صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 11:15
المحور:
الادب والفن
مقامة جدل اللغة :
باغتنا الدكتور تحسين طه أفندي في جلسة العصف الذهني لهذا اليوم الحار , بعبارة (( أكلة الضباب و آكلي اللبن )) , مما أطلق الشرارة لكتابة هذه المقامة الخاصة بجدل اللغة , فلطالما كانت الكوفة والبصرة مدينتين توأمًين في التاريخ الإسلامي , تتنافسان في مسائل كثيرة , من الفقه والأدب إلى السياسة واللغة , وفي هذا السياق من التنافس الفكري والثقافي , برزت مفاضلة لغوية طريفة تعكس الفروقات الجوهرية في نظرة كل مدينة إلى مصادر اللغة وفصاحتها , كان أهل البصرة يفاخرون أهل الكوفة بقولهم : (( نحنُ نأخُذُ اللُّغة عن حرَشة الضِباب وأكَلَةِ اليرابيع وأنتم تأخذونها عن أكَلَة الشّواريز وباعَة الكواميخ )) , هذه المقولة ليست مجرد مزاح , بل تحمل في طياتها دلالات عميقة عن منهج كل مدرسة لغوية ومصادرها.
تُشير مقولة أهل البصرة إلى اعتزازهم الشديد بأخذ اللغة من البادية , من أولئك الذين يعيشون حياة بسيطة قريبة من الفطرة اللغوية , فـ((حرشة الضباب )) و((أكلة اليرابيع )) هي كناية عن الأعراب وسكان الصحراء الذين لم تختلط لغتهم باللكنات الدخيلة أو اللهجات الحضرية , كانوا يُعتبرون المصدر الأصيل والمنبع الصافي للفصاحة العربية , حيث بقيت لغتهم نقية على سجيتها , بعيدة عن تأثيرات التمدن والاختلاط بالأعاجم , لذا , كانت مدرسة البصرة النحوية تميل إلى الاستشهاد بلغة البادية والشواهد الشعرية الفصيحة المستمدة منها , مُعتبرة إياها المعيار الأساسي للصحة اللغوية.
في المقابل , كانت البصرة تَعيب على الكوفة اعتمادها على ما أسموه (( أكلة الشواريز وباعة الكواميخ )) , هذه العبارات تُشير إلى أهل المدن , والتجار , والباعة , ومن يرتادون الأسواق التي تختلط فيها الأجناس واللغات , (( الشّواريز )) قد تُشير إلى أنواع معينة من الأطعمة الشعبية , و(( الكواميخ )) هي الأدهان أو أنواع من الأطعمة المختلطة , وكلاهما يُشير إلى طبيعة الحياة الحضرية التي يكثر فيها الاختلاط والتبادل , في نظر البصريين , هذا الاختلاط يؤدي إلى فساد اللغة , ودخول الألفاظ الأعجمية , وتغير النطق , مما يُبعد اللغة عن فصاحتها الأصلية , كانت مدرسة الكوفة , وإن كانت تستند إلى العربية الفصيحة , إلا أنها كانت أكثر تساهلاً في قبول بعض الاستخدامات اللغوية الدارجة في المدن , وهو ما كان محل نقد من قبل البصريين.
هذا التفاخر اللغوي بين البصرة والكوفة يعكس جدلاً أعمق حول منهج دراسة اللغة , فالبصريون كانوا يميلون إلى منهج أكثر محافظة وأصالة , مُركزين على تنقية اللغة من الشوائب والاعتماد على المصادر الأولى , بينما كان الكوفيون أكثر واقعية , مُدركين أن اللغة تتطور وتتأثر ببيئتها , وأنه لا يمكن تجاهل الاستخدامات اللغوية الشائعة حتى لو كانت بعيدة عن المعيار الأمثل , ولم يكن هذا الجدل مجرد تفاخر, بل كان جزءًا لا يتجزأ من التطور اللغوي في الحضارة الإسلامية , حيث ساهم كل من المنهجين في إثراء الدراسات النحوية والصرفية والبلاغية , ووضع القواعد التي حفظت اللغة العربية وحصّنتها من الاندثار أو التحريف , وفي النهاية , أثبتت كلتا المدينتين دورهما المحوري في صياغة القواعد اللغوية التي نعرفها اليوم .
يُنسب للفرزدق في تفضيل لغة البادية على لغة الحضر , وهو من شعراء العصر الأموي المشهورين , هذه الأبيات التي تُشير إلى تفضيل لغة الصحراء على لغة المدن : (( لُغَةٌ بِها عَرَفَتْ عَرْبٌ عَرُوبَةَ وَما كانَتْ بِهَا لُغَةُ الأَعَاجِمِ تَخْتَلِفْ , أَتَتْكَ مِنْ أَهْلِ الفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ وَلَمْ تَأْخُذْ مِنَ الأَسْوَاقِ قَوْلَ مُخْتَلِفْ )) , وفي بيان أصالة اللغة العربية لشاعر عربي قديم :(( إِذَا مَا اللُّغَةُ فَسَدَتْ فِي دَارِ عِزٍّ فَفِي الْبَادِيَةِ الْفَصَاحَةُ تَنْتَقِلْ , فَالْبَدْوُ هُمْ أَصْحَابُ اللِّسَانِ وَعِنْدَهُمْ خَالِصُ اللَّفْظِ وَالْجُمَلْ )) , ولِقَائِلٍ : (( اللِّسَانُ تُرْجُمَانُ الْفِكْرِ حَقًّا وَبِهِ يَفْخَرُ الْفَصِيحُ إِذَا قَالْ , فَاحْفَظْ لِسَانَكَ عَنْ لَحْنٍ وَلَغْوٍ فَإِنَّ اللُّغَةَ تُعْلِي مَنْ وَعَاهَا وَنَالْ )) , ومن قصائد تصف البادية وأهلها : (( وَكَمْ مِنْ قَوْلٍ بَدْوِيٍّ صَحِيحٍ أَجَادَ الْقَوْلَ لَا يَبْغِي بَدِيلاَ , وَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ مِنْ أَهْلِ حَضْرٍ تَجِيءُ اللَّفْظَ مَعْكُوسًا ثَقِيلاَ )) , كل هذه الأبيات تُبرز تفضيل اللغة البدوية الصافية على لغة أهل الحضر التي قد تكون (( معكوسة وثقيلة )) , وتُعطي لمحة عن النظرة القديمة لمصادر اللغة والفصاحة , وتُجسد جانبًا من الجدل الذي كان قائمًا بين مدرستي البصرة والكوفة.
لمس ابن جنى هذا الموضوع بقوله : (( وليس أحدٌ من العرب الفصحاء إلا يقول : إنه يحكي كلام أبيه وسلفه , يتوارثونه آخرٌ عن أوّل , وتابع عن مُتّبَعٍ , وليس كذلك أهل الحضر , لأنَّهم يتظاهرون بينهم بأنَّهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربيّة الفصيحة , غير أنّ كلام أهل الحضر مُضاهٍ لكلام فصحاء العرب في حروفهم , وتأليفهم , إلا أنّهم أخلُّوا بأشياءَ من إعراب الكلام الفصيح )) , وعليه يكمن الفرق في ان البصريين ياخذون بالعقل , لا بالنقل , اما اهل الكوفه ياخذون بالنقل , وهم يقبلون في الحديث السماعي المبتذل فيه , اما البصريون فهم يعتمدون على القوانين اللغويه , ولا يقبلون باي حديث يخرج عن نطاق القوانين اللغويه , وحرشة الضباب أي صيادي حيوان الضب , والشواريز أي اللبن الثخين أي (الجميد) والكواميخ أي (الأدم ) ,وعلى ضوء ما فهمت ان اهل البصرة كانو ياخذون اللغة الفصحى السليمة لأنهم من البادية , وكانوا يتعبون في طلب التعمق في النحو , اما اهل الكوفة فقد كانو ياخذونها من الباعة الذين يصلون الى مدينتهم فلا يتعمقون في اللغة العربية الفصحى , وأعتقد ان كلا المدرستين مكملتان لبعضهما البعض فاحدهما وهي مدرسة البصرة واضعة علم النحو , والاخرى وهي الكوفة تطرقت للظواهر اللغوية , ولها دور في النحو العربي .
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟