أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - ياسر قطيشات - ما بعد الدولة -المُتألّهة-: سرديّة المقدّس في عصر الحداثة!














المزيد.....

ما بعد الدولة -المُتألّهة-: سرديّة المقدّس في عصر الحداثة!


ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)


الحوار المتمدن-العدد: 8410 - 2025 / 7 / 21 - 17:49
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


تعيش البشرية اليوم لحظة فارقة تتجلى فيها تساؤلات وجودية حول مصير الدولة الحديثة، لا بوصفها جهازاً إدارياً يخدم المجتمع، بل ككيان تحول إلى مرجعية "مُتألّهة" تحتكر الشرعية والمعنى والسلطة.
أمام هذا التحول، تتجددّ العديد من الأسئلة الفلسفية والفكرية التي بحاجة لنقاشات مستفيضة وعميقة حولها: فهل الدولة، بصيغتها الحديثة، هي المصير المحتوم لتنظيم حياة البشر؟ أم أنها مرحلة تاريخية قابلة للتجاوز؟ وهل الدولة الحديثة هي نهاية التاريخ السياسي؟ أم أنها مرحلة ضمن مراحل تطور التنظيم الإنساني؟ وما مصير هذا الكيان حين يتجاوز حدوده الأخلاقية ويتحوّل إلى أداة للهيمنة الناعمة؟
لقد صنعت الحداثة مفهوماً للدولة يتجاوز الوظيفة الإدارية إلى السيطرة الشاملة على الوعي والمعيش والمرجعية، لم تعد الدولة وسيلة، بل غاية بحد ذاتها، "إلهاً مدنياً" يوزّع الرزق، ويمنح الأمان، ويُعرّف الخير والشر وفق مصالحه، وتم بهذا استبعاد القيم الروحية والأخلاقية من مركز القرار، لصالح تقنيات السلطة والضبط.
هذا التقديس للدولة أنتج نمطاً من "العبودية المؤسسية" لا يُمارس القهر بالسلاح، بل عبر القوانين والمؤسسات والإعلام، إنه طغيان ناعم، لكنه أكثر رسوخاً وتأثيراً من الأنظمة القديمة، لأنه لا يُدرك بسهولة.
ولم تعد الدولة الحديثة، كذلك، مجرد تنظيم أو إطار قانوني لإدارة شؤون المجتمعات، بل تحوّلت تدريجياً إلى كيان رمزي يحظى بقداسة لا تختلف كثيراً -في صورتها النفسية والرمزية- عن تلك التي كانت تُمنح للكيانات المقدّسة في المجتمعات الدينية التقليدية.
لقد شهد التاريخ السياسي الحديث "تأليهاً" تدريجياً للدولة، حتى باتت تتجاوز كونها مجرد وسيط، لتتحوّل إلى مرجع أعلى ومصدر للسيادة والهِويّة، في سردية مركزية تشكّلت في صميم "عقل الحداثة الغربية"!
نقصد بـ"التأّليه السياسي" منح الدولة صفات الكمال والمرجعية العليا الحاكمة على البشر، بحيث تصبح فوق النقد، وتتجلى كمصدر للحق والشرعية والأمن والهِويّة والدين والاعتقاد، وكل ما يخالفها هو خارجٌ من "رحمة" سلطتها وقوانينها!
هذا التحوّل يجد جذوره في الفلسفات السياسية الغربية الحديثة، بدءاً من "توماس هوبز" الذي شبّه الدولة بـ"الليفياثان"، أي الوحش العظيم الذي يُخضع الجميع، وصولاً إلى "هيغل" الذي رأى الدولة كتجسيد للعقل المطلق في التاريخ.
ومع صعود الحداثة والعلمانية، أُعيد توزيع هذه القداسة، لا بإلغائها، بل بإعادة تموضعها: نُزعت من السماء وأُسقطت على الأرض، لا سيما في شكل الدولة، فالدولة الحديثة لم تُلغِ المقدّس، بل أعادت إنتاجه في قالب جديد، أكثر دنيوية، لكنه لا يقل سطوة وتأثيراً!
وظهرت في الفلسفة السياسية الحداثية مفاهيم قريبة، مثل "العقد الاجتماعي"، و"إرادة الشعب"، و"القانون العام"، كلها تُمارس وظائف دينية ولكن بصياغات عقلانية صرفة، فقد كتب الفيلسوف "جان روسو" بوضوح عن فكرة "الدين المدني" الذي تخلقه الدولة لتحافظ على وحدة المجتمع واستقراره، ثم بمرور الوقت، باتت مفاهيم "الوطنية والولاء" للدولة، والاحتفال برموزها، تمثل طقوساً مدنيّة تحمل طابعاً شعائرياً يُذكّر بالدين، بل ويحلُّ محله أحياناً!
عندما "تتأّله" الدولة، يصبح الإنسان خادماّ لها، لا العكس، وتُبرَّر السياسات القمعية والاستبدادية باسم السيادة الوطنية، وتُسحق الحريات باسم النظام، ويُنظر إلى المعارضين لا كمواطنين ذوي رأي مختلف، بل كخونة أو خارجين عن النظام العام، بهذا المعنى، فإن "التأّليه" لا يُنتج مجرد تمجيد رمزي، بل يُترجم إلى ممارسات سلطوية تُفرّغ السياسة من بعدها الإنساني.
في العقود الأخيرة، بدأ هذا النموذج المقدّس في التصدّع، لأسباب عدة: تصاعد العولمة والرأسمالية المتوحّشة، ضعف الدولة القومية والوطنية أمام الفاعلين الدوليين من غير الدول، فقدان الثقة بالمؤسسات، الثورة الرقمية والفوضى الخلاّقة، وأزمات الشرعية العميقة.
ومع كل أزمة، يتعرّى الغطاء الرمزي للدولة، ويعود السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل كانت الدولة، في شكلها الحديث، مجرد سردية مؤقتة؟ وهل آن أوان تجاوزها؟
تُبيّن حركة التاريخ أن الكيانات "المُتألهة" لا تُخلّد، بل تخضع لسنن كونيّة تحكم صعودها وسقوطها، ومنها؛ سُنّة الاستدراج: تُغتر الدولة بقوتها وتتمادى في التحكّم، ثم تنهار فجأة من داخلها، وسُنّة التداول: فلا بقاء لقوة أو حضارة في القمة إلى الأبد، وسُنّة الهلاك: حين ترفض الدولة قيم العدل والحق، وتُمعن في الاستكبار، وسُنّة التدمير الذاتي: عندما تفقد الدول غايتها الأخلاقية، وتتآكل بفعل الفردية الذاتية والتحلّل والانفصام القِيمي.
إن تفكيك سردية الدولة "المتألّهة" لا يعني الدعوة إلى الفوضى أو نفي الحاجة إلى التنظيم السياسي، بل يهدف إلى تحرير العقل من الهالة القداسية التي تُحيط بالدولة الحديثة، والتحدي الحقيقي ليس فقط إسقاط طغيان الدولة، بل بناء نظام بديل عادل لا يعيد إنتاج الاستبداد بأشكال جديدة، وهذا يتطلب تحوّلاً في وعي المجتمعات والشعوب، وتحرراً من خوف "ما بعد حتميّة الدولة المقدّسة".
وهذا سياق الفلسفة السياسية التي تفتح، ما بعد الحداثة، أفقاً نقدياً يُعيد الإنسان إلى مركز السلطة، لا بوصفه تابعاً، بل فاعلاً حراً، باعتبار أنّ نقد "تأّليه" الدولة هو أيضاً دفاعٌ عن قيم الإنسان ووجوده.



#ياسر_قطيشات (هاشتاغ)       Yasser_Qtaishat#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في قبضة المجانين: العالم بين انهيار القيم والشرعية وغطرسة ال ...
- الدولة المارقة: -إسرائيل- وإعادة إنتاج النازية بالصهيونية!
- -المسألة اليهودية- .. لم تُحل!
- استراتيجيا الإنهاك والإنهاء: عندما تتحول السياسة إلى فيلم
- قوس السقوط الحضاري: -القوّة العمياء- في مواجهة حتميّة مع مرآ ...
- -نُخب القيادة- وجدليّة التغيير في الوعي العربي
- -قرن الإهانة العربي-: لماذا نهضت الصين ولم ينهض العرب؟!
- -العرب- بين فكرة القومية ومأزق الحريّة!
- حين دمّرت بريطانيا الشرق: الوجه الآخر لحضارة العنصريّة!
- -التديّن الإمبريالي-: حين تُصبح الحروب مقدّسة!
- حين تحدث الفلاسفة بالعربية: أثر الإسلام في الفلسفة الغربية
- الصين والولايات المتحدة: إدارة النفوذ بين الاحتواءِ والصراعِ
- بين -عبقرية المكان وانتقام الجغرافيا- نظرة -كابلان وحمدان- ل ...
- الأردن وهواجس -ترامبسفير- غزة الخيارات الوطنية لمواجهة المخط ...
- الأردن وريادة دعم حقوق ذوي الإعاقة إنجازات مشرّفة.. ونماذج إ ...
- مآلات ومستقبل الدولة السورية ما بعد الاتفاق: شروط وتحديّات
- الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا ومستقبل البحث العلمي الرقمي: ا ...
- طهران وتل أبيب.. من حروب الظل إلى رسائل النار
- -المجمع الصناعي العسكري- الأمريكي وتجارة الحروب
- ما بعد -الطوفان- .. مصير الكيان والمنطقة!


المزيد.....




- اختفت منذ 82 عامًا.. اكتشاف سفينة حربية يابانية من الحرب الع ...
- نظرة على معاناة عائلة للحصول على طبق واحد فقط في غزة
- غزة: مقتل أكثر من 1000 فلسطيني لدى محاولتهم الحصول على مساعد ...
- إردام أوزان يكتب: وهم -الشرق الأوسط الجديد-.. إعادة صياغة ال ...
- جندي يؤدي تحية عسكرية للأنصار في سيطرة ألقوش
- 25 دولة غربية تدعو لإنهاء الحرب في غزة وإسرائيل تحمل حماس ال ...
- -إكس- و-ميتا- تروّجان لبيع الأسلحة في اليمن.. ونشطاء: لا يحذ ...
- عاجل | السيناتور الأميركي ساندرز: الجيش الإسرائيلي أطلق النا ...
- سلاح الهندسة بجيش الاحتلال يعاني أزمة غير مسبوقة في صفوفه
- السويداء وتحدي إسرائيل الوقح لسوريا


المزيد.....

- النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط / محمد مراد
- افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار ... / حاتم الجوهرى
- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - ياسر قطيشات - ما بعد الدولة -المُتألّهة-: سرديّة المقدّس في عصر الحداثة!