أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)














المزيد.....

قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8410 - 2025 / 7 / 21 - 20:19
المحور: قضايا ثقافية
    


الخطر الأكبر الذي يهدد حرية المثقف ليس السجن أو المنع، بل الإذعان الطوعي لقوالب جاهزة تُزيّن له باسم الانتماء، أو العقيدة، أو الحداثة، أو حتى "الموقف الأخلاقي". وهكذا، يتحوّل المثقف، شيئًا فشيئًا، من باحث عن الحقيقة إلى ناقلٍ ملتزم لموقف مسبق، منقوش على صخر الهوية أو الأيديولوجيا أو الولاء.
لذا، القولبة لا تبدأ من الخارج دائمًا، بل كثيرًا ما تبدأ من الداخل، من رغبة دفينة في الانتماء، في أن يجد المرء مكانًا بين الآخرين، أن لا يُتهم بالحياد البارد أو بالخيانة. في هذا السياق، يصبح المثقف سجينًا لقالب فكري أو عقدي يحدّ من حريته من حيث لا يدري. يكتب داخل دائرة آمنة، لا يتجاوزها، لا لأنه لا يستطيع، بل لأنه أقنع نفسه بأن ذلك هو الصواب، أو الأقل ضررًا، أو الأكثر نفعًا للناس. لكن هذا النوع من البراغماتية –النفعية - المقنّعة هو أول خطوة نحو موت الفكر الحرّ، ونحو تسليم أدوات التفكير للسلطة – أي سلطة، دينية كانت أو أيديولوجية أو اجتماعية.
من هذا المنطلق، يتنازل بعض المثقفين تدريجيًا عن استقلالهم لصالح جماعة فكرية أو طائفية أو سياسية، ثم يشرعون بالدفاع عن هذه الجماعة بوصفها "الحق"، لا بوصفها خيارًا يمكن نقده أو تجاوزه. يعني: يتحوّلون إلى ما يشبه المروّجين للموقف الرسمي لجبهاتهم، وإن بألفاظ أنيقة وتحليلات متقنة. يبرّرون، يسايرون، يهاجمون خصوم الجماعة بصفاقة المحارب، ثم يستترون خلف مفردات مثل "الضمير" أو "المصلحة العامة". وهنا تبلغ القولبة ذروتها: حين يُستخدم الوعي نفسه كأداة ضد الوعي.
كما يرى الفلاسفة، وأباب المعرفة، الحرية الفكرية ليست شعارًا، بل معركة داخلية دائمة مع الذات. هي أن تكون مستعدًا في كل لحظة لنقد أفكارك السابقة، لتفكيك ما كنت تظنه بديهيًا، لأن البديهيات هي أول أدوات القولبة. وحين يغيب هذا النقد الذاتي، يتحوّل المثقف إلى موظف في جهاز إنتاج الخطاب، إلى بوق يردد ما تريده السلطة التي يمثلها – سلطة الدين، أو الثورة، أو الحداثة، أو حتى "الجمهور" الذي يمنحه اللايكات.
ليس هذا وحسب، بل الأخطر من ذلك أن المثقف المقولب لا يدرك في أحيان كثيرة أنه كذلك. يظن نفسه حراً لأنه يصرخ كثيرًا، أو لأنه يهاجم خصومه بضراوة، أو لأنه يتبنى خطابًا تقدميًا أو ثوريًا. لكنه في الحقيقة يتحرك داخل إطار ضيق، لا يسمح له بالأسئلة الكبيرة، ولا يتيح له الشك، ولا يغفر له الحياد، ولا يمنحه المسافة التي تسمح بالتأمل. وقد يتحول هذا المثقف، دون أن يشعر، إلى كاهن جديد أو شرطي رأي، يطارد الخارجين على العقيدة التي يتبناها، أو المبدئ العالق في ذهنه.
في مجتمعات يشتد فيها الاستقطاب وتضيق فيها مساحة الحوار، لا يُطلب من المثقف أن يكون حرًا، بل أن يكون مفيدًا، أو مخلصًا، أو "منحازًا للحق"، حسب الرواية السائدة. لكن انحياز المثقف الحقيقي هو للمعرفة، للحقيقة المُربكة، للأسئلة التي لا إجابات جاهزة لها. حرية المثقف لا تكمن في أن يقول ما يريد، بل في أن يجرؤ على التفكير ضد التيار، حتى لو دفع الثمن. أما إن ارتضى القالب، ولبس لباسه الفكري بإتقان، فقد تخلى عن جوهر مهمته: أن يكون شاهدًا حرًا، لا ناطقًا رسميًا باسم أي سلطة.
القولبة الفكرية ليست فقط قيدًا على حرية التعبير، بل مسخ تدريجي لهوية المثقف. هي عملية ناعمة، تتم أحيانًا بلغة الإعجاب والمديح، وأحيانًا بالتخويف من السقوط في مستنقع "العدو" أو "الخطأ التاريخي". شيئًا فشيئًا، يتنازل المثقف عن مناطق التردد، ويهجر الحياد التأملي، ويتبنّى خطابًا متماسكًا ظاهريًا، لكنه مُفرغ من النقد، ومُشبع بالتحيزات التي تُقدَّم على أنها حقائق.
اللافت أن هذه القولبة لا تأتي بالضرورة من أنظمة قمعية أو أطر دينية فقط، بل قد تُمارس حتى داخل الأوساط التي تدّعي التقدمية، أو تدافع عن الحريات. فلكل منظومة – مهما ادّعت الانفتاح – محاكم تفتيشها الخاصة، ومعاييرها غير المعلنة للولاء. يكفي أن تطرح سؤالًا "خاطئًا" أو تتبنى موقفًا "غير مألوف" لتُطرد من دائرة المثقفين المرضيّ عنهم، أو تُتهم بالخيانة، أو يُسحب منك الاعتراف.
وهكذا، يصبح المثقف أداة في ترسانة “الاصطفاف”، حتى لو لم يحمل سلاحًا. يُطالَب دائمًا بتحديد موقفه من كل شيء: من السلطة، من الدين، من التاريخ، من الحداثة، من التراث، من الصراع الفلاني… لا يُترك له هامش التأمل أو الشك أو الانزياح. عليه أن يكون جاهزًا للردّ، وإلا اعتُبر ضبابيًا أو متواطئًا أو جبانًا. وهذا الاستدعاء الدائم للمواقف، يسحق تحت ثقله إمكانية التفكير الحر.
ما تفعله القولبة هو أنها تُفرغ الفكر من جدّيته، وتحوّل المثقف إلى منتِج للمحتوى الأيديولوجي، أو مراسل ثقافي يكتب تقارير فكرية لحساب فئة ما. إنه لا يسأل كيف نعيش مع الاختلاف، بل كيف نهزمه. لا يفكك السلطة، بل يعيد إنتاجها بلغة أكثر نُعومة. وفي النهاية، لا يبدو مختلفًا كثيرًا عمّن كان يظنه عدوه: كلاهما يرفض النقد، كلاهما يروّج للحقيقة الواحدة، وكلاهما يضيق بالحرية حين تهدد ثوابته.
ولأن القولبة عملية تراكمية، فإن المثقف لا يشعر بها فورًا. يبدأ الأمر من انسجام بسيط مع جماعة، ثم يتحول إلى ضغط غير مرئي لعدم الخروج عنها، ثم إلى غضب داخلي من كل رأي لا يتوافق مع هذا “التيار”، ثم أخيرًا إلى إقصاء صريح للمخالفين. حينها، يصبح المثقف حارسًا للبوابة بدل أن يكون كاسرًا لها.
الحرية الفكرية، في جوهرها، ليست رفاهًا، بل عبءٌ لا يحتمله إلا من تخلّى عن حاجة الانتماء السريع. هي طريق مملوء بالعزلة، وبالسخرية أحيانًا، وبخسارة كثير من الأصدقاء والمعجبين. لكنها وحدها الطريق الذي يمكن أن يثمر فكرًا حقيقيًا، لا صدى لقوالب قديمة بوجوه جديدة.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجري وفريد: النغمة الأخيرة قبل الذبح
- المثقفون في القالب: قيود الفكر الحُرّ(1)
- فيروز غنّت كلماته...والرصاص أسكته إلى الأبد
- حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان مموّل
- التداخل الفني والاسلوبي في (متاهة عشق) للروائي العراقي علي ق ...
- أين نحن من الوجود؟
- التطبيع هل سيحل أزمة الشرق الأوسط؟
- تزوير التاريخ وتزييف الحقائق
- مَن هم القرآنيون؟
- التديّن المذهبي ضد الإسلام المُحمديّ
- لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟
- خطورة الجماعات الإسلامية: تهديد مستمر للسلم المجتمعي
- نظام الحكم في الاسلام: ثلاث نظريات
- من قداسة النص إلى عصمة الفقيه: سيرة الاستيلاء على الدين
- الفساد في العراق.. بنية مستدامة لا مجرد خلل طارئ
- الاسلام السياسي: صعود الايديولوجيا الدينية
- مزايا الانكسار في نص (لا تقتلوا الأحلام) للشاعرة اللبنانية س ...
- الأخلاق بين كانت وماركس: صراع المبادئ والمادة
- المشكلة ليست في الدين انما في رجال الدين
- الإرهاصات الدامية في قضية (حسبي من الشعر الشهيّ) للشاعر وليد ...


المزيد.....




- إدارة ترامب تنشر سجلات متعلقة باغتيال مارتن لوثر كينغ
- عراقجي يؤكد تمسك إيران بتخصيب اليورانيوم رغم الأضرار الجسيمة ...
- جامعة هارفارد تطالب القضاء بإجبار إدارة ترامب على إعادة منح ...
- عاجل | ترامب: سنعيد ضرب المنشآت النووية الإيرانية إذا كان ذل ...
- شيخ عقل دروز لبنان: على الهجري -التجاوب- وإبداء -مرونة-
- فيديو متداول لـ-اشتباكات عشائر بدوية ومسلحين دروز- بالسويداء ...
- مصر: محكمة جنايات القاهرة تشطب اسم علاء عبد الفتاح من قائمة ...
- الكشف عن تفاصيل الجولة الثالثة من المفاوضات بين موسكو وكييف ...
- فيديو أثار غضبا.. إجبار شبان دروز على القفز من الطابق الرابع ...
- أزمة مياه في تونس العاصمة تزامنا مع الحر الشديد


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - قولبة الأفكار: كيف يفقد المثقفون حريتهم؟(2)