أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد مهدي غلام - /(سُوبَاطُ النِّسْيَانِ: نَامُوسُ الصُّقُورِ) ديون شعري















المزيد.....



/(سُوبَاطُ النِّسْيَانِ: نَامُوسُ الصُّقُورِ) ديون شعري


سعد محمد مهدي غلام

الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 22:48
المحور: الادب والفن
    


(لِكُلِّ فَشَّارٍ كَانَ سَبَبًا فِي دُمُوعِ إِنْسَانٍ: مَصِيرُكَ شِيؤُولُ دُونَ مِيزَانٍ — هَذَا مَا قَالَهُ قَرِيبُنَا السَّامِرِيُّ الصَّالِحُ)

ديوان شعري

إهداء

إِلى الظِّلِّ النَّحيلِ...
الَّذي مَشَى مَعي طَويلًا،
ولَمْ يَسْأَلْني:
إِلى أَيْنَ؟

إِلى المِئْذَنةِ الَّتي أَغْمَضتْ عَيْنَيْها،
فَلَمْ يَعُدِ النِّداءُ يُشْبِهُها،
وهيَ تَنْفُثُ الدُّخانَ الأَسْوَدَ.

إِلى المَدينَةِ الكَليلَةِ، الَّتي لا تَتذَكَّرُ اسْمَها،
لَكِنَّها تُبْكيني كُلَّما مَرَرْتُ في دَاخِلِها،
فَأَخْرُجُ مُخَضَّلًا بِالدُّمُوعِ.

إِلى الَّذينَ كَتَبُوا الْقَصيدَةَ في العَتْمَةِ،
ثُمَّ اخْتَفوْا كَالسَّرابِ..

تقدمة :
(حينَ تَمشي المِئذنةُ على الماء)

ليس الشعرُ في سُوبَاطِ النِّسْيَانِ زخرفًا بلاغيًّا،
ولا متحفًا لغويًّا يُعرَض فيه المجاز على رفوف البيان.
بل هو جمرٌ يمشي في ليل اللغة،
ينير درب الضمير لا ليُبدّد العتمة، بل ليُظهر هشيمها في أضلاع التاريخ.

هنا، القصيدة ليست حيلة تعبير،
بل فعلُ مقاومة، وتأريخٌ وجوديّ
يتقاطع فيه الذاتي بالجَمْعي، والرؤيوي بالتاريخي، والميثولوجي بالحِسّي.

منذ القصيدة الأولى،
كانت قُرْطُبَة هي الحلم والجرح،
الذي أيقظَه نزيفُ بغداد وغزة ودمشق من سباته.

نرى الخليفة لا سلطويًّا،
بل شبحًا يتلمّس المعنى في الظلام،
وتنبثق الأسئلة:
هل بقيَ للمدنِ وجهٌ في الذاكرة،
أم دُفنت تحت طلاء الفتح والانحطاط؟
القصيدةُ، والمئذنة، والمدن التي تحترق

في القسم الأول، أطيافُ السُّوبَاط،
يتحول السوباط من ممرّ إلى جسرٍ رمزيّ،
مرآتان تتواجهان:
إحداهما تُحيل إلى الحلم الأندلسي،
وأخرى تكشف تشوّه الحاضر بلطخات التاريخ المعاصر.

والمئذنة، في هذا العالم الرمزي،
لا تقف على الأرض،
بل تمشي فوق الماء…
كأن لا أرض تستحق النداء.

وفي القسم الثاني، المدن التي تحترق بأسمائها،
يدخل الشاعر في مناطحةٍ مباشرة مع الخراب العربي،
حيث تتحول الكلمات إلى نعوشٍ،
وتنهض الرموز كشهودٍ في محكمة النسيان،
التي يقف فيها "الإنسان العربي" متهمًا: إمامًا ومأمومًا.

الأنثى، والرؤيا، والمعنى المستور

أما القسم الثالث، الأنثى، والغياب، والرؤيا،
فليس ارتدادًا إلى الذات نكوصًا،
بل صحوةٌ للتبكيت، أضعفُ الإيمان.

الأنثى هنا ليست جسدًا،
بل مدينةٌ أُخفيت، وكائنٌ شعريّ،
تمثالُ المعنى المستور، والوعد المؤجل،
رمزٌ للمدينة/اللغة/الحبيبة،
وهي النبية، والربة، والإلاهة المتقلّبة المزاج.

السؤال والهوية والطوفان

في القسم الرابع،
تُطرَح الأسئلة الكبرى:
سؤال الحضور في زمن الغياب،
وسؤال الهوية وسط انطفاء الرموز،
وسؤال الشعر في وجه الطوفان والتفاهة،
بأسلوبٍ مابعد حداثيّ،
يستقي فصاحته من تراثٍ لغويٍّ أصيل،
ويحمل معول الحرف لا سَقّاط الأصنام، نيتشوياً.

المئذنةُ تمشي على الماء، والسوباط يعبرنا

حين تمشي المئذنة على الماء،
لا تعود للنداء، بل تذرّ رمادَ السيرة.
والماءُ لم يعد مهادًا للوضوء،
بل هاويةً تبتلع الصوت،
لينهض من ضجيج الصمت الكريم.

خاتمة الديوان، الطويلة المدوّرة،
تُعيد تشكيل العناصر في حركةٍ لولبية:
الطّلل، والرمز، والذاكرة، والمدينة،
جميعها تتلاقى في "سُوباطٍ"
لا يُعبَر مرتين بذات الدلالة،
لكنّه يحتشد بالظلال، والأحلام، والأوجاع،
بل وبالكوابيس والأضغاث.

السُّوبَاط: أثرٌ يتكلَّم

"السوباط" ليس عنصرًا معماريًّا فحسب،
بل أثرٌ يتكلّم،
ذاكرةٌ مجسّدة بين دار الإمارة وجامع قرطبة.
مكانٌ للعبور، وسقفٌ لا يحمي،
بل يحتفظ بأنين العابرين.

هو المعمار الذي لا يُوصَف، بل يُسكن،
هو ما بقي من صلاة ناقصة،
من ظلّ نافذة لا تُطلّ على شيء.

القصيدةُ تعبر بنا

لا نعبر السوباط،
بل يعبرنا.
لا نعيد الأثر،
بل يُعاد فينا.
ولا نقف أمام المكان،
بل نسكنه...
ولو لحظةً،
قبل أن يُهدَم… أو نُمحى معه.

ذلك هو فناء الكائن في عشه،
وتلك هي مقاومة الرضوخ للمآلات.

القسم الأول:
أطياف السُّوبَاط
(الظلُّ الأندلسيّ)

أولًا/(سُوبَاطٌ تَحْتَ نَعْلِ الخَلِيفَةِ)
سُوبَاطُهُ... مَمْشَى الظِّلالِ،
وَمَهْدُهُ،
فِيهِ تَزِلُّ خُطَى الزَّمَانِ ،
وَتَصْمُتُ.

يَمْشي عَليْهِ الخَليفَةُ مُرْتَقيًا،
والرِّيحُ تَسْجُدُ،
والحِجَارةُ تَهْمِسُ.

كُلُّ النُّجُومِ تَرَاقَصتْ في نَعْلِهِ،
والدَّهْرُ فِي جَيْبِ الخُطى يَتكَبْكَبُ.

مَا كَانَ يُبْصِرُ في الزُّقَاقِ سِوى رُفَاتٍ،
تَحْتَ نَعالِ المُنْكَرينَ يُكَرْكَبُ.

سُوبَاطُهُ؟
نَعْشٌ تُقيمُهُ الوصَايا،
وَتَسيرُ فَوْقَ نُدُوبِهِ الأَيَّامُ صَامِتةً.

ثانيًا/(سُوبَاطٌ مِنْ زُجاجٍ مَكْسُورٍ)
سُوبَاطُنا... لَمْ يُبْنَ مِنْ طِينِ نُبُوءَتِنا،
بَلْ كَانَ مَرْآةً تُشَظِّي ظِلَّنا.

مَشَيْنا فيهِ...
كُنَّا زُرَافاتٍ مِنَ الذِّكْرى،
والخُطْوُ فِينا كَانَ يَنْزِفُ فِتْنةً.

كُلُّ الجُدُرانِ الَّتي أَوْقَفْنَها سَقَطتْ،
والماءِ في زُجَاجِها قَدْ فَاتَنا.

هَذَا الزُّقاقُ يُشبِّهُ النَّفْسَ الهَشيمَ،
ويَقُولُ:( مَنْ يُلمْلِمُ الزَّمنَ لَنا؟)

(نَمْشي عَلى شَفَراتِ نُفْرَتِنا،
وَالسُّوبَاطُ... يَرْتعِشُ،)
(كَالنَّفَسِ الأَخِيرِ،
إِذَا انْثَنى.)

ثالثًا/(سُوبَاطٌ لا يَصِلُ أَحَدًا)
هَذَا السُّوبَاطُ... يُؤَدِّي لِلْهَباءِ،
لا صَوْتَ فيهِ،
ولا مَاءَ،
ولا نُدبِ.

كُلُّ الَّذينَ دَخلُوهُ...
لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ،
واحْتَفلَتْ بِغِيابِهِمْ جُدُرُ القَطيبِ.

مَا فيهِ إِلَّا رِيحُ أَسْمَاءٍ عَتيقةٍ،
تَبْكي على دَرَجِ النِّهايَةِ... في كُتُبِ.

لا يُشْبِهُ الطُّرُقَ الَّتي تَفْتحُ المُهَجا،
لا يُشْبِهُ البابَ الَّذي يُرْجَى،
ولا السَّغَبِ.

سُوباطُنا...
مِثْلُ السُّؤَالِ إِذَا كَبا،
لا يَصِلُ أَحَدًا،
ولا يُؤْذِنُ بِالهرَبِ.

رابعًا/ (سُوبَاطُ النِّسْيانِ)
نشيد مرآةٌ لاتنام وجهها ماش على ضَوءٍ قِنْديلٍ مُنكَسِرٍفي شارع المحجة العظمى

(مرثيّةُ الأبدِ المؤنّث المُرتاب في
سِفْرُ الظِّلِّ وسَفر الجَمْرَة الأخير )

تقدمة
هنا، في الظلِّ الأخير لقُبّةٍ نُقشتْ بآياتِ السُّمو،
يَصعَدُ المعنى من فتنةِ الحرفِ المُندَسِّ في محرابِ قرطبة،
حيثُ لم يكن المسجدُ قِبلةً للمصلّين فقط،
بل شاهدًا على وَهَجِ العقل،
وجُرحِ النور،
وعباءةِ المستنصرِ باللهِ حين كان يعبرُ
سُوباطًا من الصمتِ إلى يقينِ المعنى.
هذا القصيدة،
مرآةٌ مُنفَلِتَةٌ من زمنٍ يوشك أن يُطمَس،
وزمنٍ آخرَ نَعيشُهُ الآنَ مطموسين.
هو استغاثةُ ذاكرةٍ لا تزالُ تتوضّأُ بأَسرارِ الحُكمِ العادل،
وتبكي على المآذن التي تُؤذِّنُ الآنَ للفجيعة.

في هذا القصيدة ،
نُشيِّدُ جامعًا آخر، من الحنينِ والمجازِ، من الرُّكامِ ،والنار،
ونُقيمُ صلاةً…
في السطرِ الذي ما زالَ ينتظرُ المستنصرَ…
ولن يعود.
ولكن ثمة مرآةٌ تدورُ حولَ عتمتي لا ترى وجهي،
لأنّي انحني للعاصفة،ولا اتهشّم.
في ظلالي تنامُ المدنُ...
لكنّ الصدى هو مَن أيقظني.
بمدخل الغياب قنديلا
في السطرِ الأوّلِ،
كنتُ أفتّشُ عن ظلٍّ،
فإذا بي أتعثّرُ بوجهٍ
أقدمَ من اللغةِ...
وجهٍ يسكنُ مِلحَ الكلام،
وصمتَ البلادِ التي أحرقتْ أسماءَها،
واحتفظتْ
بصرخةِ أوّلِ حرفٍ
في جوفِ القصيدة.

فإلى مَنْ كتبوا على جدرانِ الرماد
أنَّ الطُفُوَّ خِيانة،
والسُّقوطَ نُبوءة.
ما مِنْ نجمٍ يُضيءُ على هدًى
في عُيونِ الخوفِ أو فَوقَ الحِطامْ،
كلُّ شيءٍ يشتكي نَسغَ الضميرِ،
كلُّ شيءٍ ضاعَ في وهمِ السلامْ والوئام طار مع الحمام .

"قُرْطُبةُ الحُلْمِ"،
(سِفْرُ الظِّلِّ الثَّاني: هَجْسُ المَفازةِ").
1
في وَجهِها تَختَبئُ الشُّرُفاتُ،
وتَتَبَعْثرُ المُدُنُ الراحلةْ ،
تَـمُرُّ بي المِرْآةُ مِن غيرِ ظِلٍّ،
كَأنَّها نارٌ بِها الوَاجِهاتُ.

في المَدَى تَنمو خُطَاكِ كأنَّها
أُغْنيَاتٌ في ارْتِباكِ المُشْرَفِ،
أَنتِ في الرِّيحِ البَعيدَةِ مَنْزِلي،
ومَدَى قَلْبيَ المُضيءِ المُرْهَفِ.

تَـمْشينَ،
وظِلُّ الخُطْوِ يَرْوي سُكُوتي،
ويَشْهَقُ الدَّرْبُ بِتَأْويلِ صَوْتي،
كَأَنَّني وَمْضَةٌ مِن نُفَاياتِ،
تُغنِّي خَرابًا في رُؤًى هُوِّيَّتي.

أَيْنَ يَا أُنْثَى الغَمامِ خُطْوَتُكِ؟
كُلُّ هَذَا اللَّيْلِ مِلْكٌ مِنْكِ لي،
كُلُّ مَا في الحُلْمِ مِن رَقْصِ الضُّحَى،
وَمِنَ النَّارِ الَّتي لَمْ تَشْتعِلْ.

[لَيتَ الخَيالَ فَريسةً لِرُقادي
يَدنو بِطَيفِكِ عَن نَوى وَبعادِ]*
2
جِئْتِ مِنْ أُفُقِ القَصيدَةِ،
لَمْ تَزَلْ
دمعةٌ في الحِبْرِ تبحثُ عَنْ نَبَضْ ،
جِئْتِ مِنْ ذَاكِرةِ الحَرْفِ المُبَلَّلِ،
بِالرُّؤَى،
بِالأُمِّ،
بِالطِّفْلِ السَّمي.

قُلْتُ:( انْتَظِرْني يَا مَقاعِدَ صَمْتي،
فَلَا الصَّدَى عَادَ،
وَلَا صَارَ صَمْتي،
وَلَا المَدَى يُصْلِحُ أَنْ يَحْتَوِيهِ،
مَا ظَلَّ مِنْ ضَحِكٍ عَلَى ظِلِّ صَمْتي.)

قَالَ الهَوَاءُ: (أَنْتِ مُنْسَابةٌ،
مِثْلُ سُقُوطِ الحَرْفِ في المَاءِ،
وأَنْتِ مَا بَيْنَ الضِّياءِ، وَسِرِّهِ،
فُتِّحْتِ لِلظَّنِّ،
لَا لِلْمَدَارِ.)

أَنَا( الَّتِي ظِلُّ مَداهَا انْحَنى)،
(والصَّوْتُ في الأَبْوَابِ مَا قَالَ: أَنَا)،
لا يَعْرِفُ الأَيَّامَ مَنْ كَانَ فيهَا،
ولا الحِكَاياتُ الَّتي أُنْكِرَتْنا.

أَنَا الَّتي سَرْبُ نَجَاتيَ مِنْهَا،
لَكِنَّني أَرْتَجِفُ الآنَ عَنْهَا،
أَمْشي ،
وَأُصْغي لِلصَّدَى في يَدَيَّ،
كَيْ أَرْتَقي مِنْ دُونِ مِيزَانِ مَنْفَى.
3
قُرْطُبةُ العُظْمى،
وَكانَتْ عَيْنَهُ،
عَيْنَ المَدَى،
والضَّوْءِ حِينَ انْتَبهْ.
في ظِلِّ مِحْرابِ الجَلالِ مَشى،
مُسْتَنْصِرُ اللهِ إِلَى مُنْتَهاهْ.

يَمْشي على سُوباطِهِ مُتَّئِدًا،
والنُّورُ فِي أَعْطَافِهِ مُشْتعِلْ.
كَانَ الهَوَاءُ العِطْرُ يَكْتُبُهُ،
حَرْفًا عَلَى الأَحْجارِ لَا يُزْمِلُ.

والجَامِعُ البَاكي تَهَادتْ بِهِ،
أَسْرَارُ آدَمَ حِينَ تَسْتكْمِلُ.

[أَهوِن بِما حَمَّلتِنيهِ مِنَ الضَنى
لَو أَنَّ طَيفَكِ كانَ مِن عُوّادي،
وَلَقَلَّما نَزَلَ الخَيالُ بِمُقلَةٍ
رَوعاءَ نافِرَةٍ بِغَيرِ رُقادِ]*
4
واليومَ... لَا سُوبَاطَ،
لَا مِنبرُ،
لَا مُسْتَنيرٌ فِي الدُّجَى يُنشَرُ
القَاهِرةُ الغَرَّاءُ فِي كَمدٍ،
والنِّيلُ لَا يَدْري مَنِ الحاكِمُ؟

يَحدُثُ أَنْ أَسْكُنَ فِي ظِلِّ دَرَجٍ،
حَيْثُ العَنَاوينُ بِلا أَيِّ نَهْجٍ،
أَطْرُقُ أَبْوَابَ رُؤًى خَاوِياتٍ،
وَأَبْكي صَمْتي بانْطِفَاءِ الفَرَجِ.

لِيَ فُؤَادٌ في انْتِظَارِكِ،
أَنْشُدُ
كُلَّ فَجْرٍ في ارْتِباكِ المَرْحَلةْ،
يَا ابْنةَ الرِّيحِ الَّتي لَا تَنْثَني،
كُوني
المَوْجَ
الَّذي
لَا يَرْحَلِ.
5
وَاسْكُبي فِي الصَّدْرِ مَا ضَيَّعْتُهُ
مِنْ يَقينٍ فِي العُصُورِ الحَائِلةْ،
رُبَّمَا وَجْهُكِ أُغْنِيةٌ تُرَى،
كُلَّمَا نَادَى الغَريبُ المَرْحَلَةْ.
6
كُلَّمَا نَامَتْ بِلَادي فِي دَمي،
قُلْتِ:( قُومي... فَالمَجازُ المُشْتبِكْ،
هُوَ تَرَاتيلُ البِدَايةِ حِينَما
يُولَدُ العَاشِقُ مِنْ جَمْرِ الفَلَكْ).
7
يَا ابْنةَ الذَّاكِرةِ المَنْفى،
إِذَا
خَافَ زَيْتُونُ الجِبالِ المُنْهكِ،
فَارْكَبي أَسْمَاءَ أَنْبِياءِ النَّوَى،
واسْجُدي لِلْحَرْفِ
إِنْ
لَمْ
يُنْهِكِ.

(الرُّؤْيَا تَتَفَتَّحُ فِي النُّورِ الْأَعْمَى)
8
فِي مَرَايا النَّارِ
وَجْهُكِ وَاقِفٌ،
كَاهِنًا
يَبْكِي المُدَى المُتَغَيِّرْ،...
مِنْ بَقَايَا الصَّمْتِ
نُفْلِتُ جَمْرَةً،
ونُعيدُ البَحْرَ
مِنْ بَحْرٍ مُغَيَّرْ.

فِي دَاخِلي أُنْثَى تَخيطُ الحَنينا،
بِالوَجَعِ الآتي كَصَوْتِ الأَنينِ،
خَيْطًا عَلَى خَيْطٍ تُطَرِّزُ دَمْعًا،
حَتَّى ظَنَنْتُ :
الوَجَعَ:
صَارَ قَريني.

قَالُوا:( عَلَيْها الغَيْمُ نَامَ ،
وَذَابا)،
(في خَدِّهَا ضَوْءٌ يُغَنِّي الغُرَابا،
لَكِنَّها تُمْطِرُ مِنْ ذَاتِ قَلْبٍ)،
والحُبُّ فِي دَمْعِ الدُّجَى :
قَدْ تَهَابا.
9
كَمْ حَمَلْنا في المُدَى تَابُوتَنا،
واحْتَمَلْنا آخِرَ الجُرْحِ الغَريبْ،
وَسَأَلْنا المَوْتَ: (هَلْ فِي نَزْفِهِ
جُرْحُنا)؟ (أَمْ ذَاكَ ظِلٌّ لَا يُثيبْ)؟
10
أَنْتِ مِنْ طِينِ الدُّخَانِ تَشَكَّلَتْ،
شَهْوَةٌ فِي القَمْحِ،
فِي جُرْحِ النَّبِي،
كُلُّ مَنْ مَاتُوا بِأَسْمَائِكِ انْحَنَوْا،
لِلظِّلَالِ،
وَلَمْ يَعُدْ غَيْرُ الصَّبي.
11
رَبَّةً كُنْتِ،
وَلَكِنْ لَمْ يَرَوْا
غَيْرَ جُرْحٍ في المُدَى يَتَأَلَّهُ،
كُلُّ بَابٍ لِلصَّبَاحِ سُدًى إِذَا
لَمْ تُفَتِّحْ كَفُّكِ الغَيْمَ المُعَلَّهْ.
12
فَاصْعَدي مِنْ بَيْنِ أُسْطُوري،
ولا..
تَتْرُكي لي غَيْرَ مَوْجٍ مُقْفِرِ،
آهِ مِنْ أُنْثَى تُرَتِّلُ حَتْفَها،
ثُمَّ تَبْني في الخَرابِ :
المِنْبَرا.

في وَجْهِها لَا شَيْءَ يَبْقَى خَفيَّا،
يَمْضي بِها الغَيْمُ غَريبًا شَقيَّا،
مَدِينَتُها مِنْ صَدًى أُنْثَويٍّ،
تَحْمِلُ لِلْغَيْمِ ارْتِبَاكًا رَئيَّا.

وَإِذَا سَأَلْتَ: مَنْ تَكُونينَ أَنْتِ؟
أَشَارَتْ لِظِلٍّ عَلَى بَابِ صَمْتِ،
وَقَالَتْ:( أَنَا مِنْ ضَيَاعيَ أَكْتُبْ،
وَجْهًا عَلَى المَاءِ... بِلَا أَيِّ نَعْتِ).
13
كُنْتِ تَعْبُرينَ الشِّبَاكَ...وهم
قد أضاؤوا غابةَ الأجفانِ لي
قُلْتِ: لَا تُوقِظْ رَمَادَ العَاشِقينْ،
فَالسَّوَادُ المُشْتَهى يَكْفي ليَ.
14
في مَرَاياكِ احْتِراقٌ غَائِمٌ
يَتَغَشَّى لَحْمَ هَذَا اللَّيْلِ بي،
كُلَّمَا زَاحُوا غُبارَ الهَاجِرينْ،
عَادَ صَمْتُ المِلْحِ يُنْهي مَذْهَبي.

مَنْ مِثْلُها تُوقِظُ صَمْتَ الحِجَارةِ،
وَتَغْسِلُ الشُّرْفَةَ مِنْ نَارِ غَارةْ؟
ثُمَّ تَمْضي دُونَ أَنْ يَلْمَحَ الرَّائي،
ظِلَّ اشْتِباهٍ فِي سَرَاديبِ حَارَةْ.

تَحْشُو الفَرَاغَ بِضَحْكَةِ سُهْدٍ،
وَتَبْتَسِمْ لِلسِّكِّينِ فِي العُهْدِ،
كَأَنَّهَا زَفَّةُ جُرْحٍ قَديمٍ،
تُخْفي ارْتِجَافَ النُّورِ فِي الجِلْدِ.

كُلُّ الَّذينَ مَرُّوا بِهَا عَابِرُونْ،
لَمْ يَعْرِفُوهَا، رَغْمَ أَنَّ العُيُونْ،
كَانَتْ تَرَاهَا فِي قُلُوبِ رُسُومٍ،
لَكِنَّهُمْ عُمْيٌ،
وَكَانَتْ سُكُونْ.
15
لَسْتُ ظِلًّا،
لَا نَبِيًّا في السُّطُورِ،
بَلْ شَظَايَا الرِّيحِ في صَدْرِ الكُسُورِ،
أَنَا نَارٌ،
صَاغَني شَكُّ الخُطَى،
واحْتَسَيْتُ الحَرْفَ مِنْ نُدْبِ الدُّهُورِ.

مَا أَنَا بِالوَجْهِ يَبْكي في السَّمَا،
أَوْ نِدَاءٍ سَافِرٍ في المُلْتَقى،
بَلْ أَنَا وَهْجُ احْتِمالاتِ الدُّجى،
وَشَهيدٌ سَكَنَ اللُّغْزَ ارْتَقى.

رَفَعْتُ حَرْفي كَأَنِّي صَاعِقٌ،
يُشْعِلُ الدَّرْبَ،
ويُغْري بِالمُحَاقِ،
في فُؤَادي لُغَةٌ لَا تَرْتَوي،
أَسْكَنَتْني الشَّكَّ فِي وَقْعِ السِّيَاقِ.
16
آهِ مِنْ أَسْمَاءِ مَوْتًى يَشْتَهُونَ
الظُّهُورَ الآنَ في نَصْلِ اللُّغَةْ،
مِنْ دُمُوعِ الطِّينِ،
مِنْ سُقْيا الشَّظَايا،
مِنْ غُبارِ الصَّوْتِ،
مِنْ تِلْكَ الفُوَهْ.

رَبَّةُ الأَنْهارِ – أَمْ هَذي دُمًى؟
تَتَكَسَّرْ؟ أَمْ سُهَادُ المُتْعَبينْ؟
قَدْ رَأَيْتُ الأَرْضَ أُنْثَى جَائِعَةً،
تَحْلُمُ الآنَ بِبَحَّارٍ دَفينْ.

[لَولا هَواكِ لَما ذَلَلتُ وَإِنَّما
عِزّي يُعَيِّرُني بِذُلِّ فُؤادي]*
17
فِي المُدَى يَنْمو قَميصٌ آخَرٌ،
لِلْ"حُسيْنِ" المَصْلُوبِ فِينا مَرَّتَيْنْ،
كُلُّ هَذَا الرَّمْلِ:
تَجْوِيفُ البُكاءْ،
كُلُّ مَا تَبَقَّى:
نِدَاءُ الطَّاعِنينْ.
18
قَالَ لي وَجْهُ الجِدَارِ المَائِلِ:
(كُنْ صُعُودًا... لَوْ سَقَطْتَ مِنَ العِيَانْ!)
قُلْتُ: (لَكِنِّي وُلِدْتُ الآنَ حَطًّا
بَيْنَ أَنْقَاضِ الغِيابِ ،
وَالبَيان)
19
أَيُّهَا الوَجْهُ الَّذِي لَا يُسْتَعَادْ،
هَلْ تُرَى صِرْتَ رَمَادًا في دَمي؟
أَمْ أَنَا صِرْتُ انْحِناءً فِي المُدَى،
حِينَ أَلْقَى ظِلِّيَ المَعْكُوسَ فيَّ؟
20
كُلُّ مَا مَرَّ عَلَى أَنْقَاضِنا
عَابِرٌ، وَالظِّلُّ أَوْفَى بِالثَّباتْ،
نَحَرُوا الوَقْتَ،
وَكَانَ الدَّمُ حِبْرًا،
فِي دَفَاتِرْنا،
وَفِي سُورِ الجِهاتْ.

يَا ارْتِجافَ الرَّمْلِ فِي صَدْرِ الحَجَرْ،
يَا بُكَاءَ الرِّيحِ فِي نَأْيِ السَّحَرْ،
جِئْتُ لَا أَرْضي نَبيًّا أَوْ شَرَرْ،
بَلْ زَرَعْتُ الشَّكَّ فِي جُرْحِ الصُّوَرْ.

يَا سِيزيفَ الجُرْحِ،
كَمْ فِيكَ المِدى،
كُلَّمَا صَعِدَتْ رُؤَاكَ انْهدَى،
كُلُّ نَفْسٍ تَصْطَلي مِنْ حِمْلِها،
ثُمَّ تَنْسَى الصَّخْرَ،
تُبْقِيهِ الصَّدَى.

يَا صَدَى الإِثْمِ،
وَيَا نَارَ السُّدَى،
كَمْ رَمَيْتَ الحَرْفَ فِي جُبِّ المَدَى؟
كَمْ عَلَّقْتَ السُّؤَالَ المُشْتبِهْ،
ثُمَّ رُحْتَ تَسيرُ فِي لَيْلِ الفِتَنْ؟

أَيُّهَا المَوْتُ،
تَمَهَّلْ،
إِنَّ فِي
كَفِّكَ الأُخْرَى رُؤًى لَمْ تُسْتفِ،
دَعْ يَدي تَكْتُبْ نَارَ الكَائِناتِ،
رُبَّما يُزْهِرُ شَكِّي فِي صَفي.

جِئْتُ لَا أَمْحُو غُبارًا فِي اليَديْنْ،
بَلْ لِأُبْقي لُغَةَ الغَيْمِ الحَزينْ،
لُغَةٌ تَكْسِرُ مَا فِينا سَكَنْ،
وَتَرَى في النَّارِ وَعْدًا لِلثَّمنْ.

هَلْ رَأَيْتَ الوَجْهَ فِي مِرْآتنا؟
إِنَّهُ ظِلٌّ مِنَ الغَيْمِ انْتَحى،
أَوْ نَبيٌّ عَلَّقُوا مِصْبَاحَهُ،
فِي خَرَائِبْنا،
وَمَا عَادَ انْتَحَى.

قُلْ (لِأُوديسَ انْتَهَتْ أَسْفَارُهُ)،
لَا رِيَاحٌ تُرْجِعُ الدَّرْبَ العَتِيقْ،
هُوَ حِبْرٌ تَاهَ فِي شَكِّ الدُّجَى،
لَيْسَ فِي البَحْرِ سِوَى صَمْتٍ غَرِيقْ.

[وَلَقَد بَعَثتُ مِنَ الدُموعِ إِلَيكُمُ
بِرَكائِبٍ وَمِنَ الزَفيرِ بِحادِ
إِنّي مَتى اِستَنجَدتُ سِربَ مَدامِعٍ
خَذَلَتهُ أَسرابُ الفِراقِ العادي]*
21
قِيلَ:( هَذَا الشِّعْرُ قَبْرٌ ثَانيًا)،
قُلْتُ: (بَلْ هُوَ اشْتِعالُ الكَائِناتْ،
مِنْ تَمَاهي جَسدِ الأُنْثَى بِحَرْفٍ،
مِنْ تَبَاريحِ الخَيالِ بِالصَّفَاةْ).

(قُرْطُبة: المِئْذَنةُ الَّتي مَشَتْ على المَاءِ)
قُرْطُبةُ الحُلْمِ الَّتي فِي دَمِهِ،
حَطَّتْ عَلَى المِئْذَنةِ مِنْ نَجْمِهِ.

يَمْشي على سُوباطِهِ كَاهِنًا،
يَحْمِلُ ظِلَّ العَدْلِ،
لَا الطَّاعِنَا،
لَا سَيْفَ يَجْرَحُ غَيْرُ نَصْلِ الضُّحَى،
فِي مَسْجِدٍ يَبْني المَدَى إِنْ بَكَى.

اللهُ فِي الأَنْدَلُسِ المَسْكَنُ،
وَالنَّقْشُ سَطْرٌ فِيهِ يُسْتَفْهَمُ.

[ما لِلزَمانِ يَذودُني عَن مَطلَبي
وَيُريغُني عَن طارِفي وَتِلادي]*

(نُبُوءَةُ الظِّلَالِ الْأُخْرَى)
22
قُلْ لِأُوديسَ:( انْتَهَتْ أَسْفَارُهُ)،
لَا رِيَاحٌ تُرْجِعُ الدَّرْبَ العَتيقْ،
هُوَ حِبْرٌ تَاهَ فِي شَكِّ الدُّجى،
لَيْسَ في البَحْرِ سِوَى صَمْتٍ غَريقْ.

كُنْتِ إِنْجيلَ الخَلَاصِ إِذَا ارْتَجَفْنا،
وَيَدًا تَكْتُبُ نَارًا بِالنَّخيلْ،
كُنْتِ وَعْدَ الأَرْضِ حِينَ انْكَسَرتْ
خَيْمَةُ الرَّمْلِ،
وَمَاتَ البِدْءُ مِيلْ.
[لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني
صَبٌّ قَدِ ٱسْتَعْذَبْتُ ماءَ بُكائي]*
23
أَنَا :(نَصٌّ هَارِبٌ مِنْ كَفِّ نَبيٍّ)،
أَنَا:( طُوفَانٌ بِنَارٍ لَمْ يَهَبْ)،
أَنَا :(تَارِيخُ الفَنَاءِ المُشْتَبِكْ،
فِي جِدَارٍ مِنْ رُؤًى لَا تَحْتَرِبْ).

كُلُّ مَا فِي الأَرْضِ ظِلٌّ لِلَّهَبْ،
لَا يُقِيمُ العَرْشُ فِي صَدْرِ السُّحُبْ،
لَا إِلَهٌ بَعْدَ هَذَا الانْكِسَارِ،
غَيْرُ مَنْ يُلْقي رَمَادَهْ فِي التُّرَبْ.
24
يَا بِلَادي،
مِنْ دِمَاكِ وُلِدْتُ نَارْ،
واسْتَحَلَّ الصَّخْرُ أَنْ يُلْقي الحِوَارْ،
سَوْفَ أَمْحُو لُغَةَ الخَوْفِ الَّتي
أَوْرَثَتْني ضَوْءَ مَوْتٍ ،
وَانْكِسارْ.

فَارْجِعي الآنَ إِلى مَجْرَى القَصيدَةِ،
واحْرِقي هَذَا الغيَابَ الأَبَديّ،
انْزِلي مِثْلَ انْخِطَافِ الأَنْبِياءِ،
وَافْتَحي لِلْغَيْمِ نَافِذةَ الرُّؤَى.

[أَقَشيبَ رَبعِهِم أَراكَ دَريسا
وَقِرى ضُيوفِكَ لَوعَةً وَرَسيسا
وَلَئِن حُبِستَ عَلى البِلى لَقَد اِغتَدى
دَعي عَلَيكَ إِلى المَماتِ حَبيسا]*

كودا*

بلاغُ الشعر الأخير
ما تبقّى من قصائدنا رمادٌ،
لكنّه رمادٌ يعرفُ كيف يلدُ المطر،
وما تبقّى من حبرنا،
ليس حبرًا...
بل هو فمُ الغائب،
ينادي على البابِ الأخير
باسمِ الأنثى التي ما عادتْ
رؤيا...
بي حزن ،
حين يتكلّم، لا يصدر صوتًا،
بل يُنبتُ على شفتيَّ طُحلب صمتٍ
يأكلُ الكلامَ قبل أن يولد.
وإذا ابتسمتُ،
فإنما أُرْهِبُ وجعي
كي لا ينهضَ في ملامحي كوحشٍ يعرفني أكثرَ مني…
لا شيء يربطني بالعالم
إلّا خيطا شفافا من الذكرى،
كلما جذبتهُ
نزفَ الزمانُ من بين أصابعي.
فأعودُ إلى حجرتي…
أضعُ السؤال على المنضدة،
وأرتّبُ حوله كؤوسًا من الضوءِ المتكسّر،
علّي أخدعُ الغيابَ
بأثاثٍ يشبه الحضور.
بي حزنٌ
يمشي حافياً فوق لغتي،
ويتركُ أثرهُ في ترتيب الجُمل،
فلا أكتبُ “أنا”
إلّا وأشعرُ أنني أقصدُ شخصًا
كان هنا،
وغادرَ قبل أن يعرفَ اسمه.

لم تكن القصيدةُ وصفًا لامرأةٍ/ مدينة ...
بل صوتًا هاربًا
من المرايا التي لا تعترفُ بنا
إلّا حين نكسرها.

في هذا المعرضِ المنسيّ،
كانت كلُّ اللوحاتِ امرأةً/ مدينة
تصرخُ من خلف الأُطر
كي يراها الرسّامُ
قبل أن يُلوِّنها.

يا رمادَ الوقتِ، يا نَبضَ البِلادْ،
ها أنا أُهديكِ وجهي للجهادْ،
لمْ أعدْ أرجو نُبوءَاتِ الطغاةِ،
إنّ موتي صارَ ميلادَ الاتّحادْ.

وَفِي النِّهَايَةِ... كُلُّ مَا نَكْتُبُهُ،
نَحْتٌ عَلَى جِدَارِ مَا نَفْقِدُهُ.
يَبْقَى الْبَيَاضُ ،
وَيَمُوتُ الصَّدَى،
فِي زَمَنٍ نَفْقِدُ فِيهِ الْمُدَى.

فَاذْكُرْ قُرْطُبةَ... إِذْ نَفْتحُ الْكِتابْ،
وَنَرْفَعُ القُبَّةَ فَوْقَ الغِيابْ.
سُوباطُهَا... ذَاكِرةُ النُّورِ،
وَنَحْنُ نَحْنُ... إِنْ بَقيَ الزُّورُ.

خامسًا/
(فَرَاشَةٌ تَخِيطُ صَمْتَ الحِجَارةِ)

فَرَاشَةٌ...
تُنَكِّسُ اللَّوْنَ الفَسِيفِسَائيَّ في قَصِيدَتِها،
وَتَخِيطُ صَمْتَ الحِجَارَةِ بِالضِّيَاءِ،
وَفِي جَنَاحَيْهَا:
خُرُوفَةُ زَغْبٍ،
وَقَصِيدةُ أَنْبِيَاء.

تُرَتِّقُ مِنْ ضُوءِ النَّدَى سُتْرَةَ الخَرَاب،
وَتُرَقْرِقُ الأَسْوَادَ فِي كَفِّ الرَّمَادِ.
لَا تَخَافُ التَّقَدُّمَ فِي الحُفْرَةِ،
وَلَا تَخَافُ انْشِطَارَ المَعْنَى عِنْدَ مُفْتَرَقِ الحِرَافِيشِ.

فَرَاشَةٌ،
تَتَصَدَّعُ فِي جَنَازَةِ قَصِيدَة،
تَلُفُّ كَفَنهَا بِمِئْذَنةٍ،
وَتَطيرُ...
لِتَكْتُبَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى جَبينِ الجُدْرَانِ:
إِنَّ الجَمَالَ هُوَ الوَصِيَّةُ الأَخِيرَةُ لِلرَّمَادِ.

سادسًا/ المئذنة التي بكت في المنام
(مرثيّةُ المئذنة)

الجامعُ الأعظمُ في قُرطبةْ،
يبكي على أعناقِ مَن خَرَّبَهْ،
النورُ في جُدرانهِ منطفئٌ،
والرَّوحُ في أفلاجِهِ مُغتربهْ.

مئذنةُ الحلمِ على ظلِّ الدُجى،
تسألُ:
أينَ العدلُ؟
أينَ المُبتدى؟
هل تراهُ النقشُ:
إن غابَ الهدى؟
هل ترى الأرواحُ:
إن ماتَ الصدى؟

سُوباطُها... ظلٌّ بلا عبقِ،
مِرآةُ ماضٍ،
عالقٍ في الحلقِ،
كانَ يُصلّي فيهِ وقتُ الخليفةِ،
صارَ أنينًا في دُخانِ الألفةِ.

اللهُ في النّقشِ...
ولكنْ خَفَتَا،
صوتُ الحجارةِ حينَ يُبكي الفُتَنَا،
كأنها تبكي على مئذنةٍ،
أنزلتْ وحدَها على سَحَنا.

(ما الذي يمزجُ في خارطتي هذي الدِّماءْ؟
... يبسَ الصّيفُ، ولم يأتِ الخريفْ)1*
1*أدونيس/ الوقت

سابعًا /جسرُ: سوباط المُستنصر: صعودٌ إلى المعنى
(الخليفةُ الأخيرُ يمرُّ)

مَرُّوا على سُوباطِهم خائفينْ،
مِن ظلِّهم،
مِن نَصلِهم،
مِن أنينْ،
لا السُيوفُ انحنتْ،
لا الصدى ارتفعا،
صاروا غُبارًا،
والزمانُ
وَهَنا.

ما عادَ مِحرابٌ يُقيمُ التُقى،
ولا المُصَلّى في الدجى نطقا،
الولاةُ كومةُ نَفسٍ ضائعةٍ،
والصدى... مأتمُ نَفسٍ أَفقا.

هَلْ يحكمُ الناسَ مَنْ لا يُرى؟
أم هل يقودُ النهرَ مَنْ قد عَرا؟
تحتَ عباءتِهِ الخرابُ انجلى،
يَحملُ سيفًا... في الضبابِ سُجى.

ناموا على أسرّةِ الانتظارْ،
والمجدُ في سُوباطِهم في احتضارْ،
لم تبقَ مِنْ كَفِّ الخليفةِ نارٌ،
غيرُ ارتجافِ الخُطى في المدارْ.

القسم الثاني:
المدنُ التي تُطفئ المآذن
اولًا/(وصيّةُ المدنِ الساقطة التي بأسمائها تحترق )
،
يا مدنَ الرملِ التي انحدرتْ،
هل كانَ هذا المجدُ من وَرَقِ؟
وهلْ بنينا الشرفَ فوقَ الرّدى،
حَتّى أضعناهُ كما الندَى؟

سُوباطُنا اليومَ بلا خُطونا،
لا ظِلَّ يسري،
ولا مئذنةْ،
لا حبرَ يُزهِرُ في حجَراتِنا،
غيرُ بكاءِ الوقتِ في الأزِمَةْ.

يا مَن تركتُم نقشَكمْ عابرًا،
فوقَ الخرابِ،
وفي فمِ العدمْ،
اكتبوا أسماءَكم مرةً،
حيثُ سَيَنهضُ من دَمٍ قَسَمْ.

قَسَمٌ بأن لا يُباعَ الأثَرْ،
أن لا يُخافَ النداءُ إذا انفجرْ،
أن نستعيدَ المآذنَ حُلمًا،
في قلبِ مَن ظلَّ،
لا مَن غَدَرْ.

ثانيًا/قرطبةُ: حينَ تنقشُ الجدرانُ النورَ

(وَشْمٌ على وَتَرِ الغِيابِ)
1
في وجهِها تختبئُ الشُرُفاتُ،
وتتبعثرُ المدنُ الرِّحْلهْ،
تمرُّ بي المرآةُ عبر ظلٍّ،
كأنّها نارٌ بها الواجهاتُ.
2
في المدى تنمو خطاكِ كأنّها
أغنياتٌ في ارتباكِ المشرَفِ
أنتِ في الريحِ البعيدةِ منْزلي
ومدى قلبي المضيءِ المرهَفِ
3
تمشي،
وظلُّ الخطوِ يروي سكوتي،
ويشهقُ الدربُ بتأويلِ صوتي،
كأنّني ومضةٌ من نُفاياتٍ،
تُغني خرابًا في رؤى هُويّتي.
4
أينَ يا أنثى الغمامِ خطوتُكِ؟
كلّ هذا الليلِ ملكٌ منكِ لي
كلّ ما في الحلمِ من رقصِ الضُحى،
ومن النارِ التي لم تشتعلْ
5
جئتِ من أفقِ القصيدةِ،
لم تزلْ..
دمعةٌ في الحبرِ تبحثُ عن فَمِ
جئتِ من ذاكرةِ الحرفِ المبلّلِ
بالرؤى،
بالأم،
بالطفلِ السَّمي
6
قلتُ:( انتظرني يا مقاعدَ صمتي)،
فلا الصدى عادَ،
ولا صارَ صمتي،
ولا المدى يصلحُ أن يحتويهِ،
ما ظلّ من ضحكٍ على ظلِّ صمتي.
7
قالَ الهواءُ: (أنتِ منسابةٌ،
مثلُ سقوطِ الحرفِ في الماءِ)،
و(أنتِ ما بينَ الضياءِ ،
وسرّهِ)،
فُتّحتِ للظنِّ،
لا للمدارِ.
8
أنا: التي ظلُّ مداها انحنى،
والصوتُ في الأبوابِ ما قالَ: أنا،
لا يعرفُ الأيامَ من كانَ فيها،
ولا الحكاياتُ التي أُنكِرَتْنا.
9
أنا: التي سَربُ نجاتيَ منها،
لكنّني أرتجفُ الآنَ عنها،
أمشي،
وأصغي للصدى في يديّ،
كي أرتقي من دون ميزانِ منفى.
10
قرطبةُ العُظمى،
وكانَتْ عَينَهُ،
عينَ المدى،
والضوءِ حينَ انتَبَهُ،
في ظلِّ محرابِ الجلالِ مشى،
مستنصرُ اللهِ إلى منتهاهُ.

في مرايا النارِ وجهُكِ واقفٌ
كاهنًا
يبكي المدى المتغيّرْ،
من بقايا الصمتِ
نُفْلِتُ جمرةً،
ونُعيدُ البحرَ من بحرٍ مُغيَّرْ.
11
يمشي على سوباطهِ مُتّئدًا،
والنورُ في أعطافهِ مُشتعِلُ،
كانَ الهواءُ العطرُ يكتبُهُ،
حرفًا على الأحجارِ لا يزملُ،
والجامعُ الباكي تهادَتْ بهِ،
أسرارُ آدمَ حينَ تستكملُ.

في داخلي أنثى تخيطُ الحنينَ،
بالوجعِ الآتي كصوتِ الأنينِ،
خيطًا على خيطٍ تطرّزُ دمعًا،
حتى ظننتُ الوجعَ صارَ قرينِي.
12
واليومَ... لا سُوباطَ لا منبرُ،
لا مستنيرٌ في الدجى يُذكَرُ،
القاهرةُ الغرّاءُ في كَمدِ،
والنيلُ لا يعرفُ مَن يُحكِّمُهُ،

قالوا: (عليها الغيمُ نامَ وذابا)،
(في خدِّها ضوءٌ يُغني الغرابا)،
لكنّها تمطرُ من ذاتِ قلبٍ،
والحبُّ في دمعِ الدجى قد تهابا.
13
يحدثُ أن أسكنَ في ظلِّ درجٍ،
حيثُ العناوينُ بلا أيّ نهجٍ،
أطرقُ أبوابَ رؤًى خاوياتٍ،
وأبكي وجدي بانطفاءِ الفرجِ.

كم حملنا في المدى تابوتَنا،
واحتملنا آخرَ الجرحِ الغريبْ،
وسألنا الموتَ: هل في نزفهِ جُرحُنا؟
أم ذاكَ ظِلٌّ لا يثيبْ؟
14
لي فؤادٌ في انتظاركِ، أنشُدُ
كلّ فجرٍ في ارتباكِ المرحلةْ،
يا ابنةَ الريحِ التي لا تنثني،
كوني الموجَ الذي لا يَرحلِ.

أنتِ من طينِ الدخانِ
تشكّلتْ شهوةٌ في القمحِ،
في جرحِ النبي،
كلّ من ماتوا بأسمائكِ
انحنوا لِلظلالِ،
ولم يَعُدْ غيرُ الصَبِي.
15
واسكبي في الصدرِ ما ضيّعتُهُ
من يقينٍ في العصورِ المائلةْ
ربّما وجهُكِ أغنيةٌ تُرى
كلّما نادى الغريبُ المرحلةْ

ربّةً كنتِ،
ولكنْ لم يروا
غيرَ جرحٍ في المدى يتألهُ،
كلُّ بابٍ للصباحِ سُدًى
إذا لم تُفتِّحْ كفُّكِ الغيمَ المُعَلَّه
16
كلّما نامتْ بلادي في دمي
قُلتِ: (قومي.. فالمجازُ المشتَبِكْ
هو تراتيلُ البدايةِ حينما
يولدُ العاشقُ من جمرِ الفلكْ)

فاصعدي من بين أسطوري،
ولا تتركي لي غيرَ موجٍ مُقْفِرِ،
آهِ من أنثى تُرتِّلُ حتفَها
ثم تبني في الخرابِ المنبرَ.
17
يا ابنةَ الذاكرةِ المنفى،
إذا
خافَ زيتونُ الجبالِ المُنهَكِ،
فاركبي أسماءَ أنبياءِ النوى،
واسجدي للحرفِ:
إنْ لم يُنهِكِ.

في وجهِها لا شيءَ
يبقى خفيّا،
يمضي بها الغيمُ غريبًا شقيّا،
مدينتُها من صدى أنثويٍّ،
تحملُ للغيمِ ارتباكًا رئيّا.
18
في مرايا النارِ وجهُكِ واقفٌ
كاهنًا يبكي المدى المتغيّرْ،
من بقايا الصمتِ نُفلتُ جمرةً
ونُعيدُ البحرَ من بحرٍ مُغيَّرْ.

وإذا سألْتَ: (مَنْ تكونينَ أنتِ؟)
أشارتْ لظِلٍّ على بابِ صمتِ،
وقالتْ: (أنا منْ ضياعيَ أكتبْ،
وجهًا على الماءِ...
بلا أيّ نعتِ).
19
في داخلي أنثى تخيطُ الحنينَ،
بالوجعِ الآتي كصوتِ الأنينِ،
خيطًا على خيطٍ تطرّزُ دمعًا،
حتى ظننتُ الوجعَ صارَ قرينِي.

لستُ ظلًّا،
لا نبيًّا في السُطورِ،
بلْ شظايا الريحِ في صدرِ الكسورِ.
أنا نارٌ،
صاغَني شكُّ الخُطى،
واحتسيتُ الحرفَ من نُدبِ الدُهورِ.
20
قالوا:( عليها الغيمُ نامَ وذابا،
في خدِّها ضوءٌ يُغني الغرابا)،
لكنّها تمطرُ من ذاتِ قلبٍ،
والحبُّ في دمعِ الدجى قد تهابا.

ما أنا بالوجهِ يبكي في السَما،
أو نداءٍ سافرٍ في الملتقى،
بل أنا وهجُ احتمالاتِ الدجى،
وشهيدٌ سَكَنَ اللغزَ ارتقى.

(فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..
واهتزَّ قلبي كفقاعة وانفثأ!)2*

ثالثًا/. مرثيّةُ دمشق
(دمشقُ... في وجهِ المئذنةِ المصلوبة)

دمشقُ... هلْ ضاعتْ مآذِنُكِ؟
أم عُلِّقتْ في الريحِ كالغُصَصِ؟
كانتْ تقولُ اللهُ، فارتجفَ
فيكِ الجمالُ،
وساحَ في النُّحَسِ.

لا نهرَ بردى يُغنّي الآنَ،
صارَ ظلًا باكيًا في الحطبْ،
ولا صدى للمزنِ في جَبَلٍ،
إلّا ارتعاشَ الموتِ في الغضبْ.

صارتْ مآذِنُكِ اشتعالَ هوًى،
تُقصَفُ، تُطفَأُ... ثم تُرتَهَنُ،
وأنتِ يا أنثى البكاءِ... ترى،
مَن كانَ فيكِ يُصلِّي، مَن سَكنُ؟

يا وردةَ الشرقِ التي انطفأتْ،
هل يزهرُ العشقُ من المحنِ؟
هل يكتبُ الشامُ من دَمِهِ،
إنجيلَهُ الثاني على الكَفَنِ؟

دِمَشْقُ: (سَهْمُ المَرَايا المَكْسُورةِ)
(المرايا والرصاصة)
دِمَشْقُ...
يَتْرُكُكِ النَّبْضُ فِي خَفْقَتيْنِ،
وَيَنسَى الوُضُوءَ...
فِي زَمْزَماتِ الظِّلالِ الْقَديمَةِ،
حِينَ تَكُونينَ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَالُ،
وَأَقَلَّ مِمَّا يُقَالُ.

فِي كُلِّ سَهْمٍ تَصَوَّبَ نَحْوَ مَرَاياكِ،
شَاهِدُ سِرٍّ،
وَحِكْمَةُ شَجْرَةٍ مَنْسيَّةٍ فِي جَبينِ الرُّؤْيا.

أَأَنْتِ مَدينَةٌ...
أَمْ قُبْلَةٌ طَاحِبَةٌ عَلَى فَمِ النُّبُوءَاتِ؟
أَمْ أَنْتِ طَيفٌ يُبَعْثُ كُلَّمَا مَاتَتِ الْجُمَلُ؟

كُنْتِ رُؤْيَا،
فَصِرْتِ خُرافَةً،
ثُمَّ رَصَاصَةً...
فِي بَيْتِ شَاعِرٍ مَذْبُوحٍ مِنْ وَرَقِ.

(كلما ناديت ذاك الجرف عاد
صوتك الخابي مع الريح وأمطار الرماد)3*

رابعًا/. بغدادُ: شطُّ الأسى
والكتب
(بغدادُ... حينَ يُطفأُ النِّداء)

بغدادُ، يا نافذةَ الحبرِ،
هل تذكُرينَ المئذنةْ؟
حينَ كانَ الدمعُ قرآنًا،
وكانتْ كفُّكِ المؤتمنةْ؟

اليومَ وجهُكِ في الشظايا،
في الدخانِ المُنهكِ الحلمْ،
لا نخلَ يُسقِطُ ضوءَهُ،
لا دجلةٌ تمشي على العِلمْ.

جُرْحٌ على جُرحٍ،
وفي الأسوارِ يبكي الصبرْ،
أطفأتِ حتى منبرَ الندبِ،
واستوى فيكِ الظلامُ،
والفجرْ.

لا المُدنَى صوتٌ،
ولا المُقامُ وطنْ،
كأنّ فيكِ القصيدةُ انفطرتْ،
فارتجفَ التاريخُ من زَفرةِ الخُطى،
واختبأَ المجدُ...
واختنقتِ السُوَرْ.

بَغْدَادُ:الطين،
والنسيان
( نَارُ النِّسْيَانِ تَمْشِي فِي الطِّينِ)

بَغْدَادُ...
لا حُلْمٌ،
ولا مَهْدٌ،
ولا وَطَنٌ،
صَارَتْ جُرَاحًا فِي الزَّمَانِ تُقِيمُهَا الفِتَنُ.

في الطِّينِ مِشْيَتُها،
وفي النِّسْيَانِ أَغْنِيَةٌ،
مَذْبُوحَةٌ،
كَأَنِينَ مَنْ لَا نَصَّ يَحْتَضِنُ.

قَالُوا: سَتَرْجِعُ،
كَانَ فِي الأَحْلَامِ مَوْعِدُهَا،
قُلْنَا: (وَمَنْ لِلرَّمَادِ يَحْفَظُ الزَّمَنُ؟)

كُلُّ الخُلَفَاءِ سَرَوْا عَلَى أَشْلَائِهَا،
وَالمُلْكُ فِي عَيْنِهَا أَشْوَاكُ مَنْ فَتَنُوا.

يَا بَغْدَادُ...
لَا يُقِيمُ اللَّيْلَ فِي مِئْذَنَاتِكِ إِلَّا النَّائِحُونْ،
وَلَا تَجُودُ الحَجَرَاتُ بِالرُّوحِ،
إِنْ ..
رَكَنُوا.

فَامْشِي كَمَا الْمَاءِ فِي الْجُرْحِ المُقَدَّسِ،
لَا شَيءَ يُدْرِكُ فِي طِيْنِكِ مَنْ سَكَنُوا.

خامسا/. القاهرة: الموتُ في قلبِ الحكاية
(القاهرةُ... على سورِ الغياب)

القاهرةْ... أيُّ ضوءٍ فيكِ أُطفِئَ؟
أيُّ قُبّةٍ من نخيلِ الروحِ أُقفِرَتِ؟
كأنّ أهرامَكِ تمشي مائلةً،
والنيلُ جفَّ...
ومآذِنُكِ اعتذَرَتِ.

كانَ فيكِ الأزهرُ الفجرُ إذا
هَمَسَتْ خطاهُ إلى مَدَياتِ النُّدَى،
واليومَ لا ظلَّ لشيءٍ يبتدِي،
غيرُ شُباكٍ على جُرحٍ بدا.

فيكِ صمتُ الحبرِ،
فيكِ دمعةُ المعنى،
فيكِ مِنْ ألفِ كتابٍ مَأْسَدةْ،
منْ حكاياتٍ تُباعُ في العَلَن،
للذي خانَ الدفاترَ...
واستبدّ.

أينَ صوتُ العدلِ؟
أينَ نهجُهُ؟
أينَ مَن في الفجرِ يُسقِطُ جَبَها؟
كلُّ سلطانٍ على قُبّةِ هوى،
كالسحابةِ... تنزوي كي تَنسَجَ الوَهى.

القَاهِرَةُ: (عَتَبَاتُ الكُرْسيِّ الفَارِغِ)

القَاهِرَةُ...
كُرْسيٌّ فَارِغٌ فِي ظِلِّ مِئْذَنةٍ،
تَبْكِي على جِدَارِ خَيْبَتِها المَآذِنُ.

لا حَاكِمٌ،
لا رَايةٌ،
لا مُقْعِدٌ ذَهَبٌ،
كُلُّ الذِّئَابِ تَقَاسَمَتْهَا...
وَدَفَنُوا.

مَا بَيْنَ نِيلٍ جَائِعٍ،
وَخُطًى مُرَّةٍ،
تَسْرِي كَصَوْتٍ فِي السُّرَادِقِ لَوْ نَحَنُوا.

كُلُّ الحِكَايَاتِ الَّتِي وُلِدَتْ عَلَى فَمِهَا،
قَتَلَتْهَا فِي الدَّمِ الرَّاخِي... فَاحْتَرَقُوا.

يَا أَيُّهَا الكُرْسِيُّ... مَا لَكَ فَارِغًا أَبَدًا؟
أَمْ أَنْتَ مَذْبَحَةٌ لِمَنْ فِيهَا تَجَمَّهَرُوا؟

سادسًا/. جامعٌ بلا ظلٍّ
(القُدْسُ... حينَ صُلِبَ النداءُ)

القُدسُ... يا بوّابةَ الوَحيِ،
كمْ دَمَعَتْ فيكِ المآذنُ صُلبى؟
هلْ تُصلّي الحجارةُ الآنَ، أم
أنّها تَستجيرُ من الغَلبى؟

فيكِ يمشي الأنبياءُ على صَدى،
مِنْ خُطى غابوا... ولم يَرجِعُوا،
والرُّبى قد غُرِستْ بالشّظايا،
والمدى صارَ ضوءَهُ موجعُ.

منْ يُؤَذِّنُ فيكِ؟
مَن يَستقيمُ؟
والمناراتُ تَخنقُ الصّلواتْ،
لا ظلالٌ للسلامِ،
ولا..
وعدُ أرضٍ،
ولا نُبوءَاتْ.

يا نداءَ التكوينِ،
يا أيّها
المُعلّقُ فوقَ جِدارِ الحنينْ،
مَنْ تَرى ينقُشُ اللهَ فيكِ؟
والمَدَى مُصطلًى،
والنبيُّ سجينْ

سابعا/قُرْطُبَةُ:( الخُطْوُ الأَخِيرُ عَلَى حَافَةِ الحُلْمِ المَكْسُورِ)

قُرْطُبَةُ...
يَا ظِلَّنَا الهَارِبَ فِي زَفْرَةِ التَّارِيخِ،
كَيْفَ يُعَادُ النُّشِيدُ
إِذَا تَكَسَّرَ فِي حَنَاجِرِ الحُجَّابِ؟

هَلْ كَانَ فِي حُلُمِ الخَلِيفَةِ مَاءٌ كَافٍ،
لِيَغْسِلَ الغُبَارَ عَنِ السَّرَابِ؟
أَمْ كَانَ يَكْتُبُ فِي النُّجُومِ اسْمَهُ،
وَيَتْرُكُ التَّأْرِيخَ يَكْتُبُ فِي التُّرَابِ؟

قُرْطُبَةُ...
لَا تَسْكُنِي الحُلْمَ،
فَقَدْ مَاتَتْ فِي الرُّؤْيَا خُطَانَا،
وَبَقِيَتْ حِصَاةٌ وَاحِدَةٌ...
فِي الجُبِّ تَبْحَثُ عَن يُوسُفٍ.

(الحَضارة نَقّالةٌ،
والمدينهْ
وردةٌ وثنيّهْ
خيمةٌ:
هكذا تبدأ الحكايةُ أو تنتهي الحكايَهْ)4*

ثامنا/
1-يا ابنةَ الغيمِ،
لا ترحلي
(صَنْعَاءُ... حينَ انكسرَ الآذانُ)

صَنْعَاءُ... يا رَئةَ النُقوشِ على المدى،
كيفَ استباحَ السيفُ ،
وحيَ
المِئذَنهْ؟
كانَتْ تُؤَذِّنُ بالحنينِ،
وتنتشي،
فيها السُكونُ...
وقد تهاوى لحنُهَا.

يا نخلةَ الإيمانِ بينَ رُبى الهُدى،
ما بالُ زادِكِ في المساءِ مُدنَّسُ؟
مَن داسَ حنَّاءَ المساجدِ حينَما
شاخَ الغيابُ،
وخانَهُ المُتَنَسِّسُ؟

صَنْعَاءُ... يا رئةَ السماءِ المبلَّلَه،
ضاعتْ مفاتيحُ العقيقِ بنَحْرِكِ،
من يَرْسمُ الآياتِ فوقَ جبينِها؟
والقاتُ أَضحى شاهِدًا في قبرِكِ.

ما عُدْتِ إلا ظلَّ ذاكرةٍ تنوءُ،
تبكي المساءَ، وتَختفي في المُعتِمِ،
أينَ الذي في حضنِكِ ارتقى دُعاهُ؟
ضاعَ المؤذّنُ...
وابتغى فيكَ الختَمِ.

(صنعاءُ تحتَ ثلوجها الصيفية، الخفِرات
تصحو او تنام!)5*

2-(سِدْرَةُ عَدَن)
1
أُحاورُ عدنْ،
فتُوشوشُ صنعاءُ سرَّ المدى،
تسيرُ معي الأُولى،
والثانيةْ
تُغسِّلُ عني حُزْنَ التلالِ المعتَّقِ في زفرةٍ قادمةْ...
2
تُسنِدُني سِدرتُها،
تُظلّلُني بالعَرْعرِ الرابضِ المتعبِ،
تحضُنني أعشاشُ الوطنِ،
وبيوتٌ يَغفو على بابِها النبضُ،
تتبعني درجاتُ الحنينِ
في الهبوطِ...
في سهلِ "تِهامةَ"،
في عشبِها،
في نباتٍ يُلامسُ صخرَ المجازِ،
وينفجرُ الأفقُ المتخمُ
بالسّعفِ المتعبِ.
3
هناكَ،
تُرضِعُني الماءُ:
نخيلًا... أراكا... طلحًا...
وحشائشَ لا تفهمُ اللغةَ،
لكنّها تعرفُ الشعرَ في ذاتها.
4
وكنتُ أرى في "عدنْ"
طفلةً تحملُ النورَ في كفّها،
تشدُّ عُرى المستحيلِ إلى جسدٍ يحترقْ،
ترشُّ الندى في جروحِ المدينةِ،
ترتقُ فوق "الشعيبةِ" وقتَ الظلالِ
قميصَ الأزقّةِ،
تبني وراءَ الممراتِ حلمًا،
وتكتبُ في الجدرِ عند الغيابِ:
"أنا عدن".
5
فيا أيها السائلونَ
عن النورِ في جُرحِنا،
عن وطنٍ مُرتجى،
عن دمعِ النخيلِ إذا ما تهاوى على نفسِهْ،
أجيبوا على الحُلمِ لو مَرَّ يومًا بعينِكمُ:
كم يُصلّي النخيلُ لكي يستقيمَ البصرْ؟!
6
وإني رأيتُ "عدنْ"
في خيالِ الرمادِ،
تنامُ على سدرةِ المُنتهى،
وتبكي،
كما يبكي النجمُ إن أشرقَ الدربَ،
لكنّهُ لم يَجِدْ
من يُعيدُ السبيلَ لنفسِه.
7
فيا سدرةَ الحلمِ في قلبِ "عدن"،
ظِلّي علينا...
ولا تَستحي من نُدوبِ الجراحِ،
فمَن يحفُرُ الآنَ أُنْشُودَةَ الرملِ والماءِ،
يَقدِرُ أن يُوقظَ الوحيَ
في لهفةِ الأرضِ للآخِرَهْ.

تاسعًا(حين تمشي المئذنة على الماء)

1-الأندلس / الداخل / الرندي
( كِتَابُ اللُّغَةِ الأُولَى)

قُرْطُبةُ الحُلمِ الَّتي في المَدَى،
لَا تَزَالُ الرِّيحُ فِيهَا تَنْتَحِبْ،
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: التيهُ دَمي،
ثُمَّ مَشَّى الظِلَّ،
وَاسْتَسْقَى الغُرُبْ.

وَأَبُو البَقَاءِ بَكَى:لكُلِّ شيءٍ إِذَا تَمَّ نُقْصَانُ... لا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ*
فَمَا حَزَّ الْخُطُوبْ؟
قَالَ: هَلْ تَبْقَى الدِّيَارُ إِذَا غَفَتْ؟ أَيْنَ مَنْ قَرَأُوا،
وَمَنْ صَلُّوا الكُتُبْ؟*

2-العراق / الرشيد / الكوفي

وَبِغَدَادَ،
اِخْتَنَقْنَا فِي الدُّجَى،
وَالرَّشِيدُ انْطَفَأَ في نَبْرِ السُّؤَالْ،
قَالَ: (مَنْ يُعِيدُ النَّايَ فِي سُوقِ الهَوَى،
بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ لِلْيَأْسِ الْمُحَالْ؟)

وَالْكُوفِيُّ الَّذِي قَالَ: ابْكِها،
لَا خِلافَاتٌ،
وَلَا شَمْسٌ تُقَالْ،
قَدْ غَزَانَا التَّترُ،
وَانْهَارَ الدُّرُوبْ،
فَسَلُوا الصُّبْحَ: أَلَمْ يَبْقَ الرِّجَالْ؟

وَالْكُوفيُّ يَسْأَلُ:
(يا دار ما صنعت بك الأيام... يا دار أين الساكنون،
وأين ذياك البهاء)
(والله من بعد الضياء ظلام... لا يبقَ في ذاك المقام مقام)

تاسعًا/(مَدينَةٌ تَنْظُرُ مِنْ ثُقْبِ الرَّمَادِ)

لَا تَسْأَلي عَنْهَا...
فَإِنَّ الوَجْهَ مُنْكَسِرٌ،
وَالبَابُ مُذْ سَقَطَتْ،
يُنْبِتْ دُمُوعَ الجِدَارِ.

مَدِينَةٌ...
تَتَكَوَّرُ الآهَاتُ فِي جُدُرَانِهَا،
وَتُشيرُ لِلْغَائِبِ: هُنَا كَانَتْ يَدِي.

لَا شَاهِدٌ...
إِلَّا غُيُومٌ فِي حِجَارَتِها،
وَسُورُهَا المُتَشَقِّقُ يَذْبَحُ مَنْ مَرَقْ.

مَاذَا تُسَمِّينَ الرَّمَادَ،
إِنْ بَقيَ
فِي رُوحِكِ الصَّوْتُ...
وَلَا أَحَدٌ سَمِعْ؟

ما هو التاريخ ؟ إنه قرون من الاستكشاف المنظم لسر الموت، وعلى الموت ...؟؟*6

القسم الثالث :
(الأنثى والغيابُ والرؤيا)

أولا/(أنثى من نارِ الرؤيا)

تَمشي إليَّ...
وفي خطاها يشتعلُ الضوءُ،
وترتجفُ المرايا إنْ تنفّستْ!

أعرفُها...
كانتْ تُعلِّقُ في دمي ظلَّ الحنينِ،
وتَسقي يَبابَ أيّامي نَدى الكتمِ.

ليستْ من الطينِ،
بل نُسِجتْ من شهقةٍ في نَصِّ نبيٍّ،
ومن لُغةٍ تَرتقُ الغيابَ بخُيوطِ الدمعِ.

قالتْ:
“أنا لستُ امرأةً...”
بل رعشةُ المدى حينَ يُوشِكُ أن يقولَ...
ثمّ يصمتْ!

أنا نبوءتُك المصلوبةُ بينَ يديكَ،
وما من صليبٍ سوى هذا الجسدْ.

أنا النارُ...
تَكْتبُكَ حينًا،
وتَحرقُكَ حينًا،
وفي كِلتا الحالتين:
تولدُ شاعرًا.

صرتي،
حينَ كُنتِ تُهجينَ الضوءَ في دمعي.

ثانيًا/-(غِيابٌ يَسكنُني باسمِكِ)

في الغيابِ...
يتفتّحُ اسمُكِ كوردةٍ
لا تُرى في حديقةِ النسيانِ.

وأنا؟
أُردّدُهُ بيديَّ، كأنّني
أُنقّبُ عن يقينٍ في الظِلالِ.

ما اسمُكِ؟
سؤالٌ ظلَّ يتلوّى داخلي،
كالعروقِ النازفاتِ بخافقي.

حينَ كُنتِ تُهْدينَ ضيءَ دموعِنا،
يَهتدي في دمعتي سِرُّ الجمالِ.

في الغيابِ...
كنتِ تكتبينني على الجدارِ،
المهجورِ،
كالصوتِ المقيَّدِ بالوبالِ.

غِيابُكِ...
ما هو الفقدُ،
بل الحُضورُ
في دُجى الأشياءِ...
سكنى الاحتمالِ.

أن تكوني في دمي دونَ افتقادٍ،
أن تسيري في يديّ كالسؤالِ...

تسكنيني،
كما الحنينُ سكَنَ النَفْسَ،
وكما يَروي الغيابُ اعتدالِي.

(أوصدي الباب فدنيا لست فيها
ليس تستأهل من عيني نظرة
سوف تمضين و أبقى أي حسرة
أتمنى لك ألا تعرفيها)7*

ثالثًا/-(كِتَابُ اللُّغَةِ الأُولَى)
في يدي...
كانَتِ الخصلةُ منْ غيابِكِ،
تَنْمو، كأنَّ الليلَ نسجَتْهُ يداكِ.

وفي صدري...
وترٌ مهجورٌ
ظلّ يُرتِّلُ نغمةَ الحنينِ،
كأنّهُ جسدٌ يُسافرُ دونَ ظلٍّ،
أو سَحابٌ ضلَّ نافذةَ العيونِ.

قلتُ: (هلْ أنتِ الحقيقةُ؟)
أم (وَهْمُ منْ
ضيّعوا النورَ بأقفالِ الفَجَرْ؟)

قالَ لي الحُزنُ:
(هي وَشْمٌ على الوترِ الأخيرِ...
إنْ تُغَنِّهْ... يَنزِفُ الوَتَرْ).

(أرض ضيقة هي تلك الأرض التي نسكنها و تسكننا.)8*

رابعا(قَالَتْ: أَنَا مِنْ ضَيَاعِيَ أَكْتُبُ)

قَالَتْ:( أَنَا مِنْ ضَيَاعيَ أَكْتُبُ،
مِنْ خَيْطِ دَمْعٍ،
فِي الْغَياهِبِ يَثْقُبُ.
ما لي سِوَى رَمْلِ الحَنينِ ،
وَحِبْرِهِ،
وَجِرَاحِ نَفْسي،
حِينَ لَا يَتَطيَّبُ).

كُلُّ الْكَلَامِ الَّذِي بَقيَ عَلَى فَمي،
مُنْذُ افْتِتَاحِ اللَّيْلِ،
وَالعُمْرُ يُخْتَصَبُ.
قَالُوا:( أَتَكْتُبُ فِي السُّرَادِقِ مُبْصِرًا؟)
فَقُلْتُ: (مَا ضَاعَتْ عُيُوني... تُغْتَصَبُ!)

مَا بَيْنَ جَفْني،
والمَدَى،
ومَآقِهِ،
تَبْكي الحُرُوفُ،
وفي الدِّمَاءِ تَتَعَمَّدُ.
هَذي يَدي...
مِرْوَحَةٌ تُطَهِّرُ وَجْهَها،
والعُمْرُ يُقْرَأُ في الضِّيَاعِ،
ويُكْتَبُ.

خامسًا/(كأنّها الرِّيحُ تمشي على لُغَتي)
1
كأنَّها الرِّيحُ... تمشي على لغتي،
فتَهْتَزُّ أشجارُ صمتي في انكساري.
تمرُّ كأنفاسِ ماضٍ تُرَقْرِقُني،
وتَسكُنُ مثلَ ارتعاشِ السِّرِّ في داري.

تُبلّلُ في الحرفِ معنى الحنينِ،
وتَنسِجُ وجهي على نارِها،
ثمّ تمضي،
ولا يتبقّى سِوى
لهفةٍ في الرمادِ،
وأقمارِها.
2
تُمرِّرُ أسماءَها فوقَ أوردتي،
فأنزفُ ما لَمْ يُقلْ في العُيونِ،
كأنّي طَنينُ النوافذِ حينَ
يُهاجرُ منها الغمامُ الهَجينُ.

تُعيدُ الغيابَ إلى مَعجَمي،
وتنسى يديَّ على الطاولةْ،
كأنّي أنا...
سِفرُها المُنقَطِعْ
حينَ سُجِّلَ باسمِ السَؤالِ ارتحالُهْ.
3
كأنّي أراها تمرُّ... ولا
تستقيمُ الخطى في تقاويمِها،
كأنّي أراها،
ولستُ أراها،
سوى جرحِ وجدٍ يُعَلِّمُني مَن أنا.

تُوشوشُ في القلبِ:
كُنْ ما تشاءُ...
فصوتي الظليلُ دليلكَ في الانثناءْ.

كأنّ اللغاتِ التي أبصرتني،
تُفتِّشُ عنها،
كأنَّ الزمانَ على راحَتيها
تكسّرَ...
وانطفأَ الارتقاءْ.
4
كلُّ هذا البُعدِ في صمتِ يديكِ،
لم يَعُدْ يوقِظُ فيَّ الانتماءْ،
كنتِ أغنيةً تشقُّ سكونَنا،
ثمَّ تمضي...
دونَ معنى،
أو دعاءْ.

كلُّ ما في الريحِ من صوتِكِ ضاعَ،
كلُّ ما في الليلِ من دفءِ اختفى،
كلُّ هذا الضوءِ في الذاكرةِ الآنَ،
غُبارٌ في احتمالاتِ الصفا.
5
كأنّي نسيتُ الطريقَ إليكِ،
والخطى لم تَعُدْ تشبهُ الأنفاسْ،
كأنّي ظلالٌ تُفتّشُ وهمًا،
عن صدى الوقتِ في كفِّ نبراسْ.

وجهُكِ الآنَ غيمةٌ في المدى،
يستبدُّ الحنينُ فيها...
ويُبقي،
كلَّ شيءٍ احتمالَ انكساري،
كلَّ شيءٍ عداكِ،
يُلاقي
ويشقي
6
كيفَ أمشي في غيابِكِ؟
والمنى
قد تهاوَتْ في دروبِ الانطفاءِ،
كلُّ ما في القلبِ منكَ... تفتَّتَ،
كالحُروفِ الشاحباتِ في الدعاءِ.

كلّما حاولتُ رسمَكِ في دمي،
ذابَ في عينيَّ مِحبرُ ما كتبتْ،
أنتِ وجهُ الشكِّ... لا أنتِ يقينٌ،
فيكِ صُوفيٌّ،
وألفُ احتماءْ.
7
حينَ ناديتُ الظلالَ... أتتني
بيدٍ من وَهْمِها
واهْتِزازِ،
كنتِ في الجرحِ الرهيفِ اشتعالًا،
وغموضًا في ارتقاءِ المُجازِ.

كلُّ ما فيكِ احتمالاتُ رؤيا،
كُنتِ مرآةَ المسافةِ في الندى،
وجهُكِ المنفيُّ في كلِّ خَطوٍ،
كانَ سِرّي،
واليقينُ الذي بدا.
8
في يدي ظلُّكِ،
لكن لا يَدي
تستطيعُ الآنَ نسجَ اليقينِ،
كنتِ حلمًا يشتهيني كلَّ فجرٍ،
ثمّ يُخفيني كأسرارِ الحنينِ.

كلّما أغفو على صَوتِ نداكِ،
يوقظُ الجُرحُ اشتياقي،
والنداءْ،
فإذا أنتِ،
رؤايَ المشتهى،
تبتعدينَ كأنّني بعضُ البكاءْ.
9
في المساءِ الباردِ ارتَجَفَتْ خُطايَ،
وكنتِ بعضَ الرعدِ في صمتِ المطرْ،
لم أكنْ أملكُ غيرَ ارتيابٍ،
يستبيحُ الضوءَ في عينيَّ... أثرْ.

كلّما لُذتُ بكِ،
صارتْ يدايَ
موطئًا للريحِ،
أو وهمَ السَفرْ،
كيفَ أمحوكِ؟ ،
وأنتِ ارتعاشٌ
في دمي... ،
والنبضُ مشدودٌ لخَطرْ.
10
كيفَ أمضي،
والخرائطُ تنطوي
فوقَ وهمٍ،
في الدجى متناهي؟
كنتِ فردوسًا... فلمّا ابتعدتِ،
أغلقَ النسيانُ بابَ التناهي.

في يدي خيطٌ من الضوءِ، لكنْ
لا يدلُّ الآنَ دربي... أو يدايْ،
كلّما مرَّتْ رؤايَ بذكراكِ،
عادَ موتي لابتداءِ احتيايْ
11
أنتِ بعضُ الحلمِ في وهْمِ الصحارى،
وظلالُ النبضِ في ليلِ التمنّي،
كلّما ناديتُ وجهَكِ... صمتُهُ
كانَ أقسى من غيابٍ لم يُفنِّي.

هل أنا من كنتُ أحملُ صوتَهُ،
أم صدى الأشواقِ في صمتِ المدى؟
كلّ ما في الحرفِ... وجهي حينَ
ضاعَ منكِ القلبُ،
وانحلّ الصدى.
12
ربّما أنَّ الندى يشبهُ خطوي،
حينَ لا ظلٌّ يُؤويني...
ولا أرضْ،
كلُّ ما فيكِ ارتعاشٌ داخليٌّ
يستبيحُ القلبَ،
أو ينسجُني نبضْ.

قلتُ: (هل يكفي انتظارُكِ علّةً؟)
قالَ صوتُكِ:( احتراقي في الهديلْ،
إنْ أتاني الغيمُ من وجعِ الرؤى،
فأنا فيكِ ارتواءُ المستحيلْ).
13
كلُّ شيءٍ في احتمالي يشتعلْ،
والنداءُ الصامتُ الآنَ جريحْ،
كلُّ ما فيكِ ارتباكُ المقلةِ،
وانكسارُ الوقتِ في وجهِ النشيجْ.

كنتِ مرآةَ الحريقِ المقبلة،
كلّما نامَ الرجاءُ استيقظتْ،
ثمّ راحتْ تُوقظُ الصمتَ الذي
أورقَ الجرحَ،
وغنّى وانكبتْ
14
كنتُ أستجلي ملامحَكِ التي
تختفي في جفنِ حلمٍ مائلِ،
كلّما لُذتُ بشُرفةِ وهمٍ،
جاءني منكَ ارتطامُ السائلِ.

لم أعدْ أعرفُني... ،
والريحُ تمضي
بي على خيطِ احتمالاتِ السُّدى،
هل أنا ظلُّ انتظارٍ ضائعٍ،
أم صدى وجعٍ تخفّى ،
واهتدى؟
15
يا اشتياقاتِ الدُجى،
نامتْ يدي
في انثناءِ الحرفِ،
مذْ جفَّ النشيدْ،
كُنتِ أنتِ البحرَ لا مرسى لهُ،
كلّما لُذتُ بهِ... زادَ البُعيدْ.

فيكِ ما يُشبهُ سُهدَ الأنبياءِ،
حينَ يمشونَ على جُرحِ الزمانْ،
فامنحيني ما تبقّى من رؤايَ،
ربّما فيكِ اتّساقُ الكائناتْ.
16
قُلتُ: ما هذا الصدى؟ قالَ وجيبٌ
في دمي... يُصغي لصوتِ الذكرياتْ،
كلُّ ما حولي مرايا غائباتٌ،
كلُّ ما فيكِ ارتجافُ المقاماتْ.

آهِ يا وجهَ المدى،
هل كنتِ شمسًا
ضاعتِ الأنفاسُ في عُري السُكونْ؟
أم شراعًا في نوىً لا ينتهي،
كلّما لُذنا بهِ... زادَ الظنونْ؟
17
في دمي قامتْ مواويلُ النُدَى،
واشتعلنا في خُطى المصلوبِ حيًّا،
كربلاءٌ في رؤايَ امتدّتِ،
والبكاءُ انسابَ من وترِ الوصيّا.

كلّما خُطّتْ جراحاتُ اليتامى،
أبصرتْ فيكِ الحروفُ انبعاثا،
كنتِ نارًا، كنتِ ظلًّا قائمًا
في دمي... يا رجفةَ الحرفِ اقتباسا.
18
قالَ لي ظلّي: (تأخّرتَ على
الموعدِ السِرّيِّ بينَ المئذنةْ!)
قلتُ: (إنّي الآنَ أُدني صوتَهُ
من جدارٍ في الحكايا موهنةْ).

كلّما أرّقني نورُ النوى،
قلتُ: (هذا التيهُ بعضُ البصمةِ)،
(من ترى ينسى ارتجافَ الأرضِ في
قبضةِ المنفى،
وجرحِ الرحمةِ؟)
19
هل أنا ظلٌّ على حافَةِ رؤيا؟
أمْ أنا مِرآةُ منفىً أفلَسا؟
كلّما ناديتُ في صمتِ الجدارِ،
عادَ وجهٌ من غيابٍ...
وانطَسَا.

أيّها الدربُ الذي ألقاهُ مرًّا،
هل سكنتَ الآنَ فينا عبثًا؟
إنّ فيكِ الآنَ نارًا لا تُرى،
تشعلُ الأرواحَ شكًّا وصمَتا
20
قُلتُ: (لا وجهٌ هنا يُفضي إليّ،
كلّ ما فيَّ انمحاءُ الشاهدِ،
غيرَ أنّي في ارتجاجِ الموجِ،
إنْ
ناديتُني...
عادَ الغيابُ القاصدِ).

كلُّ شيءٍ كانَ ظنًّا ،
وانتهى،
في دُجى الرؤيا،
غبارًا ساجدِ،
فارفعيني في اشتعالِ الصوتِ،
لا
تتركي حرفيَ في جُبِّ البواردِ.

(أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .)9*

سادسًا/(سِفْرُ الرَّعْشَةِ الأُولَى)
( أنثى تُوشوشُ الغيابَ في نومي)
1
لَمَّا تَنَزَّلَ فِي دَمِي صَوْتُ الرُّؤَى،
نَادَانِيَ الْخَفَقُ الْمُعَلَّقُ فِي السَّمَا،
وَبَكَتْ يَدَايَ...
وَكُلُّهُنَّ مَذَابِحٌ،
فِي جَوْفِ قَصْدٍ،
مَا اسْتَطَاعَ تَجَلِّيَا.
2
مَرَّ الْيَقِينُ عَلَى مَفَاتِيحِ النَّوَى،
فَانْشَقَّ وَجْهُ الْخُوفِ،
وَاسْتَنْزَلْتُنِي،
أُنْثَى الرُّؤَى،
قَدْ فُتِّحَتْ كَفَّاهَا،
وَالظِّلُّ يَرْتَجِفُ انْبِهَارًا أَزَلِيَا.
3
مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ لَيْلَ النُّطْقِ يَحْتَرِفُ
السُّكُونَ،
وَأَنَّهُ يَسْكُنُّنِي.
كَانَ انْشِطَاحِي فِي التَّجَلِّي فُسْحَةً،
تَخْتَالُ فِيهَا النَّارُ،
تُنْجِبُ مَعْنِيَا!
4
قَدْ كُنْتُ أَكْتُبُنِي،
وَلَسْتُ أُسَمِّنِي،
فِي كُلِّ حَرْفٍ... نَفْحَةٌ مِنْ مَوْتِنَا،
وَإِذَا النُّزُولُ أَتَانِيَ الْمُتَجَلِّي،
كَانَ احْتِضَارِي فِي الْمَعَارِجِ مَرْثِيَا!
5
أُنْثَى تُجَاذِبُنِي،
وَلَكِنْ فِي الدُّجَى
هِيَ هَاجِسٌ... أَمْ لَسْتُ أَدْرِي مَنْ أَنَا؟
تَخْتَالُ فِي نُطْقِي،
وَتَفْتَحُ غَيْبَهَا،
وَتُشِيرُ لِي: اكْتُبْ…
وَدَعْنِي نَافِيَا.
6
هِيَ لَيْسَتِ الْأُنْثَى،
وَلكِنْ ظِلُّهَا،
مَرَّتْ عَلَى جَبَلِ التَّجَلِّي
وَارْتَقَتْ،
وَأَنَا الَّذِي فِي الْمُفْرَدَاتِ مُعَذَّبٌ،
أَخُطُّ أَسْمَاءَ الْحَقِيقَةِ حُفْرَتِيَا.
7
يَا كُلَّ أَلْوَانِ الضِّيَاءِ، أَلِمْتُنِي،
إِنِّي تَعَرَّيْتُ انْكِشَافًا عَاتِيَا،
فِي كُلِّ حَرْفٍ قَدْ رَأَيْتُ تَنَازُعِي،
بَيْنَ النُّزُولِ،
وَصَخْرَةٍ كَانَتْ هُنَا.
8
مَاذَا أَقُولُ،
وَكُلُّ نُطْقِيَ صَاعِقٌ؟
وَالدَّمْعُ مِنْ كَتِفِ الرُّؤَى يَتَسَاقَطُ،
أَكْتُبْ فَتَشْتَعِلُ الْخَيَالَةُ فِي دَمِي،
وَتُرَدِّدُ الْكَلِمَاتُ صَلْصَلَ مَطْرَبَا
9
إِنِّي لَرَأَيْتُ نُطُقَنَا... مَسْجُونَنَا،
فِي الْوَحْيِ... وَالصَّهِيلِ... وَالرُّؤْيَا الطَّرِيَّةِ،
مَا بَيْنَ آدَمَ وَالْمَلَاكِ، تَفَجَّرَتْ،
كَلِمَاتُنَا: أَسْفَارُ نَارٍ أَبَدِيَّةْ!
10
فَانْظُرْ إِلَيَّ،
أَنَا الرُّعَاشُ الْأَوَّلُ،
فِي الْكَهْفِ،
فِي الظِّلِّ الرَّجِيفِ،
فِي الْخَفَا،
أَكْتُبْ،
وَفِي ظَهْرِ الْكَلِمَاتِ أُشَاهِدُ،
نُطْقًا يُوَارِي وَجْهَهُ مَا اكْتُفَى...
11
لَارَا:
رمز للحضور الكونيّ الغامض،
أو التجلي في هيئة الحُلم.

لَارَا أَتَتْنِي فِي الظِّلَالِ مُبَكِّرًا،
وَتَخَفَّفَتْ مِنْ وَقْتِنَا
وَمَسَافَتِي،
قَالَتْ: اكْتُبِ الأَشْيَاءَ حَتَّى تَنْطَفِي،
فَالنُّطْقُ وَعْدٌ...
وَالظِّلالُ كَفَافَتِي.
12
تَمْشِي ،
وَفِي يَدِهَا غُيُومٌ نَازِلَهْ،
تَصْهَرْنَ نُطْقِي فِي الْمَدَى الْمُتَرَنِّمِ،
وَتُقَبِّلُ الأَحْرُفَ الْوَسْنَى كَمَنْ
يَخْشَى مِنَ الأَسْرَارِ لَمَّا تَرْتَكِبْ.
13
مَيَادَة:
الأنثى التي ترقص في نوى اللغة،
ترمز للفتنة،
والاختلال الإيقاعي.

وَجَدَتْ مَيَادَةُ الرُّؤَى رَقْصَ النُّهَى،
فِي جُرْحِ صَوْتِي، أَوْ عَلَى نَبْضِ الدُّجَى،
فَارْتَجَّ قَلْبُ الْحَرْفِ فِي تَرَنُّمٍ،
وَانْشَقَّ وَجْهُ الْمُسْتَتَرْ مُتَزَيِّنَا.
14

مَيَادَةٌ... تُذْكِي انْسِحَابَ الرُّوحِ فِي
جَسَدِ الْكَلِمَاتِ، صَوْتًا أَسْهَرَا،
تَرْقُصُ بَيْنَ الرَّعْشَةِ الأُولَى،
وَمَا
قِيلَ لَنَا: كُنْ... فَانْكَشَفْنَا أَسْطُرَا.
15
اعْتِمَاد:
الثابتة على حواف الانكسار،
بُعد من الإصرار الجمالي في وجه الانطفاء.

وَاعْتِمَادُ الْوَجْدِ جَاءَتْ صَامِتَةً،
تَحْمِلُ الْخُفْيَاتِ فِي طَبَقِ السَّنَا،
مَا بَيْنَ أَلْوَاحِ الْغِيَابِ تَجَسَّدَتْ،
كُلِمَاتُهَا… رُؤًى تَفِيضُ تَأَخُّرَا.
16
فِي ظِلِّهَا انْكَمَشَ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ
أَسْرَارُ طِينٍ لَا تُبَاحُ لِأَحَدْ،
مِنْ خَفْقَةٍ مَشَتِ اللُّغَةُ انْفِعَالًا،
ثُمَّ ارْتَمَتْ فِي دَفْقَةٍ لَا تُرْتَدَدْ.
17
نُهَى
الحكمة تتسلّل من شقوق الحواس،
المعرفة الحارّة،
انكسار الرؤية بعد اكتمالها.

نُهَى تَمُرُّ عَلَى جُرُوحِي بَاكِيَهْ،
تَحْمِلُ أَسْمَاءَ السُّكُونِ الْغَائِرِ،
تَحْنُو عَلَى النُّطْقِ الْقَدِيمِ كَأَنَّهُ
حَلْمٌ تَرَجَّلَ فِي زَمَانٍ دَابِرِ.
18
نُهَى الَّتِي أَوْصَتْ بِصَمْتِ مَلَامِحِي،
وَجَعَلَتِ الْأَلْوَانَ دَاخِلَ دَفْتَرِي،
قَالَتْ: لِكُلِّ الْحُرْفِ وَقْتٌ خَافِتٌ،
يُشْعِلُهُ النِّسْيَانُ... ثُمَّ يُفَسِّرِ.
19
أَرْوَى:
الامتلاء بعد الخواء،
أنثى الطمي،
أو نهاية الحكاية التي تبدأ من جديد.

أَرْوَى أَتَتْ مِنْ وَحْشَةٍ مَخْمُورَهْ،
تَحْمِلُ ظِلًّا كَانَ يُشْبِهُني نَدًى،
قَالَتْ: أَنَا مَنْ ذَابَ فِي صَوْتِ الْفَنَا،
وَتَنَفَّسَتْني بَيْنَ نَارٍ وَهُدَى.
20
أَرْوَى وَضَعْني فِي اكْتِمَالِ جُرُوحِهَا،
ثُمَّ افْتَتَحَتْني كَالْكِتَابِ الْمُبْتَدي،
هٰذِهِ أَسْمَاءُ ظِلٍّ أَنْطَقَتْ،
مَنْ كَانَ صَامِتَ نَارِهِ لَمْ يَهْتَدي.

سابعًا/لبنى – قيسُها في التيهِ
نَادَيْتُ: يا لُبْنَى،
وَمَا مِنْ صَدًى،
صُوتيَ الضَائِعُ فِي بَوْحِ الْوَتينِ،
كُنْتِ نَفْسِي...
وَإِذَا نَفْسي غَوَتْ،
فَانْظُري: هَلْ بَقيَتْ فِيهَا طُعُوني؟

قُلْتُ: (قَيْسي... فَلَمْ يُجِبْ ليَ غَيْرُ
الأَرَضينََ الَّتِي لَا تَحْتَوينِي)،
أَيُّ نَفْيٍ هَذَا الَّذي قَدْ بَنَانَا؟
أَيُّ وَجْدٍ ذَابَ فِي طِينَ الْحَنينِ؟

آهِ لَوْ لُبْنَى غَفَتْ فِي دَمِهَا،
لَسَكَنَّا صَخْرَةَ الْوَصْلِ الدَّفينِ،
غَيْرَ أَنَّا، فِي مَدَانَا،
شَاعَرَانِ،
كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَفْقٍ مِنْ أَنِينِ.

لبنى: دمعة قيس الأخيرة

لُبْنَى،
وَقَيْسٌ كَانَ يُخْفي الدَّرْبَ،
لَمْ تَكُنْ إِلَّا هَوَاءً ،
وَحُرُوفَا،
يَكْتُبُ الآهَ عَلَى رَأْسِ المُنَى،
وَيَرَى فِي الطَّلْعَةِ الْيَأْسَ وُقُوفَا.

قَالَ: (يَا لُبْنَى،
إِذَا مِتُّ فَخُذِي
كُلَّ نَجْمِي،
وَارْسُمِي الصَّبْرَ نَزِيفَا)،
مَا الَّذِي يَبْقَى إِذَا مَا افْتُقِدَتْ
كُلُّ أَسْمَاءِ الْحَنِينِ الطِّفْلِيَّةِ؟

ثامنا/ ميّادة: نشيد ابن زيدون المستعاد

مَيَّادَةُ الْغِيمِ،
وَالذِّكْرَى،
وَمَا
خَلَّفَ المهْدُ عَلَى صَدْرِ الْقَلَمْ،
كَيْفَ يَبْكي ابْنُ زَيْدُونَ على
بَابِها الْمَفْتُوحِ لِلوهْمِ العَدمْ؟

أَيُّهَا الطِّفْلُ الَّذي لَمْ يَتْرُكِ الْ
بَابَ لِلنَّاعي،
وَلَا لِلْمُنْكَرِ،
أَنْتِ فِي الْحُبِّ يَدٌ أُخْرَى لَهُ،
وَفِي الْهَجْرِ دُمُوعٌ فِي السَّحَرِ.

قُلْتُ: يَا مَيَّادَةُ،
الْحَرْفُ جَفَا،
وَالرُّسُومُ الْبِيضُ... صَارَتْ طِلْسِمَا،
لَمْ أَكُنْ إِلَّا صَدَى مَا فَاتَنَا،
أَوْ نَبِيًّا كَتَبُوا فِيهِ الْعَدَمَا.

ذَاكِري عَيْنايَ،
إِنْ كُنْتِ نَسِيتِ،
كَيْفَ كَانَ النُّورُ فِي الأُفْقِ نَمَا؟
كُنْتِ فِي قَلْبِي خَمِيرَاتِ اللُّغَا،
وَبِكِ الأَنْدَلُسُ الْخُضْرَاءُ دَمَا!

كُلَّمَا أَغْفُو،
أَرَاكِ جِهَةَ الْمَطَرْ،
تَرْسُمِينَ الْوَصْلَ مِنْ مَاءِ
وَضَجَرْ،
ثُمَّ يَصْحُو النَّفْيُ،
فِي عَيْنِ الْمَدَى،
وَيَقُولُ الْحُبُّ(: مَا ضَاعَ انْدَثَر)

ميَادَةُ... صَوْتُهَا فِي اللَّيْلِ يَبْكي
وَالرُّبَابَاتُ الَّتِي انْكَسَرَتْ طُيُورَا،
لَا تُغَنِّي،
غَيْرَ أَنَّ الْحُزْنَ فِيهَا
يَصْطَفي مِنْ نَايِهَا
وَجْعًا كَبِيرَا.

مِثْلُ شَامٍ... قَدْ أَضَاعَتْ صُورَتَيْهَا،
فِي زُقَاقٍ مِثْلَ أَنْفَاسِ الدَّوَاهي،
قَالَتِ الرُّؤْيَا: (أُغَنِّي، فَاسْتَمِعْنِي،
رُبَّمَا يَحْلُمُ مَا بَقِيَتْ خَطَاهي!)

تاسعًا/عائشة :ظلّ النبوءة
(تأمّلٌ خيّاميٌّ في مرآة البياتي)

عَائِشَةُ الظِّلِّ،
وَالنَّارُ،
وَفي
عَيْنِهَا مِيثَاقُ كَأْسٍ يَسْتَدِيرْ،
تَسْأَلُ الأَيَّامَ:
مَا كُنَّا؟
وَمَا
سَوْفَ نَكْسُو مِنْ رَمَادٍ ،
وَغُبارْ؟

كَمْ قَرَأْنَا فِي سُطُورِ الْوَعْدِ عَنْ
وجْهِهَا... فَانْفَلَّ وَجْهُ الْمُنْتَظَرْ،
عَائِشَةْ... بَيْنَ الْخَيَالِ،
والْفَنَاءِ،
في نُفُوسِ الْحُرِّ، شَكٌّ،
وَانْكِسَارْ.

عَائِشَةُ... كَانَتْ ظِلًّا فِي الرُّؤَى،
تَمْشِي عَلَى وَرَقِ النُّبُوءَاتِ الْقَديمَهْ،
فِي يَدَيْهَا نَارُ مَنْ قَالُوا: سَتَكْتُبُ،
وبِعَيْنَيْهَا نُدُوبٌ مِنْ يَتِيمَهْ.

قَالَ قَصْرُ اللَّفْظِ:( هَذِي مُعْتَقَدْ،
وَبِهَا تُبْنَى النُّصُوصُ الْمُتَّهِمَهْ)،
ثُمَّ مَارَتْ... وَاشْتَكَتْ مِنْ سَطْوَةِ الْـ
ـحَرْفِ، مِنْ صَهْوَاتِ أَصْوَاتٍ سَقِيمَهْ.

أَيْنَ أَنْتِ الْآنَ؟ قُولِي لِي: أَنَا
مَنْ تُنَادِيهِ الْخُطَى إِنْ لَمْ تَقِمْ؟
كُلُّ نَصٍّ شَاهِدٌ لِلْمُنْفَيَاتِ،
وَأَنَا أَنْتِ،
إِذَا الشَّكُّ انْهَزَمْ.

(أقولُ لـ"عائشة" يا سَماءُ، أَفلا تُسرُّنِي حُسنُك، وإلى مِشْرِفِ الخَلاَق، أَفلا تُنيرُني غَلبةُ".)10*

عاشرًا/كوثر :نبوءة الماء الأولى

كَوْثَرٌ تَجْرِي بِوَجْهِ الْغَيْبِ فِي
صُورَةِ الْفَجْرِ الَّذِي لَمْ يَنْحَنِ،
وَهْيَ تَسْقِي كُلَّ مَنْ فِي الْيَأْسِ غَرْ
وَقَفَتْ فِي الْعَطْشِ نُورًا يُفْتَتَنْ.

لَا تَقُولُوا: الْمِيَاهُ انْقَطَعَتْ،
إِنَّهَا – فِي الظَّمَأِ – كَانَتْ أَنَا.

احد عشر/ ليلى: فارسها الجريح

لَيْلَى... وَالطَّعْنُ عَلَى طَرَفِ الدُّرُوبْ،
وَتُبَيِّنُ فِي السَّرَابِ المُسْتَحِيلْ،
قَدْ رَأَيْنَاهَا تُوَاسي خَيْلَهُ،
ثُمَّ تَبْكي في صَميمِ الْمُقْتَلِ.

قِيلَ: كَيْفَ الْحُبُّ يَبْقَى أَبَدًا؟
قَالَ قَيْسٌ: فِي الرُّؤَى لَمْ يَرْتَحِلِ.

أثنا عشر/ سلمى : رابية الفجر الجاهلي
سَلْمَى... وَالْجَبَلُ الْمَجْنُونُ بَهَا،
وَالْمَهَارَا فِي الْمَدَى تَرْكُضُ لَهَا،
كُلُّ مَا فِي الشِّعْرِ مِنْ أَصْوَاتِهَا،
وَبَقَايَا الطَّيِّبِ الْمَجْنُونِ فِيهَا.

قَالَ قَيْسٌ: الْمُسَمَّى هُوَ الْمُنَى،
وَسَلِيلُ الْحُبِّ – إِنْ سَلْمَى – نَبِيَّهْ.

ثلاث عشر / الخنساء: مرثية النبوءة الجريحة

قَالَتِ الْخَنْسَاءُ: صَخْرِي فِي الْمَدَى،
وَالْعِزُوفُ الْيَوْمَ قَدْ خَانَ الْوَعُودْ،
وَابْنُ مِرْدَاسٍ سَقَى الرِّيحَ دَمًا،
ثُمَّ عَادَتْ تَجْمَعُ الْحَبَّ لِلصُّعُودْ.

لَا نُرَثِّي غَيْرَ مَنْ كَانَ الرُّؤَى،
فِي سُجُودِ الْوَعْيِ صَوْتًا،
وَرُؤُوسْ،
هَذِهِ الْخَنْسَاءُ،
مَا تَرْضَى الْبُكَا،
غَيْرَ نَفْسٍ تَكْتُبُ الْجُرْحَ دُرُوسْ.

رابع عشر/. لارا : مرآة العودة والخواتيم

لَارَا... يَا صَوْتَ بَسْتَرْنَاكَ فِي النَّشِيدِ،
تَمْشِينَ عَلَى زُجَاجِ الزَّمَنِ الْحَفيّ،
قَدْ بَقِينَا فِي سُؤَالِ الْغَيْمِ: هَلْ
ثَمَّ مَنْ يُجْبَرُ أَشْلَاءَ الطَّويِّ؟

لَارَا... يَا آخِرَ الْأَسْمَاءِ،
مَا..
ضَاعَ مِنْ رُوحِكِ إِلَّا مَا يُحِيّ،
هَذِهِ الْخَاتِمَةُ الْمَفْتُوحَةُ،
فِي..
وَجْهِكِ الْمُرِّ...
وَفِي عَيْنِ المُنيّ.

(لارا! رحلتْ)
(لارا! انتحرت)
قال البوَّاب ،وقالت جارتها، وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى: (لا يدري أحد، حتى الشيطان).11*

خامس عشر /(بنات أفكار السوباط )
1-(رُقَيَّةُ: أَصْغَرُ مِئْذَنَةٍ فِي العَتَبَاتِ)

رُقَيَّةُ...
تَغْفُو عَلَى أَكُفِّنَا،
وَتَسِيرُ كَالمَاءِ الخَفيفِ عَلَى النَّشيدْ.

رُقَيَّةُ...
تَبْكِي عَلَى أَبِيهَا،
وَتُسْمِعُ فِي الطِّفْلِ المَذْبُوحِ آيَةَ المَجيدْ.

مَا كَانَ صَوْتُهَا سِوَى دَمْعٍ عَلَى وَرَقٍ،
وَالنُّورُ فِي نِدَائِهَا صَمْتٌ يُجَفِّفُني.

يَا أَصْغَرَ المَآذِنِ...
كَيْفَ كَبِرْتِ بَيْنَ الدَّمْعِ
وَالصَّلْبِ
وَالدَّمَارْ؟

2-(زَيْنَبُ: الجَبَلُ الَّذِي لَمْ يَنْحَنِ)

زَيْنَبُ...
أَنْشُودَةٌ فِي الجُرْحِ تَكْتُبُ نَفْسَهَا،
وَالحُرُّ يَسْكُنُ صَوْتَهَا
وَيُرَتِّلُ.

مَا بَيْنَ كَفِّ المَوْتِ
والكَبِدِ الَّذِي
فَجَّرْتِهِ... بَقِيَ المَتِينُ يُجَلْجِلُ.

مَا أَنْحَنَيْتِ...
وَكُنْتِ فِي العُرْيِ اكْتِفَافًا،
تَسْتَشْهِدِينَ...
وَصَدَاهُ... فِي الزَّمَانِ لَا يَكْسِرُهُ نَحْنُ.

3-(عِشْتَارُ: مَنْ سَقَطَتْ مِنَ الأُسْطُورَةِ)

عِشْتَارُ...
فِي طِينِنَا تَجُرُّ أَجْنِحَتَهَا،
تَكْتُبُ أَسْمَاءَ الرُّؤْيَا،
وَتَخُطُّ نَارَا.

مَا كَانَ نِصْفُهَا مَرْأًى،
وَمَا كَانَتْ
سِوَى النِّسَاءِ جَميعَهُنَّ إِذَا انْكَسَرْنا.

فِي المَعْبدِ الْمَكْسُورِ...
فِي الأَعْمِدَةِ البَاكِيَةِ...
تُشْبِهُكِ الْقَصيدَةُ إِذَا فَقَدَتْ مِرْآتَها،
وَسَارَتْ فِي الدِّمَاءِ،
وَلَا تَجَلَّتْ.

4-(لَيْلَى الَّتي أَضَاعَتْ لَيْلَها)

لَيْلَى...
وَكَانَتْ تُضيءُ فِي لَيْلِها،
ثُمَّ تَنْسَى الطَّرِيقَ إِلَى قَمَرِهَا.

كَانَتْ تَمُشِّي الغِيابَ عَلَى الجِرَاحِ،
وَتُخْفي مَوَاسِمَهُ فِي شَعَرِها.

كُلُّ النُّجُومِ الَّتِي كَانَتْ تَغُوصُ بِهَا،
غَرِقَتْ...
وَمَا أَشْرَقَتْ فِي سَفَرِهَا.

هِيَ الَّتِي أَضَاعَتْ نَبْضَهَا،
فَبَكَتْ،
وَتَوَشَّحَتْ مَوْتَهَا كَسَتَرِهَا.

لَيْلَى...
وَفِي اسْمِهَا رُعْبُ مَنْ لَمْ يَعُدْ،
وَفِي عَيْنِهَا وَجْعُ مَنْ فِي انْتِظَارِهَا.

سادس عشر/-(الَّتِي كَتَبَتْني قَبْلَ وُجُودِ الحَرْفِ)

هِيَ...
لَيْسَتْ اسْمًا،
وَلَا وَجْهًا،
وَلَا أَثَرًا عَلَى الجِدَارِ،
بَلْ هِيَ الرُّؤْيَا إِذَا انْكَمَشَتْ عَلَى المَعْنَى،
وَصَارَ النُّطْقُ فِي الدَّمِ... مُسْتَتِرَا.

هِيَ الَّتِي لَا تَقُولُ،
وَلَكِنَّهَا تُعَلِّمُني الطَّريقَ إِلَى صَمْتِهَا.

كَانَتْ فِي قَلْبِ الحُرُوفِ قَبْلَ وِلَادَتِي،
وَأَنَا أَكْتُبُهَا...
كَمَنْ يَسْقِي رَمَادَ الرُّوحِ نَارَا.

يَا أَنْثَى...
أَأَنْتِ قَصِيدَتي،
أَمْ أَنَا قَصِيدَتُكِ الَّتِي نَسِيتِهَا
فِي سُوباطِ الزَّمَانِ الباهِتِ؟

سابع عشر/-(أَنْتِ... وَالوَجَعُ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ)

أَنْتِ الَّتي سَكَنَتْ جُرُوحِي كَالعَنَاقِيدِ،
في لَيْلِ أَسْئِلَتي،
وفي وَجَعِ النَّشيدِ.

تَغْفينَ فِي وَرَقِ الْخَرَافَةِ،
ثُمَّ
تَسْتَيْقِظْ
عَيْنَاكِ تَسْقِطُ فِي جَرَارِ مِنْ صَدِيدِ.

كُنْتِ النَّبيَّةَ... كُنْتِ أَكْثَرَ مِنْ دَمٍ،
وَكُنْتِ تُشْرِقُ فِي خَرَائِبِ مُرْتَعِدِ.

مَا كَانَ قَلْبِي يَسْتَرِيحُ إِذَا نَمَا،
إِلَّا عَلَيْكِ... كَسِرٍّ لَا يُفَكُّ بِقِيدِ.

يَا أَنْتِ...
كَيْفَ أَضَعْتُنِي فِي طَيْنِ نَفْسِكِ؟
أَمْ كُنْتِ تَعْرِفُكِ الدُّمُوعُ ،
وَلَا تَشِيدِ؟

ثامن عشر/-(هِيَ... وَتَرُ الغِيَابِ فِي سُوبَاطِ النَّشِيدِ)

هِيَ الَّتِي نَسَجَتْ غِيَابَاتِ النَّدَى،
وَخَفَتْ عَلَى وَتَرِ النَّشِيدِ...
وَأَثْقَلَتْ.

فِي كَفِّهَا قَمَرٌ صَغِيرٌ يَنْثَنِي،
وَيَقُودُنِي لِصَرِيفِ دَمْعٍ أَخْجَلَتْ.

مَا بَيْنَ نَفْسِكِ ،
وَالنُّشُورِ جَرَحُنَا،
هَلْ كَانَ وَجْهُكِ صَخْرَةً... أَمْ مَنْهَلَتْ؟

قَالُوا: سَتُورِقُ فِي الهُدُوءِ،
فَقُلْتُ:
ضلَا،
هِيَ بَيْنَ أَضْلُعِنَا رَجِيعٌ أَضْلَلَتْ.

هِيَ... كَمَاءٍ ضَاعَ فِي سُوبَاطِنَا،
لَا تَسْتَقِرُّ،
وَفِي الغِيَابِ تَنَقَّلَتْ.

تاسع عشر/-(الَّتِي تُصَلِّي فِي غُرْفَةٍ خَرِبَة)
هِيَ...
تُصَلِّي
وَاللَّيْلُ يَرْقُبُ ضَوْءَهَا،
وَالصَّمْتُ يَكْتُبُ فِي جُدُرَانِهَا الآهَا.

فِي غُرْفَةٍ خَرِبَةٍ،
تَهْذِي بِقُبْلَتِهَا،
وَتُقِيمُ نَافِلَةَ الحَنِينِ
وَنُصْحَهَا.

مَا بَيْنَ رُكْعَتِهَا،
وفَوْقَ سَجُودِهَا،
يَسْقُطْ نُجُومًا... مَا اسْتَقَامَ نُضُوحُهَا.

هِيَ الَّتِي خَلَعَتْ مَآذِنَهَا عَلَى
وجَعِ النَّوَافِذِ...
وارْتَدَتْ تَرْتِيلَهَا.

لَمْ تَسْأَلِ الرُّوحَ الطَّرِيقَ إِلَى الضِّيَاءِ،
بَلْ سَكَنَتْ نَفْسَ السُّكُونِ ،
وسُبْحَهَا

القسم الرابع
أولُا/سِفْرُ الرَّعْشَةِ الأُولَى
مُفَاتِيحُ الغَيْبِ الشِّعْرِيِّ
( مُفْتَتَحُ الظِّلِّ وَالنُّبُوءَةِ)
1
فِي الْغَمَامِ الْخَافِتِ اخْتَلَفَتْ خُطَايَا،
وَارْتَمَتْ فِي صَوْتِ مَنْ فَتَحَ الدُّجَى،
كُنْتُ أَمْشِي فِي الْخَيَالِ كَأَنَّنِي
فِي انْكِسَارِ الْوَقْتِ أَرْتِيلُ الرُّؤَى
2
كُلَّمَا مَاتَتْ مَنَافِيَّ الْقُدَمَى،
قَامَ ظِلِّي،
يَسْتَبِينُ الْمُعْجِزَهْ،
كُلَّمَا ارْتَجَّتْ جُمُوعُ الأَنْبِيَاءِ،
صَاحَ نَصِّي: لا تَخَفْ! هِيَ نَبْأَهْ.
3
فِي الْمَدَى أَنْظَارُهَا مَطْلِيَّةٌ،
بِالْحَنِينِ الْمُشْتَهَى فِي اللَّافِتَهْ،
تَسْكُنُ الأَلْوَاحَ كَاتِبَةً لَهَا،
كُلَّمَا غَابَتْ... تَكُونُ الْمَكْشِفَهْ.
4
صَوْتُهَا يَأْتِي عَلَى جُرْحِ الدُّجَى،
يَسْتَعِيرُ اللَّيْلَ، يُفْضِي بِالْوَتَرْ،
كُنْتُ أَرْجُوهُ: ارْتَقِ لِي نَارَهَا،
فَإِذَا بِي خَشَبٌ يَحْتَازُ الْخَبَرْ.
5
لَارَا أَتَتْني فِي الظِّلَالِ مُبَكِّرًا،
وَتَخَفَّفَتْ مِنْ وَقْتِنَا،
وَمَسَافَتي،
قَالَتْ: اكْتُبِ الأَشْيَاءَ حَتَّى تَنْطَفِي،
فَالنُّطْقُ وَعْدٌ...
والظِّلالُ كَفَافَتي.
6
تَمْشِي
وَفِي يَدِهَا غُيُومٌ نَازِلَهْ،
تَصْهَرْنَ نُطْقِي فِي الْمَدَى الْمُتَرَنِّمِ،
وَتُقَبِّلُ الأَحْرُفَ الْوَسْنَى كَمَنْ
يَخْشَى مِنَ الأَسْرَارِ لَمَّا تَرْتَكِبْ.
7
وَجَدَتْ مَيَادَةُ الرُّؤَى رَقْصَ النُّهَى،
فِي جُرْحِ صَوْتِي،
أَوْ عَلَى نَبْضِ
الدُّجَى،
فَارْتَجَّ قَلْبُ الْحَرْفِ فِي تَرَنُّمٍ،
وَانْشَقَّ وَجْهُ الْمُسْتَتَرْ مُتَزَيِّنَا.
8
مَيَادَةٌ... تُذْكِي انْسِحَابَ الرُّوحِ فِي
جَسَدِ الْكَلِمَاتِ،
صَوْتًا أَسْهَرَا،
تَرْقُصُ بَيْنَ الرَّعْشَةِ الأُولَى،
وَمَا
قِيلَ لَنَا: كُنْ... فَانْكَشَفْنَا أَسْطُرَا.
9
وَاعْتِمَادُ الْوَجْدِ جَاءَتْ صَامِتَةً،
تَحْمِلُ الْخُفْيَاتِ فِي طَبَقِ السَّنَا،
مَا بَيْنَ أَلْوَاحِ الْغِيَابِ تَجَسَّدَتْ،
كُلِمَاتُهَا… رُؤًى تَفِيضُ تَأَخُّرَا.
10
فِي ظِلِّهَا انْكَمَشَ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ
أَسْرَارُ طِينٍ لَا تُبَاحُ لِأَحَدْ،
مِنْ خَفْقَةٍ مَشَتِ اللُّغَةُ انْفِعَالًا،
ثُمَّ ارْتَمَتْ فِي دَفْقَةٍ لَا تُرْتَدَدْ.
11
نُهَى تَمُرُّ عَلَى جُرُوحِي بَاكِيَهْ،
تَحْمِلُ أَسْمَاءَ السُّكُونِ الْغَائِرِ،
تَحْنُو عَلَى النُّطْقِ الْقَدِيمِ كَأَنَّهُ
حَلْمٌ تَرَجَّلَ فِي زَمَانٍ دَابِرِ.
12
نُهَى الَّتِي أَوْصَتْ بِصَمْتِ مَلَامِحِي،
وَجَعَلَتِ الْأَلْوَانَ دَاخِلَ دَفْتَرِي،
قَالَتْ: لِكُلِّ الْحُرْفِ وَقْتٌ خَافِتٌ،
يُشْعِلُهُ النِّسْيَانُ...
ثُمَّ يُفَسِّرِ.
13
أَرْوَى أَتَتْ مِنْ وَحْشَةٍ مَخْمُورَهْ،
تَحْمِلُ ظِلًّا كَانَ يُشْبِهُنِي نَدًى،
قَالَتْ:( أَنَا مَنْ ذَابَ فِي صَوْتِ الْفَنَا،
وَتَنَفَّسَتْنِي بَيْنَ نَارٍ وَهُدَى).
14
أَرْوَى وَضَعْنِي فِي اكْتِمَالِ جُرُوحِهَا،
ثُمَّ افْتَتَحَتْنِي كَالْكِتَابِ الْمُبْتَدِي،
هذِهِ أَسْمَاءُ ظِلٍّ أَنْطَقَتْ،
مَنْ كَانَ صَامِتَ نَارِهِ لَمْ يَهْتَدِي.

(نمشي ,
وتنضج في الصحراءِ
حكمتنُا
ولا نقول : لأنّ التِيه يَكْتملُ
لكن حكمتنا تحتاجُ أُغنيةً
خفيفةَ الوزن ,
كي لا يتعب الأَمَلُ
((كم البعيد بعيدٌ)) ؟
كم هِيَ السُبُلُ ؟)12*

ثانيا/"نُبُوءَةُ الظِّلَالِ الْأُخْرَى"؟
(الرُّؤْيَا تَتَفَتَّحُ فِي النُّورِ الأَعْمَى)

أَسْكُنُ الْمَعْنَى،
وفي الْمَعْنَى نَدًى،
كَانَ يَسْقِينِي الْغِيَابُ الْأَبْكَمَا،
كُلَّمَا نَادَيْتُ وَجْهِي ،
وانْطَفَى،
صَاحَ فِي صَمْتِيَ: كُنْتَ وَهْمًا مَرْمِيَا.

كُلُّ مَا فِي الرُّؤْيَا جُرُوحٌ نَاطِقَهْ،
والسُّكُونُ الْبَكِي سِفْرٌ مُقْتَفى،
كَيْفَ أَرْتَاحُ إِلَى نُطْقِ الْمَدَى،
وفَمُ الرُّوحِ بِأَشْلَائِي اكْتَفَى؟

في انْكِسَارِ النُّورِ أَبْصَرْتُ انْبِهَارِي،
ورَأَيْتُ اللَّوْنَ يَبْكِي ظِلَّهُ،
وبِعَيْنِ الضَّوْءِ أَجْهَشَ مَنْ رَآنِي،
قَائِلًا:( مَنْ أَنْتَ؟) قُلْتُ:( اخْتَرْ نِهَايَهْ).

يَا سَمَاءَ الْحَرْفِ،
لَا تَسْقِي
انْتِظَارِي،
كَيْفَ أَرْجُو وَعْدَ مَنْ يَبْكِي السَّنَا؟
كُنْتُ جُرْحًا فِي الْكَلِمَاتِ،
وفي دَمِي
كُلُّ وَعْدٍ خَانَ نَفْسَهْ
وَاكْتَسَى.

مَا الَّذِي يَبْقَى إِذَا الشَّمْسُ انْكَسَرْ
فِي دِمَاغِ النَّوْمِ؟ أَوْ فِي سَاقِيَا؟
كَيْفَ أَسْقَيْنِي غَبَارَ الصَّوْتِ،
لَمْ
تَتْرُكِ الرُّؤْيَا سِوَى بَابِ النَّدَى؟

كُنْتُ أَمْشِي فِي دَمِي نَحْوَ اللُّغَاتِ،
وَأَرَانِي... رَغْمَ أَسْوَارِ الْبُكَا،
أَخْرُجُ الآنَ مِنَ الْحُرْفِ الضَّرِيرِ،
وَأُسَمِّي فِي ضُلُوعِي مَرْثِيَا.

صَرَخَ الْغَيْمُ: اتْرُكِ الْحَقْلَ لِيَا،
فَالسَّنَابِلُ فِي اصْطِفَافِ النَّارِ نَتْ،
والْحُرُوفُ الْيَابِسَاتُ تَصَاوَحَتْ،
قَائِلَاتٍ: أَيْنَ رُوحُ الأُوْلِيَا؟

هَذِهِ الْأَنْفَاسُ أَسْرَارٌ نَمَتْ
في غُبَارِ الْوَقْتِ، لا فِي وَاحَةِ،
كَيْفَ أُوصِينِي بِقَوْلٍ مُبْتَلٍّ،
وأَنَا أَكْتُبُ فِي الْجُرْحِ سُرَا؟

فِي دِمَائِي ضَاعَ وَجْهُ الأَوَّلِينَ،
وَاخْتَنَقْنَا فِي جِرَارِ الْغُرْبَةِ،
مَا لِقَصْدِ اللَّوْنِ إِلَّا غَصَّةٌ،
تَتَهَاوَى فِي سَمَاءِ السَّرْدَبِ.

كُلَّمَا أَبْصَرْتُ شَكِّي،
انْتَبَهْتْ
جُرْحَ نُورٍ فِي ضُلُوعِ الْمَجْهَلِ،
فَتَحَ الرُّؤْيَا عَلَى مَصْفَاتِهَا،
ثُمَّ أَبْقَانِي عَلَى ذُلِّ الْوَلَهْ.

كَيْفَ أَهْوِي فِي جُذُوعِي،
والْمَدَى
سَيْفُهُ فِي الْمُلْكِ صَارَ الْأَجْنَبَا؟
كَيْفَ أَبْني مِنْ مَصَائِرِ أَمْسِنَا
قِبْلَةً تُزْهِرُ فِي ظِلّ الْخَطَا؟

كُلُّ مَا فِي الرُّوحِ: نَفْيٌ، أَوْ نُشُورٌ،
لَمْ يَكُنْ فِي النُّورِ إِلَّا قَصَبَاتْ،
يَسْكُنُ السَّوْطَ،
وَفِي أَشْلَاءِ مَاءٍ،
قَطْرَةٌ... نَادَتْ: أَأَنْتَ الظُّلُمَاتْ؟

وبِظِلِّ السَّرْدِ فِي الرُّؤْيَا نَمَا
نَسْغُ نَفْسِي... غَائِبًا فِي الْأَنْبِيَاءِ،
كَيْفَ أُوصِينِي بِحَسْرَاتِ النَّدَى،
وأَنَا أَبْكِي الْمَدَى فِي الْكَهْفِ جَاءْ؟

فِي اقْتِرَابِ النُّورِ، وُجْدِي احْتَرَقَ،
وَبِكَيْفِيَّةِ مَا كَانَ ارْتَقَى،
ثُمَّ صَاحَتْ فِيَّ أَنْفَاسُ الرُّؤَى:
كُنْتَ شَكًّا... فَاسْتَحِلْنَا الْوُثُقَا.

(آه جناحي كسرته الريح
من قاع نهر الموت يا مليكتي أصيح
من ظلمة الضريح
أمدُّ للنهر يدي فَتُمسك السراب
يدي على التراب
يا عالمًا يحكمه الذئاب
ليس لنا فيه سوى حقّ عبور هذه الجسور)13*

ثالثًا/(تُرَاتِيلُ النِّدَاءِ الْخَفِيِّ)

هَكَذَا تُبْصِرُ عُيُونُ الْحَالِ نُورًا
فِي انْكِسَارِ اللَّوْنِ... أَوْ فِي سَكْرَتِهْ،
لَمْ أَكُنْ إِلَّا نَدَاءً مَكْتُومًا،
فَتَفَتَّحْتُ... وَانْتَهَيْتُ... بِرُؤْيَتِهْ

رابعًا/ وجهٌ من الحنينِ المطرّز
(نداءُ الأثَر: هل من شاهِد؟)

أينَ الذي، إذْ دَخَلَ،
سُوباطَهُ،
خَرَّتْ لهُ المُقْلُ،
واهتزَّتْ الخُطى؟
أينَ الذي،
خَطُّهُ قرآنُهُ،
كانَ ظلَّ العدلِ ميزانَ الرُّؤى؟

أينَ المدى؟
أينَ النَّدى؟
أينَ مَنْ
يرقى إلى المئذنةِ من زمنْ؟
هل بَقِيَ النَّقشُ على ذا الجدارْ؟
أم محَتْهُ الرِّيحُ،
أم ذابَ الغبارْ؟

أينَ الّذي كانَ إذا ما نَوى،
غاصَ في المِحرابِ، وانجابَ الدُّجى؟
كانَ في عينيهِ فجرٌ ساطعٌ،
صارَ وجهُ الوقتِ منفيًّا، سُدى!

نَحْنُ مَنِ ارتدنا المدى عن وجلهْ،
واسترحْنا في سراديبِ المِحَنْ،
فاذكروا النقشَ إذا مرَّ الظلامْ،
واكتبوا تاريخَكم... فوقَ الكَفَنْ.

خامسًا/(وجهُ النبيِّ في مرآةِ الدجى)

وَجْهُ النَّبِيِّ يُطِلُّ مِنْ مِرْآةِ دُجْنَتِنَا،
وَيَمْسَحُ اللَّيْلَ،
كَالرُّؤْيَا،
عَلَى التُّرَبِ.

مَا بَيْنَ جَبْهَتِهِ ،
وَنُورِ النَّجْمِ مُتَّسَعٌ،
لِلشَّكِّ... لِلْجَمْرِ... لِلْقُرْآنِ
وَالكُتُبِ.

مَا كَانَ يَصْعَدُ فِي الضِّيَاءِ سِوَى نَدًى،
وَيُقِيمُ نَبْضَ الحَقِّ فِي ظِلِّ الغَضَبِ.

فِي كَفِّهِ: وَرَقَاتُ سِدْرٍ أَخْضَرٍ نَزَلَتْ،
وَفِي عُيُونِ الأَنْبِيَاءِ مَسَاحَةُ التَّعَبِ.

لَمْ يَخْرُجِ الوَجْهُ مِنْ طِينٍ ،
وَلَا حَجَرٍ،
بَلْ مِنْ نُدُوبِ النَّارِ،
وَالآهَاتِ،
وَالعَجَبِ.

وَجْهُ النَّبِيِّ عَلَى سِتْرِ غَيْمٍ،
تَرَاءى كَنَبْضٍ،
وَغَابَ كَنَجْمِ،
تَغَشَّاهُ صَوْتُ المَلَاكِ الْخَفِيِّ،
وَفَاضَ عَلَيْهِ سُكُونُ العَدَمْ.

هُوَ السِّرُّ،
لَيْلُ الخَيَالِ ابْتَدَاهُ،
وَفَاحَ صَمِيمُ النُّبُوءَةِ فِيهِ،
وَصَاحَتْ جِرَاحُ الزَّمَانِ: تَعَالَ،
فَجَاءَ النَّشِيدُ يُرَتِّلُ دَمْ.

سادسًا/(لغةٌ تكسِرُ ما فينا من سَكَن)

(لُغَةٌ تَشُبُّ عَلَى الشُّرُوخِ ،
وَتَفْتَحُ،
صَمْتَ الحُرُوفِ،
وَنَبْضَهَا المُتَجَرِّحُ.
لُغَةٌ تَشُبُّ عَلَى الشُّرُوخِ،
وَتَنْفَجِرْ،
تَكْسِرْ جُمُودَ الحُرُوفِ،
وَلَا تَسِيرُ وَلَا تَذِرْ!)

تُقْرَأْ كَنَفْضِ رَعْشَةٍ فِي شَفْرَةٍ،
تَكْسِرْ جُمُودَ اللَّفْظِ ،
وَالمُتَصَفِّحِ.

(لُغَةٌ تُقَلِّبُ فِي المَعَاجِمِ ،
وَجْهَهَا،
وَتُقِيمُ مِنْ نَبْضِ السُّكُونِ
مُعَسْكَرَ الذِّكْرِ
الأَشِرْ)

تَسْرِي كَمَاءٍ فِي الزَّجَاجِ تَكَسَّرَتْ،
فِيهِ الدِّمَاءُ،
وفي المَعَانِي المَذْبَحِ.

(مَا بَيْنَ أَسْطُرِهَا،
يَئِنُّ النَّبْضُ مُشْتَعِلًا،
وتَمُجُّ فَوْقَ لِسَانِنَا
رِعْدَ الخُطَى،
ورَمَادَ سِفْرْ)

لُغَةٌ تُعَرِّي كُلَّ سِتْرٍ زَائِفٍ،
وتُقِيمُ مِنَّا نَصَّهَا المُتَسَلِّحِ.

(لُغَةٌ...
تُبَدِّدُ فِي المَعَانِي صَوْتَنَا،
وتُقِيمُ مِنَّا مُصْحَفًا
في فَمِ الجَمْرِ انْكَسَرْ!)

أُنْزِلَ الحَرْفُ فِي وَجْهِ نَارٍ،
وَفِي انْشِقَاقِ الصَّبَاحِ تَجَلَّى،
تَلَاجَمَ فِيهِ البَيَانُ،
وَسِرٌّ،
فَخَالَطَ حِبْرَ النُّبُوءَةِ دَمْ.

وَتَفَتَّقَتْ رُوحُ مَعْنًى قَدِيمٍ،
وَأَصْبَحَ وَجْهُ اللُّغَاتِ ضِيَاءً،
فَتَكَسَّرَتْ صَخْرَةُ الْوَحْيِ فِينَا،
وَذَابَ السُّكُونُ،
وَفَارَ الأَلَمْ.

سابعًا/. (النارُ التي وُرِثَت من النبوّة)

مِنْ وَجْهِهِ الْمَطْلِيِّ بِالصَّمْتِ انْبَثَقْنَا،
وَالنَّارُ فِي كَفِّ الخَيَالِ تَوَهَّجَتْ.

مَا كَانَ إِلَّا سَاكِنًا... لَكِنَّهُ
فِي نُطْقِهِ،
نَارُ الزَّمَانِ تَفَجَّرَتْ.

(مَا كَانَ إِلَّا سَاكِنًا...
لَكِنَّهُ
في نُطْقِهِ،
قَامَ الزَّمَانُ
وفَزَّتِ
كُلُّ الجِرَارِ،
وانْشَقَّ فَوْقَ سَنَاهُ نَصٌّ،
والرُّوحُ فِي قَلْبِ اللُّهُوفِ
تَمَوْجَتْ.)

في كُلِّ جُرْحٍ كَانَ يُخْفِي سِرَّهُ،
نَزَفَتْ قَرَاحَاتُ النُّبُوَّةِ،
وانْشَقَتْ.

(النَّارُ لَمْ تَأْتِ الرِّيَاحُ بِشَأْنِهَا،
بَلْ مَا وَرِثْنَاهَا ،
وعَيْنُهُ أَسَرَّتْ
سِرًّا،
يَشُبُّ عَلَى الجُرُوحِ،
ويَنْثَني
في كُلِّ آيَةِ غَائِبٍ...
تَفَجَّرَتْ)

والنَّارُ مَا جَاءَتْ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي
تَسْرِي،
ولَكِنْ: مِنْ حُنَاجِرِ مَنْ صَمَتْ.

كُلَّمَا احْتَرَقَ الرَّمَادُ،
تَسَامَتْ
مِنْهُ يَدٌ تَحْمِلُ القَصَبَ النَّارِيَّ،
وَتَمُرُّ الطُّرُقَاتِ تَسْأَلُ:
أَيْنَ النَّبِيُّ؟

لَمْ يُجِبْهَا سِوَى حَجَرٍ في الزُّقَاقِ،
قَالَ: (إنَّ النَّبِيَّ مَقَامُهُ الآنَ
فِي دِمَاءِ القَوَافِي وَفِي الكَلِمِ).

ثامنًا/. (قُلْ لأُوديسَ: انتهتْ أسفاره)

قُلْ لِأُودِيسَ: انْتَهَتْ أَسْفَارُهُ،
لَا مِرْسًى،
لَا مَوْجٌ،
وَلَا أَقْمَارُهُ.

(قُلْ لِأُودِيسَ:
انْتَهَتْ أَسْفَارُهُ،
وَالبَحْرُ لَا يَسْكُنْ :
إِلَا فِي السُّفُنْ.
لَا جَزِيرَةٌ تَنْتَظِرُ المَشَّاءَ،
لَا نَشِيدٌ يَرْفَعُ المُنْهِزِمِينْ.)

مَا بَيْنَ نَفْسِ الرَّاحِلِينَ ،
وخُطْوِهِ،
بَحْرٌ يُمَزِّقُ نَصَّهُ ،
ويُدَارِيهِ.

(مَا الَّذِي بَقِيَ:
سِوَى خَرِيطَةِ مِلْحٍ؟
ونَدَاءٍ...
في الغُيُومِ،
وفي الطِّفَلِ الحَزِينْ.
قُلْ لَهُ: العَصْرُ تَجَهَّمَ،
والمَدِينَةُ لَمْ تَعُدْ:
تُرْفَعُ فِي الأَغَانِي،
بَلْ تُطْبَعُ فِي بَيَانِ الخَانِعِينْ.)

قُلْ لَهُ: العَصْرُ الَّذِي تَبْكِيهِ قَدْ
سُرِقَتْ خَرِيطَتُهُ،
ومَاتَ سِرَارُهُ.

(قُلْ لَهُ:
الأَنْبِيَاءُ غَادَرُوا بِلَا قَوَافٍ،
وَالشُّعَرَاءُ مَاتُوا :
فِي قَصِيدَةِ مَنْفًى،
وَالعَشَّاقُ...
لَا يَعْثُرُونَ عَلَى رُبًى،
إِلَّا فِي خَيَالِ النَّازِفِينْ.)

قُلْ لَهُ: لَا شَاعِرٌ يَصْفُو لَنَا،
إِنْ كَانَ يَكْتُبُ لِلْخُيُوطِ غُبَارُهُ.

(أُودِيسَ،
يَا تَائِهَ الرُّؤْيَا،
إِذَا بَلَغْتَ السُّرَجَ المُنْفِيَّةَ،
فَاقْرَأْ عَلَى أَسْوَارِهَا آيَاتِنَا،
وَاخْرُجْ مِنَ الأُسْطُورَةِ كَيْ تَسْتَرِيحَ،
فَإِنَّ النُّبُوءَةَ لَمْ تَعُدْ
تَنْبِتُ الزَّعْفَرَانَ فِي الجُرُوحْ،
وَلَا تَسْقِي الغَرِيبَ حِنَانَهَا.)

إِنَّ النُّبُوءَةَ،
يَا غَرِيبُ،
جَرِيحَةٌ،
تَنْقُلْ إِلَى سَجَنِ الرُّؤَى أَسْوَارَهُ.

(فَاخْرُجْ...
فَإِنَّ اللُّغْزَ لَا يُبْنَى عَلَى
مَنْفًى،
ولا تُحْيَا بِكِذْبٍ أَشْعَارُهُ.
إِنَّهَا تُنْزِلُ عَلَيْهِ الوَصَايَا:
كَالحِمْلِ،
وتَتْرُكُهُ يُفَسِّرُ نَفْسَهُ
فِي صَخْرَةٍ...
لا تَفْهَمُ السُّجُودْ.)

قُلْ لِأُودِيسَ: إنَّ الرِّيَاحَ تَعِبْنَ،
وَإِنَّ الجُزُرْ صَارَتِ الآنَ صَدْرًا،
يَتَفَجَّرُ فِيهِ نَشِيدُ المَصِيرِ.

قُلْ لِأُودِيسَ: (إنَّ فِي الْمِلْحِ نَوْمًا)،
(وَفِي خُصْلَةِ الشَّعْرِ بَدْءُ الْخُتَامِ)،
(وَإِنَّ الطَّرِيقَ انْطَوَتْ في عُيُونِهِ).

(وَأَنَّ الْبَصِيرَةَ صَارَتْ رَمَادًا)،
(وَأَنَّ البِحَارَ تَنَاءَتْ كَمَاءٍ)،
فَغَارَتْ طُرُقُ الرُّؤْيَةِ فِي الرِّمَالِ.

تاسعًا/
1-(وصيّةُ المدنِ الساقطة)

المدنُ لا تسقطُ دفعةً واحدة،
بل
تُغلق أبوابَها في الظلام، ثم تخرُّ بلا صرخة.
تكتب وصيّتها على جدرانها المنسية،
لا بالحبر،
بل بأثرِ المشي في الأزقّة،
برائحةِ الخبز الذي لم يُخبز،
وبعينِ طفلٍ نسي الطريق إلى المدرسة.
وصيّة المدن الساقطة لا تُقرأ... بل تُشمّ، تُلمَس،
وتُبكَى.
هي لا توصي بالثأر،
ولا بالخلود.
بل تهمس:
"لا تُغنّوا لنا، بل افتحوا النوافذَ لعلَّ ظلًّا منا يعود."

(توشك كل عين ألتقيها
أن يومض اسمي في قرارتها و جهلي بالدروب
و لست أسأل عابريها عن بعيد عن قريب
من منتهاها و اكتئابي و الحنين مع الغروب)14*

2- "نافذةُ الغيم"
(الظلال المنكسرة)
1
في الشرفةِ العمياءِ من بغدادَ،
نَشجٌ يُرَتِّلُ خَيْبَةَ المِرْمَى،
والنخلُ يمشي في الدُّجى وَحْدَهُ،
يبكي، كأنّ النهرَ قد أدمى.
2
جَسَدٌ مَصْلُوبٌ على الشَّمْسِ،
صَوْتُ أَنْفَاسٍ تُغَادِرْ،
وَالْقُيُودُ الْيَابِسَاتُ
فِي سَقْفِ دَارٍ،
كَانَتِ الْقَهْرَةْ.
3
قُرْطُبَةٌ فِي الدَّمِ المُعْتِمِ،
تُكْتُبُ ضَوْءَ الأَنْدَلُسِ الْمَنْفِي،
تَسْقِي الجِرَاحَ خُطَاهُ نَدًى،
وَتَظَلُّ تَسْأَلُ: هَلْ نَفِي؟
4
ظِلُّ نَايٍ،
وَجِرَاحٌ
تَحْتَ قِبَّةِ الدِّمَشْقِ.
كُلُّ نَصٍّ... قَدْ كَتَبْنَاهُ،
كَانَ نَكْسًا،
كَانَ فَقْدَ السَّنَا.
5
فِي القَاهِرَةِ، سَقَطَ الحُلْمُ،
بَيْنَ حَجَرٍ... وَبَيَادِرْ،
وَانْطَفَأَ الحَرْفُ الَّذِي كَانَ يُغَنِّي،
فِي نَشِيدِ الشَّمْسِ ،
وَالمَآذِنِ.
6
سَقَطَتْ مِنْهَا الوِلايَاتُ،
وأَسْوَارُ العُرْبَانِ،
والأَسْمَاءُ التِي أُعْطِيَتْ خَيْبَةَ التَّأْرِيخِ.
7
الشَّامُ نَايٌ،
في جِرَابِ البَائِسِ الرُّؤْيَا،
تَنْثُرُ الذِّكْرَى عَلَى أَشْلَاءِ أَيَّامٍ تُسَافِرُ،
نَحْوَ مَجْهُولِ السِّيرَةِ.
8
مَا عُدْنَا نَرْسُمُ خَيْرًا،
في مَطَافِ الذِّكْرَى،
كُلُّ نَجَاةٍ قَدْ بَدَتْ
مِثْلَ انْكِسَارٍ... يُرْهِبُ النَّجْوى.
9
صَرْخَةُ جُرْحٍ تَحْتَ أَقْدَامِ القُدُسِ،
تَرْسُمُ الضَّوْءَ عَلَى مَرْمَى الشَّهَادَاتِ.
10
والوَقْتُ الْبَاقِي:
أَعْوَامٌ... تُغَازِلُ ظِلَّ الحُفَرِ النَّازِفَةِ.
11
هُنَاكَ فِي جَامِعِ قُرْطُبَةَ،
كَانَتِ المِئْذَنَةُ
تَكْتُبُ نُورَ الخِلَافَةِ عَلَى جَبِينِ المَاءِ،
فَإِذَا البُكاءُ... صَارَ غَيْمَ الأَنْشُودَةِ.
12
كَانَتْ بَغْدَادُ تُصَلِّي لِلضِّيَاءِ،
فَغَزَاهَا نَفْسُهَا،
وصَارَ الرَّشِيدُ... أُرْجُوحَةَ الحِسْرَةِ.

13
مَرَقَتْ مِنْ نَصٍّ إِلَى آخَرَ،
ثُمَّ اسْتَسْلَمَتْ لِلصَّفْحَةِ الْبَيْضَاءِ
الَّتي لَا يُقْرَؤُهَا سِوَى الغِيَابِ.
14
سَوْفَ نَبْني مِنَ الطِّينِ ظِلًّا،
لَا يُبَاحُ لِلرِّيحِ،
وَلَا يَنْثَني عَلَى نَفْسِهِ.
15
هُنَاكَ فِي أَسْفَلِ الجُرْحِ
كُنَّا نَكْتُبُ مَلامِحَنَا،
ثُمَّ تَأَخَّرَ الحِبْرُ،
وَبَاتَتِ القَصِيدَةُ تُعَاتِبُنَا.
16
لَمْ نَسْقُطْ،
لَكِنَّا نَسِينَا أَنْ نَكُونَ خَرِيفًا،
يَحْفَظُ اسْمَ الشَّجَرِ المُبَاحِ.
17
فِي مِصْرَ، كَانَ المَلِكُ أَخِيرَ مَنْ يُصَلِّي،
ثُمَّ سَقَطَ تَحْتَ التَّاجِ الْمُزَيَّفِ.
18
قُرْطُبَةُ تُغَافِلُ الدَّمْعَ،
تَصُوغُ قَلَادَةَ المَفْقُودِ مِنْ أَنْفَاسِ المَآذِنِ.
19
هُنَاكَ،
فِي سُوقِ النِّسْيَانِ،
نَاشَدْنَا وَجْهَ القَاهِرَةِ،
فَأَجَابَتْ: كُنْتُمْ خَيَالًا فِي طَبَقِ التَّأْوِيلِ.
20
خُذُوا الشَّامَ،
فَهِيَ آخِرُ مَا يَبْقَى لِلرُّؤْيَا،
إِنْ بَقِيَتْ لِلرُّؤْيَا خَيْمَةٌ،
فِي خَارِطَةٍ لَا تَعْرِفُ اسْمَ الحَيَاةِ.
21
مَاتَتِ الْخِلَافَةُ فِي نَفْسِهَا،
وَلَمْ يَبْكِهَا سِوَى نَفْسٍ ضَلَّتْ طَرِيقَ النَّفْسِ.
22
مِنَ القَاهِرَةِ إِلَى دِمَشْقَ
مَرَّ نَعْشُ المَجْدِ،
وَمَا كَانَ مَعَهُ سِوَى آيَاتٍ مَسْرُوقَةٍ.
23
فِي بَغْدَادَ... قُدِّمَتْ القُرْآنُ قُرْبَانًا،
وَفِي الأَنْدَلُسِ صَلَّوْا بِسَيْفِ الغُرْبَةِ.
24
الآنَ، نَكْتُبُ آخِرَ السُّطُورِ
فِي مِرْآةِ الخُذْلَانِ،
نُعَلِّقُهَا عَلَى جُدْرَانِ الغِيَابِ،
وَنُدَوِّنُ تَارِيخَنَا:
هُنَا... انْكَسَرَتِ الظِّلَالُ.
25
فِي بَرْدِ صَمْتِ المَقَابِرِ،
سَأَلَتْهَا الطُّيُورُ الْغَرِيبَةُ:
أَيْنَ تَسْكُنُ المَجَازَاتُ بَعْدَ الرُّحَيْلِ؟
26
قَالَتْ: فِي وَرْقَةٍ تَسْقُطُ فِي صَلَاةِ الغُرْبَاءِ،
فِي دِمَشْقَ، حَيْثُ يَبْكِي التُّرَابُ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ.
27
هُنَا،
أَيْنَ تَبْدَأُ الأَشْيَاءُ كَصَمْتٍ،
تَنْتَهِي فِي وَجْهِ مَنْفًى،
وَتُوَارَى كَمِئْذَنَةٍ سَجَدَتْ فِي الظُّلُمَاتِ.
28
تَأَمَّلْنَا الجُرْحَ حَتَّى نَطَقَ،
فَصَارَ يُشْبِهُنَا:
وَجْهًا بِلا وَطَنٍ،
وَعَيْنًا تَسْكُنُ النُّفُورَ.
29
فِي كُلِّ مَئِذَنَةٍ نَزَفْنَا قَصِيدَةً،
ثُمَّ طَوَيْنَاهَا فِي أَسْفَلِ التَّارِيخِ.
30
الْغَرْبَةُ أَنْ نَبْقَى وَحْدَنَا
نَحْرُسُ صُورَةَ العَتَبَاتِ الَّتِي نَسِينَا اسْمَهَا.
31
كُلُّ مَا فَاتَ يَكُونُ كَالأَجْرَاسِ،
إِذَا دَقَّتْ بَلَغَتْ مِرَاثِيَ النَّبِيِّنَ،
فِي نَفْسِ كُلِّ مَسَاءٍ،
يَذُوبُ الحَنِينُ ،
وَيَصْمُتُ الأَذَانُ.
32
وفي النهايةِ... لَمْ تَكُنْ بَغْدَادُ تُجِيدُ الوِدَاعَ،
وَلَا دِمَشْقُ تَحْفَظُ الرَّحِيلَ،
فِي المَسَاءَاتِ المُنْكَسِرَةِ
يَكْتُبُ الطِّفْلُ وَجْهَ المَدِينَةِ فِي دَفْتَرِ المَطَرِ،
وَيَنْسَى أَنَّ العِنَاقَ كَانَ جَمْرًا،
أَنَّ أُمَّهُ أَصْبَحَتْ سَحَابًا يُبَاعُ فِي سُوقِ الغُرَبَاءِ،
وَأَنَّ الجِسْرَ الَّذِي مَرُّوا مِنْهُ
قَدْ كَانَ صَلَاةً نُسِيَتْ عَلَى مَاءٍ أَعْمَى.
3- (القاتُ والمِيقاتُ على تَوقيتِ ساعةِ رامبو)
1
أَتَهَامَسُ فِي نَفَسِ الغَيْمِ،
مَعَ عَدَنٍ تَتَفَتَّحُ فِي رَمْشِ مَوْجٍ،
تَلُوحُ كَأَنَّ الجَنُوبَ الَّذِي
تَسْكُنُ الرِّيحُ فِيهِ، يُرَتِّلُ نَجْمًا
وَيَنْشُرُ وَجْهَ الضِّيَاءِ عَلَيَّ.

وَصَنْعَاءُ،
تَخُطُّ فِي الجِبَالِ رُقُوقًا
مِنَ الطِّيبِ وَالصَّفْصَافِ،
وَتُهْدِينِي صَمْتَ الحَجَرْ.
2
تَسْنُدُنِي شَجَرَاتُ السِّدْرِ،
تُظَلِّلُنِي أَغْصَانُ العَرْعَر،
وَتَرْقُصُ حَوْلِي مَدَرَّجَاتٌ
مِثْلُ أَشْوَاقِ سُلَّمٍ يَصْعَدُ
فِي نَفَسِ النَّهْرِ.

تَهَامَةُ تَفْتَحُ جَانِبَهَا لِلرِّيَاحِ،
فَأَغْمِسُ فِي مِلْحِهَا قَلْبَ أَغَانِيهِ.
3
المِيَاهُ تُمَخِّضُ ذَاكِرَتِي،
وَتَرْضَعُ مِنْ جِيدِهَا نَخْلَةً،
وَأَرَاكِ، أَيَّتُهَا الزَّرْقَاءُ،
تُرَاقِصِينَ الطَّلْحَ وَالأَرَاكَ وَالأَثْلَ،
فَتُورِقُ فِي صَفْحَةِ الْمِلْحِ أُمٌّ
تُنَادِي عَلَى الحَشَائِشِ
بِصَوْتٍ يُجِيدُ الصَّمْتَ،
وَلَكِنَّهُ لاَ يُجِيدُ البَيَانْ.
4
صَنْعَاءُ،
تَفْتَحُ أَبْوَابَهَا لِلنُّجُومِ،
وَتَغْسِلُ وَجْهَ القَصِيدَةِ
فِي غَيْمَةٍ تَتَدَلَّى مِنَ الجِرْحِ.

حَوَارِيهَا يَرْفَعُونَ المَدَى
كَمَآذِنَ مِنْ رُمَّانِ وَحْيٍ،
وَيَحْرُسُهُمْ فِي الصَّفَاءِ نَسِيجُ الضِّيَاءِ
الذِي لَمْ يُطَالِبْ بِأُجْرَتِهِ.
5
وَعَدَنٌ؟
تُوَزِّعُ أَلْوَاحَهَا فَوْقَ مِرْآةِ بَحْرٍ،
تَشُقُّ طَرِيقَ المَلَاحِ
إِلَى سُورِ أَحْلَامِهَا.

تُنَادِي:
أَيَا مَنْ نَسِيتُمْ نَشِيدَ السُّفُنْ،
أَيَا مَنْ كَتَبْتُمْ عَلَى رَمْلِهَا:
«إِذَا نَامَتِ الرِّيحُ،
نَسْتَبْدِلُ الشِّعْرَ بِالطِّينِ».
6
يَمُرُّ عَلَيَّ المَكَانُ كَصُوفِيٍّ قَدِيم،
يُرَتِّلُ أَسْمَاءَهُ فِي الظِّلَال،
وَيَغْسِلُ صَوْتِي بِمَاءِ البَيَادِ،
وَأُبْصِرُ نَفْسِي
كَمَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى الجَنَائِنِ
بِأَثَرِ الوُرُودِ
عَلَى كَفِّ أَرْمَلَةٍ مَارَقَة.
7
وَحَضْرَمَوْتُ،
تُجَرِّحُ نَفْسِي بِمِرْآةِ أَسْرَارِهَا،
تُرَتِّقُ جِلْدَ الجَبِينِ بِكُتْبَةِ صَوْتٍ،
يُسَبِّحُ فِي رَمْلِهَا النَّازِفِ البِيضِ،
وَيَخْرُجُ مِنْ بَابِهَا أَوَّلُ الشِّعْرِ،
مَذْبُوحَ مِثْلَ قَمِيصٍ،
تَشَقَّقَ فِي سُرَّةِ الذَّاكِرَةْ.
8
فِي غَيْهَبِ السَّنَواتِ
تَكُونُ الصُّرَاخَ الَّذِي لَمْ يُقَلْ،
تَكُونُ الجُرْحَ الَّذِي رَبَتَتْهُ الجِبَالُ،
وَأَنْتَ تُقَلِّبُ أَيَّامَكَ المَاءَ،
لِتُفْلِتَ أَحْرُفَكَ المُدَّخَرَاتِ
فِي وَرَقِ الغِيمِ.
كَيْفَ تُطْفِئُ النَّارَ؟
وَأَنْتَ أَشَعْتَهَا فِي لُغَاتِ الظِّلَالْ؟
9
أَسِيرُ إِلَى البَابِ
أَسْأَلُهُ:
مَنْ كَانَ يَكْتُبُنِي قَبْلَ هَذَا المَدَى؟
فَيَقُولُ:
خُطَاكَ... هِيَ الكَاتِبُ الأَوَّلُ.
وَأَدْخُلُ فِي سَطْرِ صَمْتٍ،
وَأَشْرَبُ ظِلِّي،
وَأَنْهَضُ مِنِّي عَلَى وَقْعِ نَخْلَةٍ
أَوْشَكَتْ أَنْ تُبَاحِكَ نَفْسَ الرِّيَاحْ.
10
وَأَكْتُبُنِي...
كَمَنْ يَخْتُرِعُ اللَّيْلَ مِنْ نَفْسِهِ،
يُطَهِّرُ وَجْهَ الحَرُوفِ
بِمِلْحِ البُكَاءْ.
وَيَزْرَعُنِي فِي القَصِيدَةِ
كَرَغْبَةِ نَسْرٍ تَكَسَّرَ ظِلًّا،
وَأَقْرَأُنِي فِي النُّجُومِ الَّتِي
لَمْ تُرَتَّلْ بَعْدُ.
11
أَنَا المَدِينَةُ،
أَمْشِي عَلَى سَطْرِ أَسْلاَفِيَ الغَائِبِين،
وَأَنْفَخُ فِي نَفْسِيَ الرِّيحَ
كَيْ يَسْتَدِيرَ الجِسْمُ مِثْلَ القُبَّةِ.
أُقَلِّبُ نَفْسِي
كَمَنْ يَغْسِلُ الآثَارَ مِنْ أَثَرِه،
وَأُشْعِلُ حَجَرِيَّ الأَخِيرَ
بِصَوْتِ النُّحَاسِ.
12
وَأُمِّي،
تَخِيطُ دَمِي بِالمَوَاسِمِ،
تُلَفْلِفُ نَفْسِي عَلَى قَدْرِ طِفْلٍ،
وَتَقْرَأُنِي فِي الضُّلُوعِ،
كِتَابًا تَكَسَّرَ بَعْدَ المَدَادْ.
هَلْ هَذِهِ قَامَتِي،
أَمْ سَقْفُ التَّأَمُّلِ يَرْفَعُنِي
كَي أَسْقُطَ فِي عَيْنِهَا؟
13
كُنْتُ أُسَمِّي المَسَاءَ بِنَفْسِي،
وَأَمْلَأُ أَسْمَاءَهُ بِالهَوَاءِ.
يُرَاوِدُنِي ضِلْعُهُ المُنْكَسِرُ
فِي يَدِ العَاشِقِ الغَافِلِ،
يُرَاوِدُنِي النُّورُ
كَنَافِذَةٍ بَاتَتْ تَقْرَعُ نَفْسَهَا
لِتَدْخُلَ فِيهَا.
14
غُمْدَانُ؟
سَأَلْتُ الحُرُوفَ،
فَقَالَتْ: مَنَائِرُهُ قَدْ تَوَارَتْ،
وَبَابُ المُدُنِ الجَائِفِ يَنْزِفُ
مِنْ شَرْقِ سِرْبَالِهِ.
رَأَيْتُ رَمَادَ المَدَى
يَسِيرُ عَلَى كَفِّ زَهْرَةٍ،
وَيَفْتَحُ نَفْسِي عَلَى وَجْهِهِ
كَأَنِّي أَنَا.
15
وَأَنْتِ...
أَيَّتُهَا الَّتِي فِي الهَوَاءِ وَفِي المَاءِ،
أُسَمِّيكِ: أُفُقًا يَزُفُّ النُّجُومَ
إِلَى أَصْبَعِي.
أُسَمِّيكِ: أَوَّلَ وَرْدٍ تَفَتَّحَ
فِي صَدْرِ الغِيَابِ.
وَأَكْتُبُ فِيكِ جَسَدِي،
كَمَنْ يَصْطَنِعُ مِنْ قُبْلَةٍ
قَارَّةً لا تَغِيب.
16
فِي غِيَابِكِ
يُضِيءُ الزَّمَنُ خُفُوقَ مَسَامِّي،
وَيَنْهَضُ الجِسْمُ كَمَا المَجَازُ،
يَبْنِي نَفْسَهُ مِن نَفْسِهِ،
يَفْتَحُ فِي الرِّيحِ نَصًّا،
وَيُكَمِّلُ نَقْصَ الدَّمِ بِنُقْطَةِ وَرْدٍ.
كَيْفَ نُسَمِّي الَّذِي يَنْبُتُ فِي أَضْلُعِنَا
وَنَسْقِيهِ نَحْنُ؟
17
أَنْتِ الحُرُوفُ إِذَا غَابَتْ،
وَأَنْتِ الصَّفِيحُ إِذَا عَادَ لِيحْرُقَنِي.
أَنْتِ السَّرَابُ،
وَأَنَا الغَارِقُ فِي وَهْمِهِ،
مَا اسْتَطَعْتُ الْخُرُوجَ،
وَلَا اسْتَطَعْتُ التَّلَاوُمَ مَعَ النَّارِ،
كُلُّ الَّذِي فِيَّ: نَارٌ
تَفْتَحُ نَفْسَهَا عَلَى أَسْمَائِكِ.
18
أَنَا الرُّؤْيَا
إِذَا عَادَتْ مِنْ مَنْفَاهَا.
أَكْتُبُنِي فِي فَصِّ الرِّيَاحِ،
وَأَقْرَأُنِي فِي سَطْرِ الحُلْمِ،
لَا مَكَانَ يَتَّسِعُ لِي
غَيْرَ هَذَا الّتِيْهِ
فِي رَائِحَتِكِ.
19
مَاذَا يُسَمُّونَ نُطْفَةً
لَا تَصِلُ،
وَحُلْمًا لَا يَسْبِقُهُ نُعَاسٌ؟
هَلْ نَحْنُ أَسْرَى الرُّؤْيَا؟
أَمْ أَسْرَى جُرْحٍ بَاتَ يَنْبِضُ فِينَا
وَلَا يَتَعَافَى؟
نَذْهَبُ فِي الحُبِّ كَمَنْ يَشُقُّ الطِّينَ
لِيَبْلُغَ قَامَتَهُ الأُولَى.
20
أُحَاوِلُ أَنْ أُشْبِهَكِ
فَأَصِيرَ صَمْتًا،
وَأُحَاوِلُ أَنْ أُخَالِفَكِ
فَأَصِيرَ مَوْجًا.
لَا شَيْءَ فِيَّ سِوَاكِ،
وَلَا شَيْءَ فِيكِ سِوَايَ.
نَحْنُ الذُّرَاةُ،
وَالرِّيحُ،
وَصَمْتُ الشِّفَاهِ إِذَا بَاحَتْ.
21
رَأَيْتُ الحَجَرَ يَبْكِي عَلَى جَبِينِ البِلاَدِ،
وَيَنْشَقُّ مِثْلَ الوُجُوهِ التِي ذَابَ فِيهَا المَسَاءْ،
وَفِي النُّقُوشِ الكَثِيفَةِ،
كَانَتْ يَدَايَ تُرَتِّبُ أَشْلَاءَ صَبْرِ النُّبُوَّةِ،
وَتَرْسُمُ نَبْتَ العَبَاءَةِ حَوْلَ السُّرَادِقِ.
22
وَسَأَلْتُ المَاءَ: أَتَذْكُرُ قَدَمِي؟
فَتَأَوَّهَ مِنْ بَعِيدٍ،
وَتَلَاوَحَ كَالذِّكْرَى،
ثُمَّ تَنَاسَى صَفْحَةَ الجُرْحِ
وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَلَاحَةِ وَالنَّسْيَانِ.
23
فِي سَاحَاتِ الشَّمْسِ،
تَكْتُبُ صَنْعَاءُ وَجْهَهَا
بِرِيشَةٍ مِنْ غُيُومٍ شَفِيفَة،
وَتَعْقِدُ بَيْنَ جَبِينِ الوَفَاءِ
وَبَيْنَ بَيَاضِ الأَذَانِ سِرًّا مِنَ الحُلْمِ.

24
عَدَنٌ تُفَتِّشُ فِي جُرُوحِ الأُمَمِ،
تَجِدُهَا كَالدَّمْعِ تَنْهَالُ مِنْ حَوَافِ الرُّمَادْ،
وَتُطْفِئُ مِصْبَاحَهَا،
كَيْ تُنَامَ الزُّرْقَةُ فِي عَيْنِ بَحْرِهَا،
وَتَتَدَثَّرَ بِاللَّيْلِ وَالأَسْرَارِ.
25
وَفِي شِعَابِ المَسَاء،
يَسْقُطُ النَّخِيلُ مِثْلَ دُمُوعٍ تَخَلَّتْ عَنِ الجِذْرِ،
وَيَتَوَغَّلُ المَاءُ فِي نَبْضِهِ،
لِيَصْعَدَ فِي الجُرُوحِ وَيَكْتُبَ لِلظِلِّ أُغْنِيَةً،
وَيَنْسَجَ مِنْ صَوْتِ الجِدْيَانِ طَرِيقَ الرُّؤْيَا.
26
حَضْرَمَوْتُ تَنْحَتُ النُّورَ فِي نَفَقِ المَلْحِ،
تَحْفُرُ بِالأُغْنِيَاتِ صَدَى الجُدْرَانِ،
وَتُلْقِي بِقَصْفِ الحُروفِ عَلَى المَاءِ،
كَيْ يُشْبِهَهَا النَّبْتُ حِينَ يُقَبِّلُ وَجْهَ التُّرَابِ.
27
أَمْضَيْتُ عُمْرِي أُطَارِدُ وَجْهَ المَدِينَةِ،
تَغْسِلُنِي بِالضَّوْءِ،
ثُمَّ تُرَاوِغُنِي كَامْرَأَةٍ تَخْفِي النَّبْضَ
فِي نَبْرَةِ المِشْيَةِ،
وَتَرْقُبُنِي وَأَنَا أَنْحَتُ المَعْنَى مِنْ وَجَعِي.
28
يَتَسَلَّقُ الجِسْرُ جَبِينَ الفَجْرِ،
وَيَسْقُطُ فِي ضَجِيجِ الغِيَابِ،
كَمْ جِئْتُ أَطْرُقُ أَبْوَابَهُ،
فَتَفْتَحُ لِي الرِّيحُ أَلْفَ مَنَافٍ،
وَتَكْتُبُنِي زَوَايَا الخَيَالِ سَكِينًا تَكُونُ وَطَنًا.
29
قَالَتْ صَنَعَاءُ: أَخَافُ مِنَ الغَدِ،
وَقَالَتْ عَدَنُ: وَأَنَا مِنْ مَضَى،
وَقَالَتْ حَضْرَمَوْتُ: لَا هَذَا، وَلَا ذَاكَ،
فَكُلُّ الزَّمَنِ يَسْكُنُنِي،
وَكُلُّ الحُرُوفِ أَكْتُبُهَا عَلَى جِلْدِ النَّارِ.
31
وَأَقُولُ: أَنَا مَنْ غَسَلَ الوَجْعَ بِالمَاءِ،
وَشَقَّ الحَنِينَ بِنَفْسِهِ،
وَصَاحَ: أَيَّتُهَا البِلَادُ الَّتِي لَا تَمُوتُ،
كَيْفَ تَشْهَقِينَ كُلَّمَا لَامَسَتْنِي ذِكْرَى؟
كَيْفَ أَكْتُبُكِ، وَأَنْتِ فِي كُلِّ دَمْعَةٍ خَارِجَةٍ مِنِّي؟
4-(النبيّ العاري)
1
وجهُ النبيِّ يُنادينا،
في مرآةِ دجًى مذعورْ،
نُصغي لجِراحِ الرؤيا،
فتُجيبُنا النارُ السّاطورْ.
2
ونبيُّ الحرقةِ لا يَصرخُ،
لا يَصلبُ صوتَهُ في السِّربِ،
يكتبُ صمتًا بجبينِ الوقتِ،
ويرسمُ وجهَ اللهِ قُروبَ الفجرِ.
3
في الطينِ دمُهُ،
في الكفِّ نُداهُ،
والمسجدُ عُريانٌ،
والمنبرُ خالٍ من نَفحَتهِ.
4
يا ناقةَ صبرِ الرُّسلِ،
كم خَطبوا منكِ،
وكم شربوا من حَلبِ الدمِ،
وما ظمِئوا لسِواكِ.
5
تُستَفتحُ الكلماتُ بدمِ الشهداءِ،
ويُصلّي المسكينُ على نفسِهِ،
ويقومُ لِقِبلتِهِ وحدَهُ،
في صلاةٍ لا يأتيها إلا الموتْ.
6
والدمُ الذي كان نبيًّا،
أقسمَ: لا أُرجئُ وقتَ الغضبِ،
إنِّي لنبتُ الريحِ،
وأَسقُطُ بينَ الملحِ واللظى.
7
في خُطبةِ النبيِّ الجسدُ،
قامَ المِقياسُ على السَّقي،
فتجاوزهُ حرفُ الماءِ،
واستسقتهُ يدُ الرملِ.
8
والريحُ تبوحُ للصَّمتِ برؤيا النبيِّ،
والصمتُ يُقدّسُ خُطوَ النارِ،
في فصلِ القصاصِ،
لا يبقى إلا الحرقُ والقصيدُ.
9
أيّها النبيُّ العاري،
ما الذي أسقطَ نُبوّتَكَ؟
رأينا عليكَ سترَ الرِّياءِ،
ولا نَزلتْ عليكَ السماءُ.
10
وتركناكَ تبكي في صحراءِ رؤاكَ،
فصارتْ الدمعةُ واديًا،
تُفجّرهُ حناجرُ الأصواتِ،
ويبيعُهُ خُلفاءُ السُّكونِ.
11
هذا جسرُ الكلماتِ على بحرِ النبيِّ،
كلُّ خطاهُ أمواجٌ،
كلُّ يدٍ تسبحُ في نخلِ الرؤيا،
تحملُ وصفَ الوحيِ وصورَ الجِراحِ.
12
إنَّهُ يَكتُبُنا،
ونحنُ نمحوهُ،
يصوغُنا مثلَ ظلٍّ على الجدارِ،
فنكسِرُ مرآتَهُ بصَدانا.
13
والنبيُّ لا يموتُ،
لكنَّهُ يُصلبُ في كلِّ سطرٍ،
ويُرجَمُ في كلِّ تكبيرةٍ،
ويُباعُ في كلِّ سوقٍ للمعنى.
14
أيّها الجسمُ الذي ضاقَ بنا،
كيفَ نستفيقُ؟
وكيفَ نَخرجُ من نُعاسِكَ،
والوحيُ نائمٌ في كفِّ جسدِكْ؟
15
هل الوحيُ مرآةٌ لصوتِ اللهِ،
أمْ صدىً لصوتِ الأجدادِ؟
هل النبيُّ يُكلّمُنا،
أم نحنُ نُكلّمُ نفوسَنا فيهِ؟
16
قُلْ لجِبريلَ:
لم تبقَ سماءٌ لِتُفتحْ،
كلُّ الأبوابِ من نُحاسٍ،
والحُلمُ مُغلقٌ بصوتِ القضاءْ.
17
قُلْ لجِبريلَ:
لا تحملْ كلماتِ اللهِ إلينا،
فسمعُنا مثقوبٌ،
وذاكرتُنا مليئةٌ بالأصنامِ.
18
أيّها النبيُّ،
كيفَ تقرأُ في كتابٍ نُقِشَ بالحُفرةِ،
وكيفَ ترى والطَّلسمُ مرسومٌ على بصرِكَ؟
19
وإن نزلَ الوحيُ عليكَ،
فلِمَن تُخبرُنا؟
وهل نبقى نسألُكَ:
ما الحقُّ؟ مَن أخطأَ؟ ومَن يُصلِّي؟
20
أتينا لنكتبَ فيكَ ما يُكتَبُ عنَّا،
ولم نجدْ إلا جسدَكَ،
فقرأناهُ،
وكان الدمُ خاتمةَ السورةِ.
21
وكلّما أجْهشَ الحرفُ بصلاتِهِ،
عَلَتْ أصواتُ القتلةِ،
وصلَّوا على سيفٍ،
وسبَّحوا بدمٍ لا ينضبُ.
22
هذا كتابُ النبوّةِ،
خُذْهُ بقوّةٍ،
واكسرْ بهِ وَثَنَ القصيدةِ،
إنْ كانَ الشعرُ يُقرَأُ كهنوتًا.
23
إنَّ الشعرَ يُنزِلُ مثلَ الوحيِ،
لكنَّهُ لا يُبشِّرُ،
إنَّهُ يُفجِّرُ،
ويرسمُ وجهَ اللهِ بنارِ الجراحِ.
24
النبيُّ لا يُورَثُ،
لكنَّ مَنِ استمعوا لرعدِ الوحيِ،
حملوا الماءَ في شقرانِ المعنى،
وسقوا بهِ الصدى.
25
وأنتَ، يا شعرُ،
قُمْ، كما قامَ الوجيعُ على رُكبتيهِ،
واكتبْ نبيَّكَ في جسدِ الزمانِ،
واصعدْ معهُ إلى الجُرحِ.

خاتمة:
والنبيُّ الذي انشَقَّ منهُ النشيدُ،
لا يموتُ...
يسكنُ في لُجَّةِ الجُرحِ،
ويصعدُ في حُلمِ الأسئلةْ،
نَكتبُهُ لمّا نَفنى،
ونذكرُهُ في نِهاياتِ النَّغمِ،
ثمّ نَمحُو اسمَهُ ليَبقى...
صوتًا
يَهدِمُ أسطُرَنا،
ويَبني البدايةْ.
5-(محاولة لتأويل شُقُوق السُّوبَاط)
1
هُنَا، في الشُّقوقِ الَّتي ما زالت تَتنفَّسَ في جِدار الغِيَابْ،
أرَى ظِلِّيَ الأَوَّلَ يَصْعدُ مِنْ جَبلٍ كانَ يَحْمِلُني،
ثُمَّ يُنَزِّلُني إلى حُِضْنِ الحُروف،
فَيكْتُبُني كذُّنوبِ على سِفْر مَنْ ماتَ قَبْلَ الشَّهيق،
ومات مع الشَّهْوةِ،
ومات إذا شاخَ صَوْتُ الرُّؤى في المَدى.
فَمَنْ أنا إن تأخر نص الحياة،
ومن أنا إِنْ تَجاوزَ ظِلِّيَ نَفْسي؟
2
في طريق السُّوباطِ،
تكونُ الرُّؤْيا قصبًا أَخْضرَ،
تَشُقُّ سَرابَ التَّأْويل،
تُلوِّحُ للنَّازِلينَ من البَحْرِ
وهُم يحمِلُونَ على ظُهورِهِمُ المَجازَ
كنازِلةٍ مِنْ جَمْر الغَوايةِ.
تكونُ الكلِمةُ مَثْلَ وميضِ السُّهوِ،
تَلْمعُ مَرَّةً
في زَفير المَوت،
وتَخفُتُ في النَّفَس الأَوَّلِ للوِلادةِ.
3
في السُّوبَاط،
يَمْتدُّ جَسدُ الزَّمن كأَنَّهُ سِرْبٌ مِنَ الأَصداءِ،
تَخرُجُ مِنهُ الذِّكْرى على مَهلٍ،
كأَنَّها تَلْهو بنسْجِ الحُلُمِ
على مِغْزلٍ مَكسُورٍ.
وفي كُلِّ وخْزةٍ
تسقُطُ نَجْمةٌ
في يد المٌنْتظِر الذي نَسِي اسمَهُ،
ونَسِي لِمَنْ كان يَنْتظِرْ.
أَمامَ مِرآة السُّوباط،
يَجْلِسُ النَّبيُّ العَاري،
يقرأْ ما سُطِّرَ في اللِّيْل
عَنِ الجسَد الَّذي يَكْتُمُ الرُّؤْيا،
وعن النَّشيد الَّذي كان يَسْتبِقُ الشَّهْوةَ إلى العتبات.
يتذكَّرُ كيف أخفى الجبينُ بُكاءَهُ،
وكيف انفجر الوحيُ
في لحظَة ضَعفٍ
تفجَّرتْ فيها المياهُ
من شَقٍّ في جبهة اللُّغة.
4
تَسقُطُ الحُروفُ على جِلْد النَّبيِّ،
كَندًى في ساعاتِ الفَجْرِ،
لا يُمكِنُ كنْسُهُ،
ولا قِراءَتُهُ دُونَ دمٍ يُهجِّنُ معناهُ.
يخرُجُ مِنه الشِّعرُ
كحياةٍ ثالِثةٍ
لا هي موتٌ،
ولا هي خُلُودٌ،
بل حالةٌ بين صمتِ الإلهِ
وهمسِ العاشِقِ
في أُذُن المَعْنى.
5
في السُّوباط،
يكْتُبُ النَّبيُّ قصيدتَهُ بريشةٍ من جُرحٍ،
ويسقيها من لُعاب الرُّؤْيا
ومِلْحِ الأيَّام.
كُلُّ بيتٍ
مِئذنةٌ صامتةٌ
تُؤذِّنُ لوقتٍ لم يأتِ،
كُلُّ كلِمةٍ
سِرْبٌ مِنَ الشَّهقاتِ
في صَدْر الحَقيقةِ
6
ينسِلُّ الظِّلُّ من جسد النَّبيِّ،
كأنَّه أفْعى،
ويترُكُ فوقَ الجِلْدِ
وشْمَ الشَّكِّ
ورعشةَ الوحيِ
في حين الغيابِ.
يتفصَّدُ الحرفُ،
يُباحُ النُّطقُ،
تسقُطُ الأسماءُ في بحر المعاني،
ويُولدُ منها سِفْرٌ جديدٌ
مكْتوبٌ بالأنفاسِ.
7
في غارِهِ الأخيرِ،
كان يُفكِّكُ نُجومَ اللَّيل
ليبْني منها قَنادِيلَ الصَّبابةِ،
ويُعلِّقَها في سقْف اللُّغة،
لتُضيءَ لمن يأتي بعدهُ.
لا يتعمَّدُ الوُضوحَ،
لكِنّهُ يكْتُبُ
كمن يُقَبِّلُ جَرْحَهُ قُبلةً أولى،
ثُمَّ يرتجِفُ،
فينْزِلُ عليهِ حرفٌ كالوحيِ،
أو كالذَّنبِ.
8
يتخفّفُ من لحية القِداس،
ويَلْبَسُ قميصَ الهُيام،
يُصلّي على شفاهٍ نسِيت لفظَ الرُّوحِ،
ويَسجُدُ في حُفرة النَّفْس.
9
لا فرقَ بين اللَّبن والدَّم،
إذا اشتعلتْ مرايا الرُّؤْيا
في حُلْم الشَّاعر،
وسقط النَّبيُّ
في نُقطة الألِفِ.
10
قال:
ليس لي وادٍ،
ولا طُورٌ،
ولا عصًا تنقلِبُ أفعًى،
لكِنَّني أحمِلُ وحيًا
يتفجّرُ من شقّ الأنْفاس.
قال:
لستُ نبيًّا،
لكِنَّني أمشي على جُرْح النُّبوّة،
وأكتُبُ بيدٍ مقطوعةٍ
في دفتر الرُّؤيا.
يصعدُ من وحْيهِ المُنْكَر
قطعًا من هَوًى في السَّرَاب،
يَنزِفُ المعنى على لُغة
قد نَسِيت ألِف الاقْتِرابِ.
11
لا يُجيدُ البيانَ،
ولا يستظِلُّ بمِسكِ البيانِ،
يُشَبِّهُ نفسَهُ
بجنينٍ تُخبِّئُهُ كفُّ نارٍ.
12
يُوزِّعُ نفْسَهُ
بين حرفٍ يُصلِّي،
ونفْسٍ تُغنِّي على طَللٍ
من عُيون القُدماء.
13
يتجلَّى في ورقٍ
لا يحتمِل الوحيِ،
يرسُمُ في رِيقِهِ
أسطُرَ الغَيبِ،
يُفقِدهُ النُّطقُ مِرآتَهُ.
14
أيُّها القلِقُ،
لا تُرتِّبْ ورقَ الرُّؤْيا،
فالرُّؤْيا ماءٌ
يُباغِتُ نفْسَكَ
في نفْسِها.
15
يدورُ على خاصِرات الحُروف،
ويصقِل مِرآته بالرَّماد،
فإنْ هاجهُ صوتُ نفْسٍ قديمٍ
تمطَّى على ضوْء نجْمٍ بادٍ.
16
هًناك، في شامَة الحَرْف،
يخبو ضِياءٌ يُوار"ي"بُ نفْسَكَ،
فاخرُجْ، كما يخرُجُ القمرُ
من نُدْبةِ الغيْمِ.
17
يُقلَّبُ وجْههُ في السَّماء،
فلا يرى غير جُرحٍ يُصلِّي،
ولا يسمعُ غير حنينٍ
يُجفِّفُ نبض الأذانِ.
18
يُجادِلُ نفْسهُ بالحِكاية،
ويكتُبُ نفْسه بالظِّنُون،
يخفي رأسه في الدَّواة،
ويبكي.
19
يقول: أنا كُلُّ هذا الغُبار،
وأنا زَفِيرُ الدَّم المُنْكَر،
وأنا مدارُ الشَّظايا،
أنا هذه اللُّغة.
20
يُقشِّرُ نفْسه بانكِفاء الخُيوطِ،
ويَسْبِكْ جَرحًا على مُنْحنى الظِّلال،
يُسمِّي انكِسار المرايا دُمُوعًا،
ويغسِلُ نفْسهُ باشتِعالٍ.
21
يضمُّ الضِّياء على صَدرِهِ،
ويخشى نُبوةَ من ينكُرُهُ،
يُفكِّكُ أوتاد رُؤياه حتَّى
يُجمِّع ما بين نفْسٍ ونفْسٍ سَكرًا.
22
يُفكِّر: هل كان هذا الصَّدى
أنين الرُّسُل؟ أمْ جَناح القَصيد؟
يقول: كفَاني جَرح المرايا،
وأمضي إلى نفْسي المُستبد.
23
وأقفِلُ أبوابَ سُوباط نفْسي،
وأمنحُهُ اسمًا يُرتِّقً صمتي،
وأجلِسُ في حَضرة الَّذي كان،
وأرفعُ من رمادي صلتي.

خاتمة الديوان

(وَأَقَامُوا السُّوبَاطَ عَلَى النَّبْضِ...)

ليس هذا الديوان إلّا محاولةً لكتابةِ الصدى،
لا الصوت،
وللرؤيةِ حين يُغمض الزمانُ عينيه.
كلُّ قصيدةٍ فيه ليست قولًا،
بل
أثرٌ لما لم يُقَلْ.
كلُّ مدينةٍ وردتْ،
لا تُستعادُ كما كانت،
بل كما تُنسى.

هنا، لم نُشيِّد مجدًا ولا مئذنةً، بل أقمنا سُوباطًا من السؤال، سقفًا هشًّا يمشي عليه الحرفُ حافيًا، لعلّه لا يسقط في النسيان.

سُوبَاطُ النِّسْيَانِ ليس رثاءً لما مضى، بل احتجاجٌ على أن يمرّ شيءٌ من المعنى دون أن يترك ندبةً في النصّ.
هو محاولةٌ لشحنِ الأنقاضِ بالنبض، ولإنطاق الحجر حين يصمت التراب.

ولعلَّ القصيدة – هنا – لا تطلب أن تُفهم، بل أن تُسمَع كما يُسمَع دعاءٌ في مئذنة لا يؤمّها أحد.

(لَا شَيْءَ يَبْقَى)

لَا شَيْءَ يَبْقَى،
غَيْرَ وَجْهٍ فِي النَّسِيَانِ تَكْتُبُهُ
أَسَاوِيَاتُ الرِّيحِ فِي مِئْذَنَةٍ نَائِمَةْ...

كُلُّ شُرُوخِ الزَّمَنِ اتَّسَعَتْ عَلَيَّ،
وَلَا جِدَارَ يُسْنِدُ اسْمِي فِي الرَّجِيعْ.

كُنْتُ وَحِيدًا،
وَالرُّؤَى فَوْقَ المَدِينَةِ كَانَتْ
تُقَدِّسُ ظِلِّي،
ثُمَّ تَرْجِمُنِي بِنَايٍ يَصْعَدُ الْخُطُوَاتِ...
ثُمَّ يَبِيدْ.

(تَجَرَّع أَسىً قَد أَقفَرَ الجَرَعُ الفَردُ
وَدَع حِسيَ عَينٍ يَحتَلِب ماءَها الوَجدُ
إِذا اِنصَرَفَ المَحزونُ قَد فَلَّ صَبرَهُ
سُؤالُ المَغاني فَالبُكاءُ لَهُ رِدُّ)15*

على هامش السُّوبَاط

إضاءة

أن تكتبَ هذا الديوان،
يعني أن تمشي حافيًا في ذاكرةٍ ليست لك،
أن تفتّش عن ظلّك في قصائد لم تُكتَب بعد،
أن تُربّي المعنى على صبر الحجارة،
وتنتظر أن يتوضّأ النصُّ بندبةٍ… لا بماء.

القصيدةُ هنا ليست جوابًا،
بل مكانًا للسؤالِ كي يتنفّس.

تأمُّلٌ أَخِير:

(القصيدة كمعرفة ضدّ المنطق)

لا تَعْرِفُ القصيدةُ...
إنما تُنْكِرُ ما يُدعى معرفة.

إنّها تخرج من المعنى الذي فَقَدَ يقينه،
وتدخلهُ ثانيةً،
لتعيد ترتيب النسيان على هيئة نغمةٍ،
أو حجرٍ،
أو ظلٍّ يسيل على مئذنةٍ مشقوقةٍ في ليلٍ بلا شاهد.

القصيدةُ لا تُحاجج،
ولا تُبرهِن،
إنها تُراوِغُ التفسيرَ كما تُراوغ الندبةُ خريطةَ الجسد.

كلّ ما تتركه القصيدة – كما السوباط –
هو فُتاتُ الرؤيا،
وهَشِيمُ العبارة،
ونفَسٌ لم يُكْتَبْ بعد.

فهل القصيدة "حقيقة"؟
لا.
لكنها الأصدقُ بين الأكاذيب.
وهل القصيدة "رسالة"؟
لا.
لكنها الوحيدة التي تصل دائمًا متأخرة،
حين لا يعود هناك أحدٌ ينتظر.

القصيدة ليست شكلًا فنيًّا، بل هيئةُ المعرفة حين تعجز الفلسفة، ويتلعثم العقل.
هي اللحظة التي لا يُستطاع فيها البرهان، لكن يُلزم فيها الإيمان بالمعنى،
الإيمان بالظلال، وبما تقوله الرعشة، والسكون، والحرفُ إذا اشتعل.

حين تُخفق المعاجم في شرح المدينة،
تتكلم القصيدة.
وحين يُخرِس التاريخُ النبيَّ،
يُولدُ من نارِ النسيانِ شاعرٌ يُعيد الوحي،
لا كحقيقةٍ، بل كإمكانية.

في هذا الديوان،
لا تأتي المعرفة من البرهان،
بل من قصيدةٍ تمشي بين سطورها
مئذنةٌ... تبحث عن ماءٍ يُكذّبُ الصمت.

الملاحق:

أولًا/هامش الإشارات المرجعية

][* كل هذا الابيات هي للشاعر ابو تمام الطائي
1*أدونيس/ الوقت
2*أمل دنقل/ لاتصالح
3*حسب الشيخ جعفر/ القش
4*أدونيس / مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف
5*حسب الشيخ جعفر / صنعاء
6*بوريس باسترناك، د.جيفاكو
7*السياب / ليلة وداع
8*درويش / أرض فضيحة
9*أمل دنقل /البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
10*الخيام / الرباعيات
11*البياتي/ أولد واحترق
12*محمود درويش/ كم البعيد بعيد
13*.البياتي/ الموت في غرناطة
14* السياب/ قاريء الدم
15*ابو تمام

ثانيًا/حاشية:

1. السُّوبَاط:
ليس معمارًا فحسب، بل رُقيعةٌ في الزمن تتقاطع فيها الأقدام والظلال.
السوباط هنا "ذاكرةٌ مظلّلة"، ممرّ بين الحاضر والماضي، يُجسّد لحظةَ عبورٍ متردّدة بين المجد والانهيار. إنه الظلُّ المتبقي من معنى غابر.

2. النَّقش:
يمثل الصوتَ الذي حُبس في الحجارة.
هو الرمز المقاوم للفناء، لأن النقش – على جدران المدن أو وجوه المآذن – هو ما يُبقي الكلمات حين تموت الألسنة. النقش في هذا الديوان ليس زينة بل حفر في الذاكرة.

3. المِئذنة:
تتحول من رمز ديني إلى كائن شعريّ يمشي، يصرخ، يعاني.
هي ليست مكانًا للنداء، بل نداء لا يجد مكانه.
وهي تارة تَسري على الماء، وتارة تتهدّم تحت القصف، وكأنّها تمثّل صوت المدينة عندما يُخنَق.

4. المدينة (قرطبة، بغداد، دمشق، القاهرة...):
كل مدينة في الديوان تحمل رمزًا مزدوجًا:
مدينة/أنثى، مدينة/نبوءة، مدينة/جرح.
هي ليست خرائط بل أجساد تتكلم بصمتها.
قرطبة: تمثل الحلم الغابر.
بغداد: الذاكرة النازفة.
دمشق: النبوءة المنفية.
القاهرة: الخراب المنظَّم.

5. النبيّ:
لا يُستدعى بوصفه حاملَ وحي، بل ككائنٍ غارق في التناقض: حاملُ نارٍ وندى.
يأتي وجهه ليعكس مرآة الزمن المشوّه. النبي هنا ليس معصومًا، بل جريحٌ يتأمل: لغةً تُكسر، ووصايا لا تجد سطورها.

6. أوديس/أوديسيوس:
الرحّالة الأسطوريّ الذي فَقَدَ كلّ معنى للعودة.
يُستدعى كشاهد على سقوط المغزى، كشاعرٍ تائهٍ في العصور الحديثة، لم يعُد أمامه غير الخرائط الممزّقة والبحار التي لا تنتهي.
أوديس في هذا الديوان هو ضمير المغترب الحضاري.

7. الحلاج:
يرمز إلى القول المصلوب، والنبيّ الذي لم تُكتَب له نبوءة.
يطلّ كشاهد من الغياب، كنموذجٍ للانفجار الروحيّ الذي لا يُطاق.
ذكره يُحيل إلى: اللغة المذبوحة، والرؤيا التي يُقتَل حاملها.

8. الرمل/الماء/النار:
عناصر وجودية محمّلة بالتضاد والتجلّي.
وهو رمز للزمن السائل، وللجغرافيا التي تتفتّت.

الرمل: رمز للزمن السائل، وللجغرافيا التي تتفتّت.

الماء: رمز مزدوج للحياة والانمحاء، إذ لا يُطفئ دائمًا، بل أحيانًا يُغرق الذاكرة.

النار: ليست عقوبة، بل كشفٌ مؤلم للمعنى، وميراثٌ خفيّ من نبوءاتٍ منسيّة.


9. الطلل/الأثر/الخراب:

لا يتعامل معها الشاعر كنوستالجيا بل كـنصوص لم تُقرأ بعد.
الطلل ليس ما تبقى، بل ما كان ينتظر أن يُكتَب من جديد.
الخراب هنا: إعلان ولادة للقصيدة.

10. القصيدة:

في هذا الديوان، القصيدة ليست شكلًا تعبيريًا، بل كائنٌ جريح يحاول النجاة.
هي البديل الرمزي عن النبوءة، والمرآة العميقة لكلِّ مَن سقط ولم يُرثَ.
القصيدة تُصلب، تُرَقْرَق، وتُكفَّن بالمئذنة، لكنها لا تموت.



#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (ثُلاثيّة الإدراك، الصمت، الصدى: قراءة سيميوطيقية فلسفية – ج ...
- (لا عزاء: تمثّلات الزمن والوجع في الشعر الوجودي) (تشريح الذا ...
- (بورنو… في مُحْرَابِ الغياب ) (نصٌّ عن المحراب حين يُفتَح من ...
- (نُبُوءَةُ الزَّفِيرِ فِي كَفِّ العَابِرِ)
- (نَسِيجٌ عَلَى نَوْلِ الفَقْد)
- (أزمة القضاء في العراق: بين الاجتهاد الخارج عن النص وغياب ال ...
- (حَرْفٌ:جُفولُ الكينونةِ)
- ( المَخْدَعُ أَمِينٌ..... حُلِّي إزارَكِ... )
- (قَنادِيلُ الغِيَابِ العَاشُورَائي : سُرَّةُ النَّارِ في جسد ...
- (دراسة عملياتية جيواستراتيجية)
- (تحولات الهيمنة الغربية المنحدرة و المحور الأوراسي الصاعد.)
- (أَناشِيدُ القَنْدِيلِ فِي كِتابِ الغِيابِ لِأَسْفارِ الرَّم ...
- (قراءة في ديناميكيات المواجهة الكوكبية 2025-2026)
- (تحولات النظام الدولي 2025-2026: انهيار الهيمنة الغربية وصعو ...
- (انهيار النموذج الدولي الغربي: قراءة في ديناميكيات المواجهة ...
- (صَمْتٌ يَكْتُبُهُ الهَامِشُ)
- (غَيْمَةُ العَيْنِ تَسْقي زَنْبقَةَ الوَجْدِ)
- (الحِرْمَانُ: مِلْحُ البَوْحِ) (صرخةٌ تتشكّل في فم الغياب)
- 4/ الجزء الأخير من الورقة البحثية الجيوستراتيجية
- ((شيءٌ من الفَرَجِ) مع (كَوَابيسُ وَجَعٍ إِسْكاتُولُوجيَّةٌ) ...


المزيد.....




- العلاج بالسينما.. الفيلم الوثائقي أبو زعبل 89
- تدهور الحالة الصحية للنجم بروس ويليس .. أصبح لا يتذكر تاريخه ...
- نقابة الفنانين في ذي قار تحتج على تجاهل رأيها في مشروع النصب ...
- بعد أحداث السويداء.. ما حقيقة فيديو -سوق السبايا- ومن يقف خل ...
- -ما بعد الحقيقة-.. تشريح معمق لأزمات المعرفة والتضليل في عصر ...
- وداع مؤثر من فرقة Black Sabbath ونجوم الموسيقى لأسطورة الروك ...
- مهرجان -ثويزا- بطنجة ينطلق الخميس -نحو الغد الذي يسمى الإنسا ...
- راغب علامة يتلقى الدعم من نقابة -محترفي الموسيقى والغناء- في ...
- الشاعرة السعودية ميسون أبو بكر تُسحر الريفييرا الفرنسية بنبض ...
- صدوق نور الدين يقرأ عالم كيليطو في كتاب جديد.. تأملات من قلب ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد مهدي غلام - /(سُوبَاطُ النِّسْيَانِ: نَامُوسُ الصُّقُورِ) ديون شعري