أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - فلسفة العمل















المزيد.....



فلسفة العمل


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 16:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون، الآية 105، سورة التوبة".
"حياة بلا عمل عبء لا يحتمل".
"عالج آفة الملل بكثرة العمل".
المقدمة:
العمل ليس المصدر الرئيس للدخل فحسب، وإنما هو أيضاً مصدراً في تقدير الذات ومنحها الإحساس بالسعادة، إذ بواسطة العمل ينتج المرء الحاجة ووسائل تلبيتها ويتعلم الضبط العقلاني لنشاطه الخاص، ويضع العمل الفرد بإزاء مقاومة الطبيعة، واجتماعياً يضعه بإزاء ما يحكم به الآخرين، لأن على العمل أن يلبي حاجة اجتماعية، وهنا لا نقصد بالعمل القيمة المطلقة فحسب، كشيء فطري في الخلق، وإنما نعني بالعمل ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المفصل، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق، فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية فهو لم يعد شغوفا بالفلسفة النظرية والتأملية الخالية من المعنى، بل إن العمل يعطي للأفكار قيمتها، وإشعاعها، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعي، وقد كان هذا طابع العمل في الحضارة العربية والإسلامية، بخلاف كثير من الحضارات السابقة، التي نظرت إلى العمل كشيء دنئ ومنحط، ولذلك أعلت من شأن الفكر وحياة التأمل وأعرضت عن حياة العمل والممارسة والتجربة بخلاف التوجه الإسلامي الذي دعا الإنسان إلى الاهتمام بالصناعات بقدر اهتمامه بتحصيل العلوم النظرية والسعي إلى فهم الكون والوجود فهماً عقلياً وروحياً.
العمل ظاهرة مرتبطة منذ القدم بتحقيق الحاجات الضرورية للإنسان وهي لم تستقر على حال، بل شهدت عدة تحولات، ففي البداية كانت المجتمعات القديمة تميز بين الحياة التأملية والحياة العملية وبين العمل الفكري والعمل العضلي وكانت تستهجن المجهود العضلي وتجعله من اختصاص العبيد، ولذلك فهي تقوم بطرده من دائرة العمل الناجح وكانت تنظر إلى العلم والمعرفة والتأمل على أنها الأعمال الحقيقية النافعة، لكن مع ظهور الحداثة وتفجر الثورة الصناعية أصبح مجهود الإنسان يمتلك قيمة تداولية في نظام الأجرة، وبدأ تقسيم جديد للعمل على أساس التسلسل والوظيفة واصبح كل عامل منشغل بصناعة معينة، لكن رياح العولمة عصفت بهذا التصور الكلاسيكي للعمل وأنهته إلى الأبد عندما استبدلت علاقات الإنتاج المادية بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال بواقع افتراضي جديد يكون فيه العمل لا مادياً أي مجرد وسيط رمزي يحقق التبادل ضمن سوق يتميز بالتحرر في كل شيء وتغطي بضائعه كافة أرجاء المعمورة وجميع الأسواق.
تعريف العمل:
العمل هو الفعل الذكي الذي يتناول به الإنسان المادة، والعمل هو ما يميز الإنسان عن الحيوانات في نظر الاقتصاديين، والعمل في حدود الإنسانية، جهد إرادي واعي تأملي، وهو من ضرورات البقاء بالنسبة للإنسان وتحقيق الاحتياجات الأساسية للعيش بصورة تليق به، ويعرف العمل في اللغة العربية، هو فعل فعلاً عن قصد، أي مارس نشاطًاً وقام بجهد للحصول على منفعة أو للوصول إلى نتيجة مجدية، وهو نشاط يحتاج بذل الجهد لتحقيق غاية أو نتيجة معينة، ويشير في الغالب إلى المهنة أو الحرفة التي يمارسها الفرد، والعمل اسم جمعه أعمال، وجذره الثلاثي عمل، أما اصطلاحاً فيشير العمل إلى أي واجب منتظم يقوم به الأفراد فكرياً أو بدنياً من أجل تنفيذ مهمة ما تتطلب جهداً متواصلاً أو مستمراً مقابل الحصول على أجر أو مكافأة مالية، ويعرف العمل في الاقتصاد على أنه أداء مهمات مقابل الربح المادي، وهو ركن أساسي من أركان الاقتصاد، ويعرف العمل في القانون بأنه يحمل معنى الخدمات المقدمة لقاء الحصول على أجر ولا يشترط أن يعمل العامل تحت سلطة وإدارة صاحب عمل فقط، فقد يعمل الفرد عملاً خاصاً لحسابه الشخصي، كما أن العمل هو أول حقوق الإنسان التي نص عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.(1)
مفهوم العمل:
العمل في بعده الاخلاقي والاجتماعي والاقتصادي يستهدف بناء الإنسان حضارياً، لا سيما تحريره من كل اشكال ومظاهر العبودية والتبعية والاغتراب، ويحمله على الانفتاح الحضاري الذي يربط ذاته ووجوده بثقافة التطور والتجديد والابداع، لذلك فإن كل ما توفره الحضارة للإنسان يتحرك في حدود العمل كمفهوم وكممارسة تنطوي تحتها سمات كل مشروع نهضوي يؤسس للاستثمار في عالم الافكار والاشياء، ويجعل من طبيعة التنمية المستدامة نموذجاً حضارياً يربط فلسفة العمل بمعادلة الصناعة وإنتاج الوعي الحداثي.
إن الحديث عن العمل كمفهوم وكممارسة هو ما يؤسس لثقافة الإنسان في تفاعله مع مشكلات الحضارة الغربية وما انتجته يده وفكره وكل ما يستهدف حاضره ومستقبله ضمن ثورات الحداثة وتحولات العولمة ورهاناتها العلمية وتحدياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم جاء العمل كمفهوم وكممارسة لكي يختزل تجربة الإنسان المعاصر وسيرورة وعيه في رسم المعالم الحضارية للحداثة لا سيما ثورة الاتصالات وعصر المعلومات الذي كشف عن أهمية العمل بجميع صوره ومجالاته التي تعكس نهضة التفكير البشري في عالم الفكر والمعرفة، فإنتاج الثروة وما تحمله تلك الانجازات والمشاريع من دلالات حضارية وتحولات تكنولوجية قد استوعبتها فلسفة العمل التي تنطوي تحتها علاقة الإنسان بالتنمية من جهة وعلاقته بمنظومة قيم الانفتاح الحضاري على العمل كمفهوم وكممارسة من جهة أخرى، فكل الثقافات والحضارات والأديان تتخذ من العمل وسيلة للتطور والتقدم لأحداث قطيعة مع التخلف والانغلاق والاغتراب الاجتماعي الذي تفرضه تلك التبعية الثقافية والاقتصادية، ومن هذا المنظور فإن المجال الحضاري الذي اختزل علاقة العمل بجدلية الحداثة والعولمة ينطلق من انتقال الإنسان من العبودية إلى السيادة واكتمل في ترسيخ القيم الحضارية والمجتمعية لفلسفة العمل.
أن اشكال ومظاهر التغيير والبناء ترجع إلى العمل الذي حمل كل من ديكارت وروسو وكانت وهيجل وماركس وهابرماس وغيرهم من الفلاسفة إلى الدفاع عن قيم العمل داخل فضاء التفلسف والتأمل لمعرفة الحقيقة وتحقيق الفضيلة، فرسالة الإنسان في هذا العالم تستهدف استعمال فكره وجسده لتحقيق ماهيته ووجوده، فالعمل فعالية إنسانية إلزامية موجهة إلى تحقيق أثر نافع ، أو يهدف إلى أن يصنع إنساناً وشيئاً في آن واحد، فقد تنبثق الحرية من العمل على حد تعبير هيجل، أو قد يتحقق الوعي الاجتماعي للعامل عند ماركس، أو قد تولد الحكمة من ممارسة التفكير الفلسفي كما عبر عن ذلك فيثاغورس وسقراط وافلاطون وغيرهم من القدامى والمحدثين والمعاصرين، وضمن مفردات فلسفة العمل ومعانيه استطاع الإنسان أن يعيش بلغة الأبعاد، فأنتقل من حيز الصراع من أجل البقاء ومن خلال توفير حاجاته البيولوجية كالمأكل والمشرب والمأوى إلى حيز تحقيق ماهيته وكينونته الثقافية والاجتماعية والاخلاقية، فأصبح كائناً فاعلاً وسيداً عليها من خلال ثورة العلم والمعرفة، وفي هذا الإطار أدركت المجتمعات البشرية قيمة العمل في مظهره الجسمي والفكري، وأن الطريق إلى النهضة والحضارة والحداثة يتحرك في نطاق هذا المعنى الذي استوعبه مجتمع المعرفة، لا سيما وأن تعليم الطفل كيف يفكر داخل البيئة هو حجر الاساس لفلسفة العمل من جهة، ورؤيته لمستقبل القيم والتنشئة الاجتماعية كمنتوج أخلاقي يجسد مشروع لإعداد لمستقبل المواطن الصالح كحتمية لقيم العمل ورهاناته لمواجهة تحديات الحداثة والعولمة من جهة أخرى، فالعمل هو الذي يحدد وضع الإنسان بالإضافة إلى الطبيعة، وبالإضافة إلى الآخرين، وإن دوره يقوم من جهة أولى، على تحريرنا من عتبة الوجود الطبيعي ليقودنا نحو عالم إنساني، ومن جهة أخرى فإنه يجعلنا نبلغ الحياة الاجتماعية، وعلى هذا النحو يشق العمل أمامنا درب الثقافة والتضامن الإنساني.(2)
العمل والعلم:
العمل هو مجهود إرادي واع يستهدف منه العامل إنتاج السلع والخدمات لإشباع حاجاته، ومن هذا التعريف يتضح لنا أن مجهود الإنسان بغير هدف لا يعتبر عملاً، ويحتاج العمل الناجح مجموعة من المعارف التي تتطلب تحصيلها تعليماً خاصاً تساعد في ادائه بطريقة صحيحة مناسبة لقبوله في المجتمع، وحقيقة العمل بالدرجة الأولى أنه نشاط يمارسه الإنسان وهي الممارسة التي تجعله مقترناً بالعلم، فلا عمل بغير علم، ولا علم بغير عمل، وانطلاقاً من هذا القول يتضح أن العلاقة بين العلم والعمل علاقة وطيدة، ذلك أن العلم لا يمكن أن يسير في الطريق الصحيح، ما لم يتقيد بعمل يدل عليه، ويصحح مساره، ويجعل نتائجه صادقة، ويمكن البشرية من الانفتاح به والعمل بغير علم لا وجود له، أو لا يمكن أن يوجد، فيبدوا أن العلاقة بينهما تكاملية، فكل واحد منهما يساهم في وجود الآخر وتفعيله، ويؤكد طه عبدالرحمن أن الذين يفصلون بين العلم والعمل، هم أولئك الذين يجرون مقابلة بين النظر والعمل بحجة وجود العلم النظري، وهذه الفكرة نجدها مبثوثة عند فلاسفة اليونان، الذين يفرقون بين الحياة العملية والحياة التأملية، وقد قسم افلاطون في جمهوريته المجتمع إلى طبقة الحكام، وطبقة الجنود وطبقة العبيد، وجعل الحكام يمثلون الحياة التأملية، كونهم فلاسفة والعبيد يمثلون الحياة العملية، كونهم وسائل للكسب.
العمل بدون علم قد يفسد كثير من الاشياء فلا بد من أن يصاحب العمل العلم فهما كنهران في مجراهما متوازيان، فأفلاطون على سبيل المثال يرى أن قليلاً من العلم مع العمل به أنفع من كثير العلم مع قلة العمل به، فالمأمول من هذا القول هو مراعاة اهمية العمل و النجاح فيه حيث أن لا فائدة من العلم بدون عمل، وهنا تقع مسؤولية جماعية ينبغي على الجميع النهوض بها وهو اعداد اجيال قادرة على تحقيق المكتسبات العامة والخاصة وفق ضوابط معينه للنجاح في العمل وهي:
ضرورة مراعاة ادارة ناجحة للوقت.
الرجل المناسب في المكان المناسب.
التطوير المستمر للمهارات.
ضرورة التشجيع وايجاد الحافز.
الحرص على سرعة وجودة الانتاج.
وعلى هذا الاساس فمن الضروري أن يشعر العامل بأن له اهمية في مكان العمل وأن يعي أن باستطاعته أن يتجاوز التحديات بحزم وقوة وكفاءة ليتولد لديه الرضا النفسي والعملي الذي سيولد له الاطمئنان والسعادة ليكون عنصراً فاعلاً ومتميزاً ذو شخصية منتجة ومتحرره.(3)
العمل في الفكر الفلسفي:
يبدو أن الاهتمام الفلسفي بالعمل يزداد عندما تبدو ترتيبات أو قيم العمل في حالة تغير مستمر، على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة ازدياداً في وتيرة البحث الفلسفي حول العمل، وهي جهود مدفوعة جزئياً على الأقل بتصورات تفترض أن مفهوم العمل يعاني من أزمة، إذ لا يزال التفاوت الاقتصادي في المجتمعات التي تتمحور حول العمالة في ارتفاع، ويبدو أن الأتمتة التكنولوجية في طور محو الوظائف وتبشر بعصر من البطالة المرتفعة بشكل متزايد، ويبدو أن عدم الرضا عن جودة العمل في الوظائف الحالية في تزايد، وقد ربط العديد من الفلاسفة قيمة العمل ارتباطًاً وثيقاً بجوانب مختلفة من العقلانية البشرية، على سبيل المثال، أكد الفلاسفة مثل أرسطو على قدرة العمل على السماح لنا بإتقان أنفسنا من خلال تطوير وممارسة إمكاناتنا العقلانية الكامنة بطرق جديرة بالاهتمام، و في هذا السياق، يعد العمل ساحة مركزية لتحقيق طبيعتنا البشرية عبر حياتنا ، و يتفق الماركسيون عادة على أن العمل يسمح لنا بتطوير وممارسة قدراتنا العقلانية، لكن تكمن قيمة العمل أيضاً في الكيفية التي يمكننا بها من جعل تلك القدرات العقلية مرئية من خلال نقلها إلى العالم الطبيعي الملموس، ولولا ذلك لبقي الجهد البشري غريباً عنا، ومن ثم بالنسبة للماركسيين فإن العمل إنما تعبير عن طبيعتنا النشطة، وطريق لتحقيق الذات بقدر ما يخلق العمل منتجات تجسد الإرادة البشرية، وهكذا يمثل العمل ثقلاً مناهضاً لسمة الاستهلاكية السلبية التي تتسم بها المجتمعات الحديثة، ويلاحظ أن الاهتمام في العمل وجد في الكثير من الحضارات والفلسفات، وذلك لدوره الفاعل في قيام الحضارة، ومن الأمثلة على ذلك:
_الفكر الكونفوشي، أثرت الكونفوشية في منهج حياة الصينيين، وحددت لهم أنماط الحياة وسلم القيم الاجتماعية، فعلى سبيل المثال يحتضن الفكر الكونفوشي العمل الجاد والمثابرة والحفاظ على العلاقات المهنية، والتوافق مع القيم التنظيمية.
_الفلسفة الهندية، تنظر إلى العمل كواجب يجب أن يتم دون ارتباط بنتائجه أو ثماره وهو المبدأ الذي يعرف بـ كارما(تعني العمل أو المصير أو الفعل، وهو مفهوم أخلاقي في المعتقدات الهندوسية والبوذية ، ويشير إلى أن النوايا والأفعال الفردية تؤثر على مستقبل الفرد، فالعمل الخير يسهم في إيجاد الكارما الجيدة والسعادة في المستقبل، والنية السيئة والفعل السيئ يسهم في إيجاد الكارما السيئة والمعاناة في المستقبل، و هذا الاتجاه يشجع الافراد للتركيز على فعل العمل نفسه بدلا من المكافأة التي يجلبها).
_الفلسفة البوذية، تؤكد على فكرة سبل العيش الصحيحة، فالعمل يجب أن لا يؤذي الاخرين ويجب أن يكون تعبيراً عن العطف والحكمة، وهذا المنظور يدعو الى التفكير بالأبعاد الاخلاقية للعمل.
_افلاطون(427 ق.م - 347 ق.م)، ذكر أفلاطون في كتاب الجمهورية أن تعدد حاجات الإنسان لا يمكن أن يحققها وحده فيفرض عليه العيش داخل جماعة من البشر، وحتى يتم تحقيق ذلك يرى أفلاطون أن هناك سبيلان: أن يقوم كل فرد بإنجاز الأنشطة المترتبة عليه، أي يقوم على تخصص كل فرد من أفراد المجتمع في نشاط من هذه الأنشطة، حيث يخصص لها كامل وقته وهذا هو ما يسمى بالتقسيم الاجتماعي للعمل، ويمثل تقسيم العمل عند أفلاطون مسألة ضرورية لثلاثة أسباب على الأقل: السبب الأول هو أن لا يملك جميع الناس نفس المهارات والكفاءات، وهذا ما يجعل الناس مكملين لبعضهم البعض، والسبب الثاني أن التخصص يؤدي إلى المهارة وتحسين الإنتاج، والسبب الثالث هو أن التخصص يجنب إضاعة الوقت عند الانتقال من عمل لآخر، وقد جادل أفلاطون بأن مثل هذا التقسيم للعمل سيضمن أن المهام الأساسية لازدهار المدينة سوف يقوم بها أولئك الأكثر قدرة على القيام بها، وفي اقتراحه أن المجتمع العادل يجب أن يهتم بكيفية أداء العمل ومن يقوم به، وقد اعترف أفلاطون بمركزية العمل في الحياة الاجتماعية والشخصية.
_ارسطو(384 ق.م - 322 ق.م)، يرى ارسطو أن العمل يؤدي إلى توفير أسباب السعادة لأفراد المجتمع، وهذه الأسباب ذات طبيعة مادية ومعنوية، حيث إن الطبيعة تميل إلى إيجاد التمايز بين البشر فتجعل بعضهم قليل الذكاء وبعضهم أقوياء البنية وهكذا، وينتج عن ذلك أن البشر في تمايزهم واختلاف قدراتهم يؤدون وظائف مختلفة تصل إلى البناء المجتمعي أو كما يسميه الفلاسفة أعلى وحدة مجتمعية وهي المدينة، فعند ارسطو العمل المنجز لأجل المعيشة، هو ليس فاضلاً بطبيعته، أنه ببساطة وسيلة لغاية، لكن العمل الذي يساهم في رفاهية الجماعة، يعتبر فاضلاً لأنه يخدم اهدافاً عليا، ومن جهة اخرى، اعتبر ارسطو أن إدارة المنزل هو شكل العمل الاكثر فضيلة، وبذلك فلسفة ارسطو تدعونا لإعادة التفكير بهدف ومعنى العمل، فهي تشجعنا للنظر إلى العمل كوسيلة للمساهمة في المجتمع ، بدلاً من النظر إليه فقط كمصدر للدخل، وهذه المبادئ لها تأثيرات عميقة في عالم اليوم حيث العمل وتراكم الثروة عادة ما ينظر إليهما كمعيار رئيسي للنجاح.
_العمل في الاسلام، لم يقتصر عمل الأنبياء والرسل للدعوة إلى عبادة الله(جل جلاله)، بل عملوا في مهن دنيوية كسائر البشر للإنفاق على أنفسهم وذويهم، باعتبار العمل والاجتهاد جزء من تعمير الأرض الذي أمرنا به الله(جل جلاله)، وهذا العمل لم يكن مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل كان أيضاً وسيلة لترسيخ القيم والأخلاق في المجتمع، ونشر رسالة الدين بين الناس، فعلى سبيل المثال عمل النبي محمد(ص) في بداية حياته في رعي الغنم مع عمه أبي طالب، ثم عمل في مهنة التجارة بعدما طلب من عمه أبي طالب وهو في سن 12 من عمره أن يصحبه معه في تجارته إلى بلاد الشام، وعمل النبي موسى(ع) في رعي الاغنام ، ثم عمل في التجارة وأيضاً الكتابة، وكذلك النبي شعيب(ع) عمل في مهنة رعية الأغنام، وعمل النبي آدم(ع) في مهنة الزراعة، والنبي زكريا(ع) عمل في مهنة النجارة، والنبي إدريس(ع) عمل في مهنة الخياطة، كما عمل النبي إبراهيم والنبي لوط(ع) بمهنة الزراعة، والنبي نوح(ع) عمل في النجارة، والنبي سليمان(ع) كان أول من عمل في صناعة الصابون، أما النبي داود(ع) عمل في مهنة الحدادة، والنبي عيسى(ع) عمل بمهنة الطب، والنبي يوسف(ع) عمل وزيراً للمالية ، وهو منصب يتعلق بالأموال، والتخزين والتوزيع، لقوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، الآية55، سورة يوسف)، وبذلك العمل قيمة انسانية وحضارية كبيرة تعبر عن مدى ثقافة الفرد والمجتمع فمن غير الممكن أن يتخير الإنسان ما بين أن يتمتع برغبات الحياة وما بين تركه للعمل، فالحياة بدون عمل تصبح مملة وبلا طعم كون الإنسان ينتابه شعور بالسطحية والهامشية، وهذا ينافي الفطرة الانسانية، فالإنسان خليفة الله(جل جلاله) في الأرض وما من خليفة إلا وله عمل ومهام عليه القيام بها ،فالعمل فطرة اوجدها الله(جل جلاله) في الإنسان وفقدانها قد يسبب له الكثير من المتاعب خصوصاً في علاقاته الاسرية والعاطفية فمن اصعب الأشياء التي قد يكابدها الإنسان في حياته هي عدم وجود العمل، فالعمل هو المرآة التي تعكس القيمة الحقيقية للإنسان كما اوضح أمير المؤمنين (ع) حين قال: ( قيمة المرء ما يحسنه)، وعليه فأن الإنسان العامل ملزم بتطوير قدراته وتحسين مهاراته لكي يقدم الافضل لنفسه وللمجتمع بشكل عام، ولكي لا يتساوى يوماه كما قال امير المؤمنين (ع ) ( من تساوى يوماه فهو مغبون)، كما أن للعمل أرباب يجب عليهم انتخاب اشخاص ملائمين للاختصاص المقدر لهم كما قال الله تعالى :(قل يا قوم اعملوا على مكانتكم، من الآية 135، سورة الانعام).
يعتبر العمل واجباً إسلامياً على كل فرد، حيث أن قواعد الإسلام، وسلوك الأنبياء والصالحين تشير إلى وجوب العمل في مختلف أشكاله، فقد حث القرآن الكريم في العديد من السور والآيات إلى العمل الجماعي بين المسلمين، وقد اهتم الرسول(ص) بالعمل الجماعي أثناء قيام الدولة الاسلامية، وتوزيع الأدوار بين الصحابة والحث على التعاون والآخاء بين المسلمين وغير المسلمين، فالعمل الجماعي ينمي من الشخصية الإنسانية ويساعد على سرعة انجاز المهام بسرعة ودقة كما يسمح بعمليات تقويم اعضاء الفريق بعضهم البعض بشكل مستمر، وقد كان الإمام علي(ع) يساعد الصحابي ميثم التمار في بيع التمر، وهو كان رئيس الدولة في وقتها، والإسلام حذر من البطالة ونهى عن الكسل والتواكل، لأن الاسلام جعل العمل عبادة، فكل قادر على العمل عليه أن يأخذ مكانه في صفوف العاملين، ولا يحل لمسلم التكاسل عن طلب رزقه بحجة التفرغ للعبادة، وتحرم البطالة ولو كانت عن ظهر غنى، لا سيما إذا كان المجتمع محتاجاً لعمل هذا الشخص فهو ببطالته يضيع طاقة إنتاجية المجتمع وهو بحاجة إليها، ويعتقد بعض المفسرين للقرآن الكريم أن الله( جل جلاله) وضع الإنسان خليفة له في الأرض كحافز قوي لعمارة الأرض واصلاحها، وقد ذكر الكثير من الآيات تدل على العمل" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى ،الآية 39_40، سورة النجم" وقوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، من الآية 11، سورة الرعد"، وقوله تعالى:" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون، الآية 105، سورة التوبة". ونهى القرآن الكريم عن القصور والكسل، وجعل الأجر على قدر العمل، " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، الآية 7_8، سورة الزلزلة"، ولقد رفع الإسلام العمل إلى مرتبة سامية حيث قرن العمل بالإيمان فقال تعالى" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ، الآية 30، سورة الكهف" ، وبذلك الإسلام حث على العمل، وحفظ كرامة الإنسان من خلال العمل، وقد أوجد الدافع الذاتي لدى الإنسان للعمل وجعل السعي إلى الرزق عبادة تكفر بها الذنوب، و نهى عن السؤال والعيش عالة على الغير، وربط الرزق بالسعي، وجعل من مسؤولية الحاكم أن يوفر فرص عمل لرعيته, يقول رسول الله(ص) " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".(4)
_آدم سميث(1723_1790)، يكتسب موضوع العمل أهمية بالغة في فلسفة آدم سميث، حيث يعتبره أساس كل ثروة، حتى بالمقارنة مع ما تمنحه لنا الطبيعة مما تزخر به من كنوز في باطنها وظاهرها، ذلك أنها تبقى موارد أولية لا تلبي احتياجات البشر دون تدخل إنساني يعيد تركيبتها بما يتوافق مع حاجات البشر ومبتغاهم، لذلك يبدأ سميث في كتاب "ثروة الأمم" بعباراته التي توضح وعيه الشديد بأهمية العمل في حياة الأمة، فجميع المنتجات التي يستهلكها المجتمع، أما أن تكون نتيجة العمل المبذول على الصعيد الاجتماعي، أو نتيجة مبادلة ما أنتجه العمل الاجتماعي في هذا المجتمع بما أنتجه العمل كذلك في مجتمع آخر، ويرى سميث أن العمل السنوي الذي يقوم به كل شعب هو الرصيد الذي يمده بكافة ضروريات الحياة وكمالياتها مما يستهلكه كل سنة، وتكون دائما أما من النتاج المباشر لذلك العمل، أو مما يشتريه ذلك الناتج من الخارج، وقد كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الفكر الاقتصادي الأوربي التي أكد فيها سميث على أن العمل الإنساني هو مصدر الثروة الحقيقية للأمة، وهي العبارة التي أحدثت انقلاباً جذرياً في دراسات الاقتصاد السياسي في العصر الحديث، وأيضاً يؤكد على أن الثروة التي تنتج بكل اختلافاتها ترجع إلى العمل بالأساس، وليس إلى قوى الطبيعة كما كان سائداً في الفكر الاقتصادي السابق عليه، أما الثروة تتعاظم طبقاً لنوعية العمل الذي يقدمه أفراد الأمة وهو يكمن في العلاقة بين العمل الكلي وحجم السكان.
_هيجل(1770_1831)، يمكن عد الفيلسوف الألماني هيجل، واضع أول تصور فلسفي للعمل، اذ منحه أهمية قصوى، وأصبح بالنسبة له أحد الأشكال الأساسية للعلاقة مع الذات والعالم، فضلاً عن كونه نشاطاً اجتماعياً في حد ذاته، وهو يؤكد في الفصل الرابع من فينومينولوجيا الروح على أن العمل هو لحظة أساسية للحرية الحقيقية على حد سواء، لأنه يساهم في إنتاج عالم يمكن فيه جعل الحرية فاعلة، ورأى أن العمل جوهر الإنسان، ففيه يؤكد ذاته حين يعارض الموضوع، وبه يتحرر حين يتغلب على الموضوع، فالحياة الأخلاقية عنده، كما يعرضها في "فلسفة الحق" تتكون من ثلاث لحظات: العائلة، تلك الوحدة المؤسسة على الشعور وعلى الحب، ولا يعي المرء فيها فرديته، فهو عضو في هذه الوحدة، ومن ثم المجتمع المدني البرجوازي، ويظهر كتطور للعائلة، إنه لحظة التمايز الذي يتغلغل في العائلة، وهنا الشخص المتجسد، يصبح غاية لذاته، ونقطة الإنطلاق هي الحاجة وتلبيتها في الصلة مع أشخاص آخرين، والدولة هي التحقق الفعلي للحياة الأخلاقية، وهي شرط المجتمع المدني البرجوازي، وضامنة للأفراد إمكانية متابعتهم لأهدافهم الخاصة، وينقسم المجتمع المدني البرجوازي بدوره الى ثلاث لحظات: نظام الحاجات، فالفرد يلبي حاجاته بواسطة العمل وبواسطة عمل الآخرين، ولهذا تبرز الحاجة الى نظام، و حماية الملكية من خلال الإدارة والتشريع، والتنظيم العقلاني للمجتمع، أي الشرطة وغيرها من الأمور.
_كارل ماركس(1818_1883)، يكاد الحديث عن تناول الفلسفة لمسألة العمل يكون مرتبطاً، بشكل كبير، باسم ماركس، أشهر الفلاسفة الذين خصصوا جزءاً واسعاً من تجربتهم للبحث في معنى العمل، وجهد العامل، والمال، والربح، فقد انتقد عبودية العامل والتي تنشئ من التشيؤ، فالعامل يصبح عبد الشيء الذي انتجه، وكلما انكب العامل على العمل غدا العالم الغريب المفارق الذي يخلقه أمامه عالماً اقوى وصار هو وذاته أفقر وتضائل باطراد امتلاكه عالمه الداخلي، وبقدر ازدياد عالم الاشياء اهمية وغنى يفقد العامل من قيمته الإنسانية، فهو مضطر بالتضحية بحياته لصالح قوى غريبة، وينجم عن ذلك حرمانه جميع صفاته الإنسانية ويعامل في نهاية الأمر مجرد قوة فيزيائية، وينعكس هذا التدهور الكلي في تثبيت الأجور، فعوضاً عن أن يترجم الأجر القيمة الحقيقية للعمل المبذول تجده يتحدد حصراً بحسب ضرورات العامل الحيوية، أضف إلى ذلك أن العمل لن ينظر إليه بوصفه فاعلية إنسانية، بل باعتباره خسارة المرء من ذاته، ويصبح من المتعذر إدراك دلالة العمل العميقة المائلة في اكتشاف الإنسان من خلال آثاره، ويرى ماركس أن انجاز الإنسان الحقيقي يكمن في العمل غير المغترب حيث العمال يمكنهم التعبير بحرية عن امكاناتهم الابداعية، فالاغتراب هو حالة من التفاوت بين الذات وما يتحقق منها، فتعلن عن فقدان الذات لذاتها، لاسيما وأن العامل يكون المنتج من جهة والغريب أمام ما ينتجه من جهة أخرى، في حين أن التشيؤ يتمثل في أن الزيادة في قيمة عالم الأشياء قد حول الإنسان من مرتبة الصانع للأشياء إلى مرتبة المتماهي معها، أما التموضع فيعني أن الذات لم تعد تنتج ذاتاً تعي ذاتها، بل تحولت إلى موضوع فاقد قيمة ما يصنع بفعل التكرار الدائم لنفس العمل، فيصبح العامل سلعة تزداد وضاعة بقدر الزيادة في خلق السلعة، وكلما زاد فقر العامل وتعاظم فقر عالمه الداخلي إلا وحل ما يملكه بشكل خاص.
ناقش ماركس مقولة العمل و رأى أن العمل لا يحدث إلا في شكل نشاط للحصول على أجر، ولا يجد العامل اعتباراً له حين لا يعمل ، وكي يطور الإنسان نفسه روحياً، لا بد له في عرف ماركس من أن يحطم عبوديته لحاجاته الجسدية، ويعتبر أن الفارق كبير بين أن يعمل الناس من خلال الآلات وبين أن يعملوا كالآلات لذا، ما يرومه هو تحرير العمال المغتربين عن نتاجات عملهم، أي أن مشكلته هي مع الشكل الرأسمالي من العمل وليس مع العمل في حد ذاته، لذا نجده يناضل من أجل طبقة العمال والدفاع عن حقوقهم الطبيعية، لأنه يرى أن الرأسمالية جردت العامل من كونه إنساناً، وتعاملت معه كأحد عوامل حركة الاقتصاد، فتحولت الطبقة العاملة إلى طبقة مهملة اجتماعياً وغير قادرة على الحصول على ابسط حقوقها، لذلك دعى الطبقة العاملة بأن تقوم بعمل ثوري لإسقاط الرأسمالية وتحقيق التحرر الاجتماعي والاقتصادي.(5)
_البراجماتية، الفلسفة البراجماتية ليست مجرد تيار فلسفي ظهر في لحظة تاريخية محددة، بل هي انعكاس لتغيرات جذرية في بنية التفكير الإنساني، حيث انتقلت الفلسفة من الاهتمام بالميتافيزيقيا المجردة والبحث عن حقائق مطلقة، إلى التركيز على الأثر العملي للأفكار ومدى فاعليتها في مواجهة التحديات اليومية، فهي الفلسفة التي نسجت خيوطها من نبض الحياة الواقعية، لتصبح منهجاً يرتكز على التفاعل بين الفكر والتجربة، وبين النظرية والتطبيق، وبين الحاضر والمستقبل، ومن مبادئها الاساسية، أن الحقيقة ليست مطلقة بل متغيرة وفقاً للسياق والتجربة، ولا تعرف الحقيقة بمفهوم مجرد أو نظري، بل بما يثبت نجاحه عملياً، أما الفكر ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لحل المشكلات وتحقيق الأهداف، والقيمة الحقيقية لأي فكرة تعتمد على تأثيرها العملي، فالفكر يقيم على ما تحدثه من نتائج مفيدة أو ضارة، لذلك تدعوا البراجماتية إلى تبني منهج علمي وعملي في التفكير، وإلى تبني سياسات مرنة تستجيب لاحتياجات المجتمع.
_فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل ميشيل فوكو(1926_1984) و جان بودريار(1929_2007)، يقدمان رؤى ثمينة للديناميكية المعقدة للسلطة والمعرفة والعمل، إذ يعتبر فوكو العمل كوسيلة لممارسة السلطة، كونه يساعد من خلال التأديب والسيطرة على الأجسام، وتشكيل عادات الطاعة التي بالنهاية تجعل من الأفراد كأشخاص منقادين، أما تحليلات بودريار لثقافة المستهلك تؤكد على تحول العمل والانتاج في مجتمعات ما بعد الصناعة، فالعمل والانتاج في هذه المجتمعات اصبح محاكاة منفصلة عن اهداف المجتمعات الاصلية في اشباع حاجات الناس، وهدف العمل اصبح بشكل متزايد مبهماً ووهمياً عندما انخرط بالطبيعة المفرطة لثقافة المستهلك.
_أكسل هونيث(1949_)، فيلسوف ألماني بارز، قدم مساهمةً فكرية متميزة في فلسفة العمل، ويرى أن مفهوم العمل لم يكن ينظر له بالتقدير قبل النظرية السياسية الحديثة، وقد ربط في البداية بالاشتغال على الأشياء وحدها، على حساب أنواع العمل الأخرى من زراعة الأرض واقتصاد خدمات وتدبير منزلي، لكن مع لوك ومن بعده هيجل وماركس، أصبح ينظر للعمل بمفهومه الواسع مشيراً إليه بوصفه تحققاً للذات من خلال تعلقها بالموضوع وتصرفها فيه بما يفضي في نهاية المطاف إلى وعيها بنفسها، إذ سيطر هذا التصور الإنتاجي للعمل على الفكر الفلسفي والاجتماعي، وغدا العمل الصناعي هو الوجه الوحيد للشغل، كما نظر هونيث إلى الطبقة العاملة بوصفها محرك التاريخ والقوة الثورية القادرة على إحداث التغيير الجوهري للمجتمع، لكن الدراسات الراهنة بينت بوضوح أن الثورة التقنية الجديدة قوضت المفهوم التقليدي للعمل وأخرجته من نموذجه الصناعي المادي إلى مجالات الذكاء الاصطناعي والشغل غير المادي، وبالاستناد إلى أطروحته التقليدية حول الاعتراف، يدعونا هونيث إلى النظر إلى العمل في سياق العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وبما يقتضي معالجته من منظور القيم والأخلاقيات العمومية المشتركة وليس من جوانبه الإنتاجية النفعية وحدها، ويرى هونيث أن الديمقراطيات الغربية الحديثة كرست سيادة المواطن باعتباره ذاتاً قانونية تتمتع بحقوق سياسية ثابتة في مقدمتها حق الانتخاب، لكن المواطن هو أيضاً عامل، ويتعرض في أحيان كثيرة للاستغلال والتنافس اللذين يحدان من السمة التعاونية للمجتمع، فلم يعد من المجدي اليوم الرجوع لنظرية الاستلاب الماركسية التي أرادت إضفاء الطابع الأخلاقي العقلاني على نمط العمل الاجتماعي، ولا نظرية الاستقلالية الليبرالية التي حاولت محاربة التحكم السلطوي في حرية الفرد العامل، بل المطلوب هو ملاءمة طبيعة العمل مع الفكرة الديمقراطية نفسها بما تتأسس عليه من معايير الثقة في النفس والمعرفة والكرامة، وفي هذا السياق، يحدد هونيث خمس قيم مرجعية لإعادة تصور العمل في المجتمعات الليبرالية المعاصرة هي: الاستقلالية الاقتصادية، وتوفير الفسحة الزمنية للفراغ، والمشاركة في المجال العمومي، وتطوير نظام العمل بما يكفل حقوق المشاركة والتعاون بين العامل ورب العمل، ومنح العمل الطابع الفكري الثقافي الذي يخرجه من محض الخضوع والتبعية، وبذلك يعرف العمل بأنه كل أنماط الفاعلية داخل منظومة اجتماعية حركية ومتعاونة، بما يتعارض مع طغيان النزعة التجارية النفعية التي قضت كلياً على الفوارق الضرورية بين المنتجات المادية والخيرات الرمزية والإنسانية.
_جاك أتالي(1943_)، يقر المفكر الفرنسي أتالي ، بأن مستقبل العمل سيتخذ أشكالاً جديدة ووقتاً أقل وسيتطور في رأيه عدد كبير من المهن المرتبطة بالدفاع عن البيئة كمراقبة التبذير واقتصاد الطاقة وخلق طاقات مستقبلية، وتطويع أدوات البناء الجديدة، والتعامل مع سيارات مبتكرة، وإجمالاً سيكون من الصعب التمييز بين العمل والاستهلاك والتسلية والتأهيل، وسيزيد تعميم استعمال الرجل الآلي (الروبوت)،ولا سيما استعماله في مصانع العالم ملغياً بذلك ملايين الوظائف، ولكن في المقابل، ستكون هناك حاجة لعدد كبير من الفنيين لتشغيل وصيانة الرجال الآليين، والمهن التي ستكون الأكثر طلباً في السنوات القادمة، ستكون مهناً معلوماتية، مثل: هندسة المعلومات وخدمات دعم المعلوماتية، وتحليل النظم، ومديرو قواعد البيانات، وأخصائيو الإنتاج المتابع بالكومبيوتر، وسيزيد عدد العاملين في العالم الافتراضي، ويمكن أن يتساوى عددهم مع عدد العمال الحقيقيين، وستعرف خدمات القطاع العام توسعاً هائلاً، لذا فإن أعمال الخدمات في مجالي الصحة والتعليم ستصبح آنذاك وفي شكل مضطرب، وظائف غير مستقرة ومتنقلة على غرار الأعمال الصناعية، وسيقود التطور الصحي إلى زيادة في الأعمال وارتفاع عدد المسنين، وبيئة العمل المستجدة هذه سوف تسهم في تفسخ الروابط العائلية، وسيقود التحول الكبير في المعرفة والسكان والمهن إلى تحويل جذري في تنظيم العمل، حيث ستنمو الشركات الصغيرة، وتزيد وتيرة الاختراعات والإنتاج والتسويق، كما سيتطور العمل خارج جدران المكاتب، ويزدهر "تلفاز العمل" و"فيديو الندوات"، وستشعر الشركات بعدم الحاجة إلى مقرات مستقرة، وتصبح من الرحل وافتراضية ومتنقلة تعمل بعقود عمل مؤقتة، ولذلك ستكون هذه الشركات عبارة عن تجمعات مؤقتة مكونة من عمال رحل، أو نوع من التجمعات الدائمة لقبائل من العمال الرحل، وفي الحالتين، سيصبح وضع الأجراء هشاً ومتقلباً أكثر فأكثر، وعلى مدراء الشركات التجارية الكبيرة أن يديروا العملية الإنتاجية بطريقة مرنة جداً، كما ستكثر هجرات العمل، وسينتقل إجمالاً هؤلاء المهاجرون من الأرياف باتجاه المدن داخل البلد نفسه، حيث ستصبح المدن ذات غالبية ذكورية، في حين تكون الأرياف ذات غالبية أنثوية، كما تكثر الهجرة من الجنوب إلى الشمال، وسيعملون في الوظائف الأكثر مشقة، التي تتطلب مجهوداً كبيراً، وسيشتد في المستقبل التنافس على المواهب، ليصبح أكثر حدة وأكثر مهنية وأفضل تنظيماً، ويتوقع أتالي أن تزداد المهن الهامشية، ومع ضعف الدول، تضعف قدرة العمال وممثليهم التفاوضية جراء تحرير الأسواق المالية وحركة رؤوس الأموال، وتتفتت عمليات الإنتاج الى وحدات صغيرة مبعثرة جغرافياً، ويدعوا أتالي إلى الإعداد لمهن المستقبل من خلال التأهيل المستمر والتعلم مدى الحياة كي نبقى "قابلين للعمل"، وعلى الفرد أن يتعلم أحياناً بنفسه، بما هو متاح على الشبكة العنكبوتية، ويبقى عصامياً مدى الحياة، والخلاصة أنه بعد ثلاثين سنة، لن يشبه العمل، في أي حال من الأحوال، ما هو عليه اليوم.
_اليابان، يعد العمل في اليابان من أهم اسباب التقدم والتطور، فالشعب الياباني من أكثر الشعوب عملاً، فالياباني يقدس العمل ويقضي فيه أوقاتاً إضافية حتى دون الحصول على أجر أضافي، فالإنسان في المجتمع الياباني هو الاساس في التطور الاقتصادي فمهما صغر حجمه ومركزه فهو صاحب رسالة يؤديها بإخلاص لتحقيق الانتصار الاقتصادي لمؤسسته ومن ثم لوطنه، ويتميز الشعب الياباني بقوة الإرادة والمهنية والإخلاص والانضباط في العمل، فالعمل عندهم ثقافة خاصة وفلسفة عميقة يتحلى بها العامل الياباني من جهة والمؤسسات والشركات من جهة أخرى، فتقوم فلسفة العمل عند اليابانيين على قاعدة أن العمل جزء من عقيدتهم الدينية، لذلك فالعامل الياباني يشعر براحة شديدة وانجذاب نحو العمل بشكل هيستيري، هذه الوضعية تسببت في خلق فجوة كبيرة بين الحياة العملية والحياة الخاصة لليابانيين وأثرت على الإنتاج، الأمر الذي دفع بالحكومة اليابانية إلى تبني سياسة جديدة أطلق عليها "إصلاح نهج العمل"، وتهدف إلى مواجهة ظاهرة الموت من كثرة العمل.
العلاقة بين الموظف الياباني والشركة علاقة عميقة تمتد جذورها لتشمل الاهتمام الكبير بالعامل وتوفير مستلزمات الحياة الضرورية، فالعامل هو الحجر الأساس في نجاح الشركة وتطورها، ومن جهة أخرى الشركات اليابانية اخترعت وسائل متعددة للحفاظ على عمالها أوقات الأزمات، حيث تخضع هذه الشركات عمالها للكثير من البرامج التدريبية وتقدم لهم المكافآت كلها، هذا مقابل إخلاص ووفاء من العمال لمؤسستهم حيث يعتبر هؤلاء نجاح المؤسسة وسام شرف لهم وهدف من أهدافهم النبيلة التي يطمحون إلى تحقيقها، ويخضع العمال لبرامج تكوينية وتدريبية بشكل دوري لتنمية وتطوير مهاراتهم وزيادة إنتاجيتهم، وتطور العلاقة بين الشركة وعمالها لتشمل كافة مجالات التكوين والتدريب والرعاية حيث تحرص أغلب المؤسسات اليابانية على توفير خدمة خاصة بالصحة النفسية، وتوفر هذه الوحدة استشارات دورية في مجال التربية النفسية لموظفي المؤسسات حرصاً على بقاء الموظف قادراً على تحمل مسؤولياته تجاه المؤسسة التي هو جزء منها، وفي مقابل خدمات الشركة ومسؤولياتها يتصف العامل في اليابان بمجموعة من المميزات والصفات التي غرست فيه منذ الصغر والتي تقدس العمل وتجعله جزءاً من عقيدته، أولى تلك المميزات حب العامل لوظيفته فهذا من أسباب نجاح العامل والمؤسسة إضافة إلى الإخلاص والمهنية والالتزام والانضباط في احترام قوانين المؤسسة والحرص الدائم على نجاح أهدافها، فالعامل الياباني يشعر بأن نجاح المؤسسة في تحقيق مكاسبها هو نجاح له، هذه الفلسفة في العمل وهذه الثقافة التي يتحلى بها العامل الياباني هي التي ميزت المنتجات اليابانية وصنعت نجاح منقطع النظير للشركات اليابانية التي ذاع صيتها في أنحاء المعمورة، وأيضاً حينما تواجه الشركات أزمات مالية فإنها لا تلجأ إلى طرد العمال وتقليص الرواتب وغير ذلك من إجراءات التقشف التي تفرضها المرحلة، بل تعمل على مواجهتها بخلق بدائل وظيفية جديدة داخل الشركات، وهذا الإجراء هو جزء مما يعرف بالاحتياط التعبوي لمواجهة الأزمة حيث يتم تحليل وضع الشركة وتحديد نقاط الضعف ومكامن الخلل، وتكون هناك حلول جاهزة لتنفيذها وقت حدوث الأزمة، ولأن الشركات تراهن على قوة واجتهاد عمالها من أجل تحقيق السبق في السوق، فغالباً ما تلجأ هذه الشركات إلى اختراع وسائل متعددة للاحتفاظ بعمالها وقت الأزمات.
الهوامش:
1_ينظر هنري ارفون: فلسفة العمل، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت، ط2، 1989، ص53_56_73.
2_ينظرجلول بن طرات: فلسفة العمل وتجليات البناء الحضاري للإنسان بين الانتاج والانغلاق، سلسلة الأنوار، المجلد13، العدد2، الجزائر، 2023، ص71_72_73_74. وينظر أيضاً هنري ارفون: فلسفة العمل، ص100.
3_ينظر سفيان عمران: فلسفة العمل عند طه عبدالرحمن من خلال كتابه سؤال العمل( بحث في الأصول العملية للفكر والعلم، نحو رؤية اسلامية لمفهوم العمل)، مجلة قبس للدراسات الإنسانية والاجتماعية، المجلد3، العدد1، الجزائر، ص464_465.
4_ينظر آية مدحت علي أحمد: فلسفة العمل الجماعي في القرآن والسنة منظور تربوي، مجلة كلية التربية_ جامعة عين الشمس، العدد47، الجزء3، مصر، 2023، ص52.
5_ ينظر هنري ارفون: فلسفة العمل، ص101_102.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسة في أسس النهضة اليابانية
- الحكم المدني في فلسفة جون لوك
- رائد الفيزياء الحديثة العبقري أينشتاين
- عراب النضال السلمي غاندي
- سقراط الجديد جبريل مارسيل
- الرجل الثاني في الإسلام وصوت العدالة الإنسانية، أمير المؤمني ...
- مفهوم الميتافيزيقا
- الظاهرة العبثية الإلحاد
- الاقتصاد في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- النظام الاجتماعي في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- العالم الذي قهر الإعاقة ستيفن هوكينج
- مفهوم الهوية في فكر عبدالجبار الرفاعي
- فرسان العراق في حرب 6أكتوبر
- مفهوم الولاء في فلسفة جوزايا رويس الأخلاقية
- المعوقات الاجتماعية لمشاركة المرأة العربية في صنع القرار الإ ...
- الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي
- موقف عبدالجبار الرفاعي من التربية
- موقف عبدالجبار الرفاعي من الاستبداد
- الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي
- عبدالجبار الرفاعي سيرة وفكر


المزيد.....




- -قوي ومنسق جيدا-.. رئيس وزراء باكستان يعلق على رد بلاده على ...
- جاريد كوشنر مستشارًا لإدارة ترامب في جولته إلى الشرق الأوسط ...
- ترامب سيعترف بالدولة الفلسطينية أثناء زيارته للشرق الأوسط (إ ...
- ثلاث حقائق عن لعبة GTA 6
- محادثات صينية-أميركية في جنيف لمحاولة احتواء الحرب التجارية ...
- الخارجية الهندية: وقف إطلاق النار مع باكستان بدأ الساعة الخا ...
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف
- السعودية تستعد لفتح خط جوي مباشر مع ليبيا بعد مباحثات أمنية ...
- بوتين يشيد بالعلاقات الروسية الفيتنامية ومحطاتها (فيديو)
- الدفاع الروسية: قواتنا تواصل التزامها بهدنة عيد النصر وترد ع ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - فلسفة العمل