولذلك كثير ما جاءت قصائده محملة بذلك الشوق العظيم للعراق، فهو يذكره مدناً وقرى وحضارات على نحو ما فعل في رائعته (دجلة الخير) التي اعتبرها كثير من شعراء العراق ونقاده واحدة من معلقات العرب العظيمة، حيث تعطرت بالتراث والتاريخ العربي المجيد، وتعتبر أيضاً من اعظم قصائد الجواهري، حيث أن الجواهري بث هذه القصيدة في مدينة براغ عندما كان مغترباً بالمدينة، وتتكون القصيدة من(165) بيتاً، وعبر عن كل حنينه وأحزانه وأشواقه ومعاناته، إذ يقال أنه كان يعيش حالة نفسية سيئة صورها في هذه القصيدة، التي لقيت صدى كبير في وسط مثقفي العراق والعالم العربي، ويبدأ الجواهري بقصيدته وينادي دجلة وكأنه ينادي محبوبته، ويعترف الجواهري أن ظمأ الشوق والاغتراب والبعد والظلم والحب والذكريات والحرية، لا تجليه إلا دجلة، ويتمنى أكثر الجواهري ويصل به الحنين إلى درجة كبيرة حتى يتمنى أن تكون دجلة بعمقها قبره، والقصيدة في أكملها تحمل الشجون والعاطفة الحاشدة، ويدرك الجواهري أنه سيعود يوماً ما للمدينة التي أحبها وهام بنهرها دجلة الخير، ومن القصائد المهمة قصيدة "آمنت بالحسين"، وألقاها في الحفل الذي أقيم في كربلاء يوم 26 تشرين الثاني 1947، لذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) ،ونشرت القصيدة في جريدة "الرأي العام".
#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الآثار العامة للبطالة
-
فلسفة العمل
-
دراسة في أسس النهضة اليابانية
-
الحكم المدني في فلسفة جون لوك
-
رائد الفيزياء الحديثة العبقري أينشتاين
-
عراب النضال السلمي غاندي
-
سقراط الجديد جبريل مارسيل
-
الرجل الثاني في الإسلام وصوت العدالة الإنسانية، أمير المؤمني
...
-
مفهوم الميتافيزيقا
-
الظاهرة العبثية الإلحاد
-
الاقتصاد في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
-
النظام الاجتماعي في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
-
العالم الذي قهر الإعاقة ستيفن هوكينج
-
مفهوم الهوية في فكر عبدالجبار الرفاعي
-
فرسان العراق في حرب 6أكتوبر
-
مفهوم الولاء في فلسفة جوزايا رويس الأخلاقية
-
المعوقات الاجتماعية لمشاركة المرأة العربية في صنع القرار الإ
...
-
الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي
-
موقف عبدالجبار الرفاعي من التربية
-
موقف عبدالجبار الرفاعي من الاستبداد
المزيد.....
-
أزمة مياه خانقة.. 10 ملايين إيراني يواجهون أسوأ موجة جفاف في
...
-
مصر.. القطاع العقاري يواجه رسوما جديدة على الأراضي
-
الحوثي يكشف تفاصيل -المرحلة الرابعة- ضد إسرائيل ويصف المساعد
...
-
بعد انضمام البرتغال إلى الدول الساعية للاعتراف بفلسطين.. هل
...
-
إصابات بعضها خطيرة في سقوط مرعب للعبة بمدينة ملاه بالسعودية
...
-
اعتراف فرنسا بفلسطين.. دعم من ماكرون للقضية أم استعراض رخيص؟
...
-
وفاة شاب بمركز أمني سوري تثير غضبا ومطالب بمحاسبة المتورطين
...
-
قافلة المساعدات الخامسة تدخل محافظة السويداء
-
استشهاد فلسطيني اختناقا بدخان حرائق أضرمها مستوطنون في سلواد
...
-
السويداء تستقبل القافلة الخامسة من المساعدات الإنسانية
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|