|
المثقف في دائرة الضغط: كيف تفرض الأفكار(7)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 13:53
المحور:
قضايا ثقافية
يعيش المثقف في قلب دائرة ضغط معقدة، تتنازعها قوى متعددة، تبدأ من الفكرة نفسها، ولا تنتهي عند المجتمع أو السلطة أو حتى الضمير الذاتي. فالأفكار ليست كيانات مجردة، بل هي قوى فاعلة تضغط على المثقف من الداخل والخارج. إنها تفرض ذاتها بوصفها مسؤولية لا يمكن التملص منها، تحاصره بأسئلتها وتحدياتها، وتجبره على أن يكون شاهدًا، ناقدًا، وصوتًا لما لا يُقال في العادة. حين تنتج الفكرة، فإنها لا تبقى في حيّز الذهن فقط، بل تطالب بالخروج، بالتعبير، بالانتشار. والمثقف، بحكم وعيه الحاد ومكانته كوسيط بين الفكرة والواقع، يصبح حاملًا لهذا العبء. ومن هنا يبدأ الضغط الحقيقي: هل يقول ما يجب أن يُقال مهما كانت الكلفة؟ هل يصمت؟ هل يُهادن؟ هل يواجه؟ إنها لحظة صراع مستمر بين الالتزام الفكري ومتطلبات الواقع. يُضاف إلى ذلك ضغط المجتمع الذي قد لا يكون مهيأ لتلقي بعض الأفكار، خاصة حين تمسّ معتقداته أو عاداته أو سلطاته الرمزية. والمثقف في هذه الحالة يجد نفسه محاصرًا بين ما يؤمن به من أفكار وقيم، وما يتطلبه المجتمع من مواءمة أو صمت. وهنا تنشأ معضلة المثقف الأزلية: هل يكون صوت التغيير حتى لو كان صادماً؟ أم يحتفظ بمسافة الأمان حفاظًا على موقعه أو سلامته أو حتى استمراريته في الفعل الثقافي؟. السلطة بدورها - سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية - تمارس ضغطًا آخر. فهي غالبًا ما تنظر إلى الأفكار بوصفها تهديدًا، لا بوصفها إمكانيات للتطور. وهكذا يوضع المثقف بين خيارين: إما أن يتحول إلى أداة في خدمة السلطة، أو أن يتحول إلى خصم لها. وفي الحالتين، يكون الثمن باهظًا، والثبات على الموقف أكثر كلفة مما يُتصور. حتى الضمير الذاتي ليس خاليًا من الضغط. فالمثقف الحقيقي لا يهنأ له بال إذا تنكر لفكرته، أو ساوم على مبادئه. الضمير يُلح، يُحاسب، يُعيد التذكير دائمًا بما يجب أن يكون. وهذا الضغط الداخلي، وإن بدا نبيلاً، إلا أنه مرهق، يجعل من حياة المثقف صراعًا دائمًا مع الذات والآخر والعالم. من هنا يمكن القول إن الأفكار تفرض نفسها، لا بوصفها ترفًا ذهنيًا، بل كعبء تاريخي وأخلاقي، يحتم على المثقف أن يتحرك، أن يقول، أن يشهد. وإذا تراجع، فإنه لا يخون فكرته فقط، بل يخون ذاته أيضًا. ولهذا، يظل المثقف في دائرة الضغط، لا كخيار، بل كقدر، لا هروب منه إلا إلى المزيد من الوعي، والمزيد من المسؤولية. هذا الضغط المتعدد الأوجه لا يصنع من المثقف شخصية مأزومة فحسب، بل يحوّله إلى نقطة توتر دائمة داخل النسيج الاجتماعي، فهو لا يعيش في عزلة، ولا يستطيع أن يندمج كليًّا، لأنه إن فعل، خان مهمته؛ وإن اعتزل، تنكّر لدوره. المثقف الحقيقي هو من يعيش هذا التوتر بشكل دائم، ويدفع ثمنه. لكن هذا الثمن هو ما يعطي لموقفه قيمته ولصوته صداه الحقيقي. وسط هذه الدائرة المتشابكة من الضغوط، يظل المثقف مدفوعًا بقوة الأفكار ذاتها. فالفكرة الجادة، الأصيلة، لا تترك صاحبها يرتاح. هي تلاحقه، تقلقه، وتحرّضه على الفعل. إنها تفرض ذاتها بوصفها مسؤولية أخلاقية، لا مجرد خيار. وإذا أراد المثقف أن يكون وفيًّا لفكرته، فعليه أن يكون مستعدًا لدفع ثمنها، لا مرة واحدة، بل مرات ومرات. وبذلك، لا يكون المثقف مجرد حامل لأفكار، بل حامل لهمٍّ تاريخي، وصوت مضاد للركود، ومحرّض دائم على السؤال. هو في قلب المعركة دائمًا، سواء أراد أم لم يُرد. ومهما اشتد الضغط، فإن القيمة الحقيقية للمثقف لا تُقاس بسلامته أو راحته، بل بقدرته على الصمود، وعلى إنتاج المعنى في وجه كل محاولات التقييد أو الإخماد. وبناءً على ذلك، المثقف ليس كائنًا محايدًا، ولا يمكن له أن يكون كذلك، لأنه محاط دائمًا بمجموعة من الضغوط التي تلاحقه أينما وجد، وتمارس عليه تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، سواء من قبل السلطة السياسية أو المؤسسات الأكاديمية أو الأعراف الاجتماعية أو حتى من داخل ضميره الشخصي. إن دخوله في ساحة الفكر يعني بالضرورة تحمّله لمسؤوليات لا يستطيع التنصل منها، مهما حاول أو ادّعى الحياد. إن الضغط الذي يعيشه المثقف ليس مجرد تحدٍّ خارجي، بل هو اشتباك دائم بين ما يؤمن به وما يُفرض عليه. وهو غالبًا ما يجد نفسه في مواجهة مستمرة مع ما يُراد له أن يروّج له، وما ينبغي له، في المقابل، أن يكشفه ويفكّكه. إنه يعيش في حالة شدّ لا تنتهي، ويُطلب منه في كل مرة أن يختار بين راحة الصمت أو كلفة الكلام. ورغم الإغراءات والتهديدات، فإن القيمة الحقيقية للمثقف لا تُقاس بما يحصّله من رضا المؤسسة، بل بما يحتفظ به من وفاء للحقيقة. إذ ليس المثقف مجرد حامل لأفكار نظرية، بل هو حامل لمسؤولية أخلاقية وتاريخية، تنبع من إيمانه بأن للفكر دورًا يتجاوز التكرار والتبرير. إنه مطالب بأن يتدخل، وأن يكون شاهدًا ناقدًا، لا موظفًا فكريًا. وإذا قبل أن يتحول إلى أداة بيد السلطة، أو إلى تابع للذوق العام، فقد خسر أهم ما يجعله مثقفًا. ولهذا فإن بقاءه في دائرة الضغط ليس ضعفًا، بل علامة صدق. فحين تُرفع الضغوط، تنكشف المعادن، ويظهر من كان مثقفًا بالصفة، ومن كان كذلك بالموقف. لهذا يقول: هيغل "الثقافة هي حركة الروح نحو الحرية". –فينومينولوجيا الروح. وإذن، المثقف في محيط متشابك من الضغوط التي لا تنفك تفرض عليه تحديات مستمرة، تجعل منه شخصًا في حالة تأهب دائم، لا يستريح ولا يتوقف عن المراجعة الذاتية والنقد. هذه الضغوط لا تقتصر على رقابة السلطة أو التضييق الأمني فقط، بل تمتد لتشمل الرقابة الاجتماعية، والقيود الثقافية، والرهانات الاقتصادية، وحتى الضغوط النفسية التي تنبع من الصراع بين المعتقدات الشخصية والواقع الذي يفرض نفسه. المثقف يعيش في حالة توتر مستمرة بين أن يكون صوتًا حراً مناوئًا لكل أشكال القمع، وبين رغبته في الاستقرار والأمان، وهو صراع يصعب حله أو تجاوزه بسهولة. ومع كل هذا، فإن المثقف لا يملك رفاهية التراجع أو الانسحاب، لأن صموده هو صمود الفكر، واستمراره هو استمرار لمقاومة محاولات السيطرة على الوعي. وهو يدرك أن ثمن الكلام والكتابة والمواقف قد يكون غاليًا، لكنه لا يرى أمامه خيارًا سوى المواجهة. في عالم يزداد فيه التشويش والتضليل، يصبح المثقف هو الحارس الأخير لمنارة الحقيقة، والواجب الذي يضطلع به هو أكثر من مجرد مهنة، إنه مهمة تاريخية وأخلاقية في آن واحد. مراجع المقال: 1. بنسون، جون، الحرية الفكرية والمقاومة الثقافية ترجمة: ليلى عبد الرحمن، دار اليازوري، عمان، 2014. 2. غرامشي، أنطونيو، المقالات السياسية والثقافية، ترجمة: مجموعة من المترجمين، دار الطليعة، بيروت، 1987 . 3. بورديو، بيير، ضد النار: عن الفكر النقدي، ترجمة: عز الدين الخطابي، دار الفارابي، بيروت، 2009 . 4. مان، بول، المثقفون والتغيير الاجتماعي ترجمة: سمير صالح، دار النهضة العربية، القاهرة، 2010 .
#داود_السلمان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهوية الممزقة في (رياح خائنة) للروائية فوز حمزة
-
قوالب الفكر: هل تختلف أصوات المثقفين(6)
-
المثقف المقولب: ضحية العصر أم صانع قيوده؟(5)
-
صناعة المثقف: عندما تتحدد الأفكار قبل أن تُقال(4)
-
المثقف الأسير: بين القوالب الاجتماعية والفكر المستقل(3)
-
قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)
-
الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
-
المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
-
فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
-
حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
-
التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق
...
-
أين نحن من الوجود؟
-
التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
-
تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
-
مَن هم القرآنيون؟
-
التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
-
لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
-
خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
-
نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
-
من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
المزيد.....
-
ترامب يُحذر تايلاند وكمبوديا من وقف التعامل التجاري معهما..
...
-
تأخرت رحلتك؟ إليك استراتيجيات ذكية للاستفادة من وقتك في المط
...
-
-مبيد حشري-.. النيابة المصرية تحل لغز وفاة 6 أشقاء ووالدهم ف
...
-
إسرائيل تسمح بدخول مساعدات لأول مرة منذ أشهر، مع -تعليق تكتي
...
-
كمين جديد لحماس في خان يونس.. مقتل 3 جنود في صفوف الجيش الإس
...
-
أمل جديد لمرضى السكري.. الخلايا الجذعية تقلب موازين العلاج
-
لماذا أعلنت إسرائيل فجأة -تعليقا تكتيكيا- لعملياتها العسكرية
...
-
خمس خطوات لتجنب نزلات البرد الصيفية المزعجة
-
العدو الذي يتحدث لغتك.. خطة إسرائيل الجديدة لاختراق المجتمعا
...
-
قصص مجوّعي غزة.. شريف أبو معوض
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|