ربيع نعيم مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 22:13
المحور:
الادب والفن
"1"
بينما كانت شمس الصيف الحارقة تغيب خلف كثبان الرمل، كان "حسن" يقود سيارته عبر طرقات الصحراء الواسعة، والتي حملت آفاقها توهجات خطوط الشمس الموشومة بذكريات غاب عنها أصحابها، كان قد ضل مساره وانقطعت عنه كل وسائل الاتصال بالعالم، بدأ يدرك انه قد ضل الطريق، ففي كل مرة يجد نفسه أمام تلة غريبة، تقف في دربه المرصوفة بالرمل، وكأنها تبحث عن ضيفٍ يقوده المجهول للوقوف عند ساكنيها.
بدأ الليل يتسلل شيئًا فشيئًا، وأصبح العالم من حوله سرابًا مشوّهاً من الظلال والحكايات القديمة، فأوقف السيارة، وترجل منها يبحث عن أية علامة ترشده الى الطريق الذي يجب ان يتخذه مسلكاً في تلك اللحظات، وبالرغم من افتقار المكان لأي مظهر من مظاهر الحياة إلا انه سمع صوتاً ينادي باسمه: "حسن.. يا حسن"، التفت في كل الاتجاهات بحثاً عن مصدر الصوت، حتى لمح على أسفل التل ظلاً شفافًا يتحرك، فتاة ترتسم ملامحها بحزنٍ عميق، ترتدي ثوباً بلون التراب، وعيناها تنظر الى شيء مجهول يقف بعيداً عنه.
قالت له: "هل أضعت الطريق… أم أن الطريق هو من أضاعك؟"
"2"
في أول الأمر فكر حسن في الهرب، لكنه شعر بهدوءٍ غريب أبعد عنه الإحساس بالخوف، فجلس على صخرة تواجه التل والشبح، وتفحص فيما حوله لمعرفة المكان، حتى سمع صوت الفتاة:
- هذا المكان يدعى تل الخاطئات.. فلا تخف
عندما سمع حسن اسم المكان تذكر العديد من الحكايا التي ترددها أفواه الأهالي عن هذه التلال التي أصبحت لغزاً محاطاً بأسرارٍ لا يُجرؤ أحد على الحديث عنها، فكل شبر في هذه التلال يمثل جرحاً ينزف بدموع الضحايا التي دُفِنت على سفوحها.
اقترب شبح الفتاة من حسن الذي بدت عليه علامات الخوف، خوف لم يعتد على مواجهته في رحلات البحث عن المواقع الأثرية المنتشرة في هذه الأرض، فتكلم لأول مرة
- أتوسل إليكِ.. لا تقتربي أكثر..
- أخائف أنت؟
- نعم
- لما؟... نحن لا نؤذي الغرباء .
- نحن؟!.. أيوجد أحد غيرك هنا؟
- أنظر حولك وسترى.. واصغ بقلبك لتسمع أصوات الأطفال وهم يلعبون هناك..
في أثناء الحديث بينهما بدأت تظهر أشباح أخرى لفتيات وأطفال صغار ينظرون بفضول لذلك الزائر المجهول.
"3"
توقف قلب حسن لوهلة، إذ وجد نفسه في مواجهة موقف كان يعتقد انه من المستحيل ان يحدث، لكنه استجمع رباطة جأشه وسأل شبح الفتاة:
- ماذا تريدين؟
- ان تستمع لنا فقط.. وإن كنت لا ترغب، فيمكنك الرحيل.. الطريق بهذا الاتجاه، وكل ما عليك، ان تسير شمالاً وسترى أضواء المدينة أمامك
تقدم حسن نحو سيارته بخطوات مترددة، لكن توقف والتفت نحو الأشباح دون ان يتفوه بكلمة، ثم عاد وجلس في مكانه مشيراً لشبح الفتاة بأن تبدأ بالحديث، فاقتربت منه تتبعها بقية الأشباح بهدوء.
- أنا ليلى.. أتيت الى هذا المكان برفقة إخوتي قبل أربعين عاماً، كنت أحمل في رحمي طفلاً محكوم بالموت، لم يرتكب ذنباً سوى ان أمه أحبت أحدهم، فجعلوا من جسدي نعشاً وقبراً بلا شاهد، لحلم لم يولد.. ودفنتُ هنا لعلهم يستطيعون حذف اسمي من ذاكرتهم.. لم تنفع توسلاتي في ان يتركوا فرصة للوليد ان يرى ضوء الشمس، أباه كان يحلق حولنا كطير مذبوح.. يطرق أبواب هذا وذاك، لكنه لم يجد من يجرؤ على فتح الأبواب.. حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم وأتيت الى هنا لأُنسى.
نطقت عيون حسن بدموع سقطت كالندى على الرمل، فحديث ليلى كان أشبه بصرخة غابت عنها الحناجر، وكأنها صوت يبحث عن صدى ليخبر الأحياء بأن الروح لا زالت تتنفس.
ومع بزوغ أنوار الفجر، بدأت الأشباح تتلاشى ببطء، كأنما كانت مجرد سرابٍ يرجع لقصةٍ قد انتهت مرارتها منذ زمن بعيد، لكنها قبل أن تختفي تمامًا، همست لوداعٍ أخير:
- يا حسن، احمل قصتي، وأخبر العالم أن الظلام الذي نعيشه ليس أقوى من نور الحقيقة التي ستشرق.
"4"
في طريق عودته الى المدينة ظل حسن يفكر في أحداث ليلته التي كبلته بوعدٍ سيجعل منه عدواً للبعض، فالصمت ما عاد ينفع، وحديث ليلى يخبر عن ألف ليلى دُفِنت قصتها في ذاك المكان، فقرر أن يكتب، وأن يعيد للصوت روحه، التي اختُطفت.
"5"
أيام مضت، شعر فيها حسن بالفشل لعجزه عن ترتيب كلماته والكتابة عن "تلال الخاطئات"، ولم يكن يعلم بأن القدر يسوق خطاه الى ما كان يبحث عنه. إذ كان من عادة حسن ان يرتاد مقهى الحاج حمد، والذي غالباً ما يشاركه بعض الدقائق للحديث عن خبايا الرمال التي تحيط بأطراف المدينة، وفي بعض الأحيان كان الأخير يرشده الى مواقع الآثار المهملة، وهذا ما دفع حسن الى سؤاله:
- يا عم حمد، أتعرف شيئاً عن التلال التي تقع جنوب المدينة؟
- أتقصد الايشان؟
- أجـ .....ل
قبل ان يكمل إجابته، اخرج حسن من حقيبته خريطة تحدد الأماكن الأثرية في المنطقة، محاولاً تحديد التل الذي رأى عنده الشبح، ووسط استغراب الحاج حمد تحدث حسن عما شاهده في تلك الليلة، وفي داخله شعور بأن المستمع سيهزأ به وسيتهمه بالجنون، لكن حمد الذي ارتسمت على وجهه معالم الحزن والقهر أمسك بحسن
- أقلت ان اسمها ليلى؟
- نعم
- استحلفك بالله يا ولدي.. ان تقول الصدق وان لا تهزئ بي.. اسمها ليلى؟
كانت قبضة حمد ترتعش مع تأكيدات حسن، والذي استسلم لقبضة حمد وهو يقوده نحو السيارة دون ان ينطق بأية كلمة، وكأن حاله يقول: "خذني إليها".
"6"
في الطريق تحدث حمد عن تلك التلال وعن حزنه الذي مضى عليه أربعة عقود من الزمن
- الكل يعرف هذه التلال، فهي في الأصل آثار من سبق من الأمم، لكنها تحولت مع الزمن الى مقابر أطفال ومدفن لكل من تتهم في شرفها من الفتيات والنساء.....
في تلك اللحظات انشغل حسن بالتفكير في حقيقة ما رأى، وما يحدث وما سوف يحدث عندما يصلان الى التل، هل سيظهر شبح ليلى مرة أخرى؟.. أيُعقل ان حمد كان على علاقة بها؟... أسئلة كثيرة جالت في رأسه ولم تتوقف دوامتها إلا عندما وصلا الى سفح التل.
"7"
ترجل حمد وسار بضع خطوات مثقلة بالحزن، وجال بنظره في المكان لعله يجد من بحث عنها سنين طويلة
- ليلى... أتسمعيني؟؟... يا جرحاً ينزف في روحي.. أتعلمين كم بحثت عنك؟.. ليلى...
استطاع حسن ان يرى في عيون شبح ليلى حزناً وفرحة لحضور حمد الذي التفت الى حسن
- حسن.. أهي هنا؟.. أتستطيع سماعي؟
توقف شبح ليلى على مقربة من حمد، تتأمل وجهه الذي انهكه الزمن وقالت لحسن
- أخبره أنني لا زلت أذكر طعم الخبز والتمر عندما جلسنا عند النهر... واسأله لماذا لا يلبس خاتم الفيروز الذي أهديته له؟.. قل له ان ابنه صار طيراَ يحلق في سماء الرحمة.. أخبره بانني قد اشتقت لسماع صوته..
ابتعد حسن عن التل تاركاً حمد كمن يتحدث مع نفسه بعد ان ايقن بأن معشوقته تقف على مقربة منه.
"8"
في تلك الليلة جلس حسن بين الصخور يفكر فيما سيفعله مع هذه الأرواح، التي بدأت تروي حكاياتها تحت ضوء القمر، فراح يكتب ما تحدثت به سلمى التي قُتِلت لأن أخاها أراد ان يستأثر بالميراث، وكتب قصة فرحة التي تركوها هنا وهي لا تدري ان اللعبة التي جمعتها بأحدهم ستنهي أيام الجنون الذي ولدت به، ومأساة زينة التي دُفِنت لأن زوجها كان يخشى ان يفتضح عجزه، وحكاية أخرى رفضت ان تخبره باسمها، واكتفت بالقول: " لا تتعب نفسك فأنا مجرد عا.... وأتمنى ان يكون لي قبر فقط"...
"9"
في اليوم التالي كان حسن على موعد مع حمد الذي قرر ان يواجه المدينة بجرمها الذي قتل أيامه وأحلامه، فسارا معاً في موكب يحمل ثمانية نعوش لفتياتٍ تم تكفين بقاياهن بأثواب العرس، واتخذ المشيعون مسارا يمر على ديار الضحايا، دون ان يدرك أهلها ان الجنون الذي بدى في سلوك حمد، لم يكن إلا وسيلة لتذكيرهم بما فعلوا، إذ كان ينادي "يا أخي.. أنت عندي أغلى من الأرض وميراثها"... "ما ذنب المجنون إذا أخطأ".... "ما ذنب طفل لم يولد"... "يا مدينة الخطايا.. الى متى؟؟"...
"10"
عندما وصلت النعوش الى المقبرة واكتملت مراسم الدفن بهدوء، سار حسن في طريق العودة محملاً بالرضا بعد ان انهى مهمته التي ساقه اليها القدر، ولأول مرّة شاهد حسن تلك الأشباح تبتسم.. كأنها تشكره لأن الرسالة قد وصلت.
#ربيع_نعيم_مهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟