أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ربيع نعيم مهدي - عند قبر الحلاج















المزيد.....

عند قبر الحلاج


ربيع نعيم مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 22:46
المحور: الادب والفن
    


"1"
في زاويا بغداد المنسية، غالباً ما يذوب الحاضر في ذاكرة الأزقة العتيقة، ففي كل مكانٍ تجد أثراً يروي آلاف الحكايا عن أولاءك الذين قادتهم الخطى للسير في طرقاتها دون ان يعلموا شيئاً عن النهايات التي تنتظرهم، بعضهم ترك ذاكرة المدينة تتحدث عنه، والبعض الآخر حملت أفواه ساكنيها أخباره في المجالس والمقاهي، والتي أرتادها لسماع ما يتناقله الناس من تلك الأخبار .
"2"
في الكثير من الأحيان كنت استمع دون تركيز، لكنني اليوم وجدت نفسي مشدوداً لمتابعة حديث أحدهم وهو يروي لصاحبه عما جرى له عندما قادته الخطى للمرور على قبر الحلاج في إحدى الليالي، فالرجل شعر هناك بالذعر عندما سمع أصواتاً تلهج بذكر الله دون ان يفهم معناها، ولما نظر حوله بحثاً عن مصدرها لم يجد أحداً غيره، فتذكر ما يردده الأهالي حول هذا المكان بأنه مسكون بالجنّ، وهذا ما دفعه للهرب بعيداً خشية ان يمسسه أحدهم بسوء.
"3"
جلست وحدي بعدها استعيد ما قرأته عن شخصية الحسين بن منصور الحلاج، الرجل الذي صُلِبَ وقُطِعَت أوصاله قبل تحرق جثته ويُنثر رمادها على مياه نهر دجلة، وما تبقى من الحلاج لم يكن سوى كلماته التي يستشهد بها بعض أهل العلم عند حديثهم عن العارفين بالله.
"4"
مدفوعاً بالفضول، سرت في ليلة هادئة من ليالي الشتاء، قاصداً قبر رجلٍ لم يدفن في قبره، ولا أدري إن كنت سأسمع شيئاً، لكنني أكملت دربي حتى دخلت مقبرة الشيخ معروف في جانب الكرخ، فوجدتها تنعم بهدوءٍ غريب، إذ لا شيء يُسمع سوى وقع خطواتي بين شواهد قبورها، التي انتصبت كأنها تصطاد بقايا أضواء المدينة.
"5"
وصلت الى قبر الحلاج الذي تم بناءه في المكان الذي يُعتقد انه صلب فيه، وبدأت اصغي لعلي أسمع شيئاً، ولم تفلح لحظات الانتظار إلا في زرع الشك في داخلي بأن الحديث الذي سمعته في المقهى لم يكن سوى إحدى الخرافات التي تتناقلها ألسنة الناس فيما بينها، فقررت العودة من حيث أتيت، وسرت بضع خطوات مبتعداً عن القبر قبل ان يوقفني همس كسر هدوء تلك الليلة.
- "حسب الواجد إفراد الواحد له."
توقفت دون ان التفت خلفي، فارتفع الصوت
- "إني أنا من أهوى، ومن أهوى أنا"...
التفتُ نحو شاهد القبر مأخوذاً بالمفاجأة، فالصوت يصدر عنه، واقتربت منه بخطى الخائف لأتأكد من حقيقة الأمر
- "نحن روحان حللنا بدنا، فإذا أبصرتَه أبصرتَنا"....
وكلما اقتربت منه كان الصوت يتضح أكثر
- "أنا الحق."...
"6"
في تلك اللحظة أيقنت بأن ما يحدث لم يكن حلماً، وان الصوت يردد كلمات الحلاج التي أوصلته الى الموت مصلوباً قبل أكثر من ألف عام.
جثوت على ركبتيّ ومددت يدي أتلمس ما نُقشَ على شاهد القبر، ولم أكن أعلم بأني سأدخل في عالمٍ لا أنتمي له، فما أن لمست الشاهد حتى تغير إحساسي بالزمن، وشعرت بالأرض تميد من تحتي، وكل شيء من حولي يتلاشى، القبور تختفي، وظلام الليل يتوارى هارباً من ضوء الشمس، وحشود من البشر غابت عن وجوهها البسمة، البعض منهم يهتف: "اقتلوه..." والبعض الآخر ينادي: "انه زنديق كافر .."، فنظرت صوب المتهم بالكفر، وسألت أحدهم: "من هذا الرجل المقيد بالسلاسل؟.." لكنه لم يُجِب وكأنه لم يسمع صوتي أو يلحظ وجودي.
"7"
عرفت انه الحسين بن منصور الحلاج، كان الشحوب بادياً على وجهه المحلّى بابتسامة تتحدى خوف المحيطين به، فتخطيت حشد الناس حتى اقتربت ووقفت بين القضاة والفقهاء وعلى مقربة من مجلس الخليفة المقتدر بالله، والذي بدى وكأنه على علمٍ مسبقٍ بما سيتفقُ عليه المجتمعون.
كان أحدهم وهو "محمد بن داوود" قاضي بغداد يكيل الاتهامات للحلاج بالزندقة والسحر وادعاء الألوهية، وزاد عليها بقوله: " لقد ادّعى ما لا يجوز، وكلكم سمعتموه وهو يقول – وأعوذ بالله من قوله – " أنا الحق ".. إن تركتموه فسنجد انفسنا أمام ألف حلاج يردد أباطيله.. أخبرني يا حلاج.. ماذا كنت تقصد بقولك هذا؟..
نظر الحلاج طويلاً في عيون القاضي قبل ان يجيبه بهدوء: " أنا الحق، لأنني فُنيت فيه كما تفنى القطرة في البحر، ولم يبقَ إلا هو.. ما عدت أرى شيئًا مني، فأنا كالظل في ضوئه، لا أنفصل، ولا أُرى إلا به..." ثم التفت الى "الجُنيد" مخاطباً: "أخبرهم يا جُنيد عن معارج العاشقين لذات الله.. أخبرهم عن مسالك العارفين.. أيعشقون غير الباقي؟.. أخبرهم ان تسليم الروح يسبق الجسد......"
قطع الجنيد حديث الحلاج: "مهلاً يا حلاج.. الناس بسطاء.. بعضهم يسمع الكلمات ولا يدرك المعنى.. والكثير منهم سيُفتن.. وربما سيقودهم ذلك الى الكفر.. أسرار العارفين لا تُذاع إلا لأهلها"
رد الحلاج بلطف: "أتخاف الكلمات يا جُنيد؟.. هل أصبحت كلماتي سيفاً تخشاه؟.. ثم من قال إن المعنى يُفهم؟.. المعنى يُعاش كما يُعاش العشق، يُذيب الفرد في معشوقه كما يُذاب العارف في من عرف.. ."
وهنا تدخل شيخ الحنابلة أبو العباس بن عطاء دون ان يوجه كلامه للحلاج: "في أقواله خطرٌ على العامة من الناس، فالتصوف حين يخرج عن السكينة، يُصبح فتنة لا ينفع معها تبرير ما لا يجوز قوله.. أنا لست مهتما بما يقصده، بل كيف سيُفهم كلامه عند العامة"
حاول الحلاج ان يرد على شيخ الحنابلة لكن الوزير ابن العباس أنهى الأمر بقوله: " لننهي هذا الجدل العقيم، فالناس من حولنا تنتظر منا أفعالاً لا أقوال... أيها القاضي... الأمر بيدك.." وأشار الى القاضي محمد بن داوود الذي أخرج من عباءته ورقة تضمنت الحكم على الحلاج بأن يُجلد ألف جلدة، ثم تُقطع أطرافه، ويُصلب، ويُحرق، ثم يُنثر رماده في نهر دجلة.
"8"
ما أن أُلقي الحُكم على الناس حتى بدأ الجمع بتنظيم نفسه، فذاك جاء بالحطب، وذاك أحضر السياط للجلاد، وبعضهم اتخذ مكانه ليكون شاهداً على طقس اغتيال من كانوا يقرؤون أشعاره في مجالسهم، وسريعاً بدأ الجلاد بتنفيذ ما حكم به القاضي، والذي لم يستطع مواجهة نظرة الحلاج وهو يُجلد.
كان المشهد قاسياً، فالحلاج يتلقى لسع السياط وكأنها دواء جرج لا وجود له، لم يتألم، ولم يصرخ حتى عندما قُطعت أطرافه وسال دمه، ابتسم واكتفى بالنظر إلى السماء، ليهمس قائلاً: " اللهم إن كانوا يتقربون إليك بهذا، فاغفر لهم".. "يا رب، إنك تعلم أنني لم أرد شيئًا سوى وجهك، فاغفر لهم".. وعندما صُلب، أغمض عينيه كأنه شعر بنشوة السالكين في طريق العشق.
وحين بدأ الحرق، قال كلماته الأخيرة: "اعلموا أيها الناس.. إنني ما نظرت الى شيء إلا ورأيت الله فيه".. لتكمل النار ما أوقِدت لأجله، ويتحول الحطب والجسد الى رماد تطاير بعضه، والبعض الآخر جُمِع ليُنثر في نهر دجلة.
"9"
بقيت عند الضفة، انظر للنهر الذي احتضن رماد الحلاج، وأراقب الناس الذين تفرقوا بعد ان غادر الخليفة ومن معه، حتى سكن الصخب وجاءه الصمت، كأن الزمن قرر أن يعيدني إلى عالمي، وسرعان بدأت الساحة تختفي، وضوء الشمس يتلاشى مع كل قبر يتخذ له مكاناً في مقبرة الشيخ معروف، لأجد نفسي عند نفس المكان الذي بدأت رحلتي منه عبر الزمن، لكنني عدت منها بحالٍ غير الحال الذي رحلت فيه، فالفضول الذي أتى بي لأكون شاهداً جعل مني جزءاً من حكاية صلب الحلاج.



#ربيع_نعيم_مهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكرة التل (الإيشان)
- على هامش أوراق التحقيق
- ثلاثُ سبعٍ عجاف
- خطابٌ أموي بلسان علَويّ
- نوري المالكي والوزير ابن بقية
- مجرد مدينتين
- أمالي عبد الحميد مصطفى - 3-
- جناية العمامة
- أمالي عبد الحميد مصطفى - 2-
- أمالي عبد الحميد مصطفى
- أسماء الرئيس الحسنى
- الجريمة المنظمة في صدر الاسلام – 2 -
- الجريمة المنظمة في صدر الاسلام - 1 -
- دكانة الشطري - شيخ الوراقين
- تشرين
- اقتصاديات الجنس
- رسالة في أخبار الجنّ عند العرب
- من غرائب الأخبار في تاريخ العرب
- دكانة الشطري – 6 -
- شامٌ بلا بعضِ الشام


المزيد.....




- إطلاق خطة شاملة لإحياء السينما المصرية.. ما تفاصيلها؟
- رضوان لفلاحي: -لا شيء ممهَّد لشباب الضواحي في فرنسا كي يدخلو ...
- غاليري 54.. بورتريهات من ضوء، ألوان تتسابق وذاكرة تتمهل الزم ...
- رحيل فنان لبناني كبير والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تنعاه!
- احتجاجًا على الرقابة... فنانة أمريكية تُلغي معرضها في المتحف ...
- نصف قرن من الإبداع - وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني
- البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
- وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني ...ظاهرة فنية فريدة
- المغنّي والمسرحي والمؤلف الموسيقي ونجل فيروز.. رحيل الفنان ا ...
- بانكوك تستضيف مؤتمرا دوليا لتعزيز مكانة اللغة العربية


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ربيع نعيم مهدي - عند قبر الحلاج