إياد هديش
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 22:37
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
في بلدٍ يتنازعه الصراع السياسي، وتنهشه الانقسامات الأيديولوجية، وتُثقل كاهله حربٌ متعددة الرؤوس، تدفع المرأة اليمنية الثمن الأفدح. فبينما تتقاسم الجماعات المسلحة والسلطات المتصارعة السيطرة على الأرض، تتقاسمها كذلك في السيطرة على جسد المرأة وصوتها، ليس عبر الرصاص وحده، بل عبر أدوات أكثر خفاءً وأشد فتكًا: التشهير، الإقصاء، العزل، والترويض.
في اليمن، لا يُنظر إلى المرأة ككائن مستقل، بل كرمز "لشرف الجماعة"، ومرآة لهوية يحددها الرجال ويحمونها بالقمع إن لزم الأمر. ولهذا، فإن خروج المرأة عن السياق المرسوم لها، سواء في الإعلام، أو السياسة، أو النشاط المدني، يُعدّ تمردًا لا يُغتفر. ويُجابه هذا التمرد بـ"العقاب الرمزي" الذي يتمثل غالبًا في حملات تشهيرية تُشنّ ضدها بشكل منهجي، لا على يد الأفراد وحدهم، بل عبر تواطؤ المؤسسات، الأحزاب، المنصات الدينية، وحتى الأسرة.
التشهير هنا ليس فعلًا عشوائيًا، بل أداة ضبط وهيمنة، تُسخّر لتأديب النساء اللواتي يرفضن الخضوع أو الصمت. وهو لا يستهدف سلوكًا بقدر ما يستهدف الحق في الوجود المختلف. إذ يتحوّل الفضاء العام إلى ساحة فرز أخلاقي، تُستخدم فيه السمعة كسلاح لإعادة ترسيم حدود المسموح والممنوع، المقبول والمرفوض، "المؤدبة" والمتمردة.
من خلال هذا المقال، نحاول تفكيك هذه المنظومة المعقدة من القمع. نرصد كيف تتحول السمعة إلى أداة حكم غير مرئية، تُمارس فيها السلطة بغطاء اجتماعي أو ديني، وكيف يُوظّف الدين كمؤسسة عقابية أكثر من كونه فضاءً روحيًا. نُحلل كيف تتصرف الأحزاب، لا كحاميات للحقوق، بل كحراس للبوابات الذكورية، وكيف يُعاد إنتاج النساء المسموح لهن بالحديث في صورة مقبولة تمثّل النظام لا الذات.
كما نُضيء على أمثلة حية، مثل استقالة الدكتورة حنان حسين، التي شكّلت صرخة نسوية حزينة بوجه الحصار الرمزي والحزبي، ونتأمل أبعادها النفسية والسياسية. ثم نذهب أعمق، إلى قلب المعركة: حيث يصبح التشهير عرضًا لمرض أعمق - بنية كاملة تُعيد إنتاج التمييز عبر اللغة، والمؤسسات، والصمت العام.
هذا المقال دعوة إلى مساءلة كل ما اعتُبر "بديهيًا" في نظرتنا إلى النساء، من مفهوم الشرف، إلى سلطة الجماعة، إلى شرعية التأديب الاجتماعي. دعوة لكشف القناع عن تحالف القوى - من الأسرة إلى الحزب، من المسجد إلى الدولة - التي تجعل من المرأة الحرة تهديدًا، ومن سمعتها ميدانًا للحرب.
■ حين تصبح السمعة وسيلة للسيطرة
في بيئة يُعاد فيها تعريف الفرد وفق سمعته الأخلاقية، تصبح المرأة عرضة لأشد أشكال الرقابة الجماعية. يتم استخدام التشهير كأداة تأديب اجتماعي، تُعاقب بها النساء اللواتي يُطالبن بالحرية أو يشاركن في العمل السياسي أو الإعلامي أو المدني.
الهجوم على السمعة لا يهدف إلى كشف "حقائق"، بل إلى تجريد المرأة من شرعيتها الاجتماعية، وتحويلها إلى خطر على العائلة والمجتمع، مما يُبرر فرض العزلة عليها، ومراقبتها، والضغط عليها للتراجع.
وغالبًا ما يترافق ذلك مع تواطؤ مجتمعي صامت، يقبل بهذه الممارسات بوصفها "حماية للشرف" أو "تأديبًا مستحقًا"، ما يُحول الضحية إلى جانية في نظر جمهورٍ مسيّس أخلاقيًا.
■ هندسة العزل.. من الرقابة إلى الاستقالة
تتطور حملات التشهير في مسارات مدروسة، تبدأ بالوصم وتنتقل إلى إجراءات عملية تعمّق العزل:
● عزلة اجتماعية تُمارَس من الأسرة أو المجتمع المحلي.
● ضغوط حزبية أو مؤسسية تُجبر النساء على التخلي عن مواقعهن.
● قيود اقتصادية تُمنع فيها النساء من التوظيف أو الدعم.
● زيجات قسرية تُستخدم كوسيلة لإغلاق المجال العام.
تُستَخدم هذه الأدوات لإجبار المرأة على "الانسحاب الطوعي" من المجال العام، وتقديمه وكأنه قرار ذاتي، في حين أنه نتيجة ضغط منهجي شامل.
■ استقالة د. حنان حسين.. إثبات حصار الصوت الحر
في نموذجٍ صارخ لحصار الصوت النسائي الحر، أعلنت الدكتورة حنان حسين - رئيسة دائرة المرأة للتأهيل وتنمية المهارات في حزب المؤتمر الشعبي العام، وأستاذة القانون الجنائي بجامعة صنعاء - استقالتها في بيانٍ مختصر وحاد، نُشر على صفحتها الشخصية، جاء فيه:
● -> "أنا الدكتورة حنان حسين: رئيسة دائرة المرأة للتأهيل وتنمية المهارات في المؤتمر الشعبي العام، أعلن استقالتي من حزب المؤتمر الشعبي العام. فقط اتركوني وشأني. وما أنشره يمثلني شخصياً، فالرجاء عدم التدخل بهذيانات مواطنة كانت تحلم بوطن تمت مصادرته بمنتهى الفجور. ومن اليوم أنا ابنتكم بدون حزبية، تقبلوني كما أنا."
تحمل هذه الكلمات، على قِصرها، دلالات عميقة تكشف عن منسوب القهر الذي تعانيه النساء في الفضاء الحزبي اليمني، حتى من داخل ما يُفترض أنها مواقع تمثيل نسوي.
من الناحية النفسية، يُمكن قراءة هذا النص كصرخة استنزاف وجداني عميق، تصدر عن امرأة انهارت بداخلها فكرة الانتماء السياسي الآمن. إنها لحظة فقد الثقة الجماعي، لا فقط بالحزب، بل بالمجتمع الذي يراقب صمتًا ولا يحمي. قولها: "تقبلوني كما أنا" يشير إلى حاجة نفسية ملحّة للاعتراف والاحتواء بعد التعرض لعزلة قسرية.
هذا النوع من الانسحاب لا يصدر عن ضعف، بل عن ألم مقاومة طويلة وصلت إلى حدٍّ لا يُحتمل، وقرار الانفصال فيه جانب علاجي ذاتي أشبه بإعلان "شفاء عبر العزلة". أما ختامها بعبارة: "أنا ابنتكم بدون حزبية" فهو طلب نفسي مشحون: أن يُعاد تعريفها كإنسانة وكقيمة خارج الأطر المؤدلجة.
■ حين يتحول الدين إلى أداة تأديب
في اليمن، كما في كثير من السياقات المحافظة، لا يُستخدم الدين كقيمة روحية تحرّر الإنسان، بل كأداة ضبط اجتماعي تُستخدم لتكريس السلطة الذكورية. وهذا لا يحدث في فراغ، بل ضمن منظومة أوسع تتقاطع فيها المصالح السياسية مع البنى الأبوية، لتُحوّل الدين من مجال للرحمة والتكافل إلى وسيلة ترهيب وقمع، خصوصًا تجاه النساء.
المؤسسة الدينية - عبر منابر المساجد، المناهج التعليمية، وسائل الإعلام، وخطاب العلماء - تُعيد إنتاج صورة نمطية للمرأة ككائن فتنة، ناقص عقل ودين، يجب مراقبته وتوجيهه دومًا. أي محاولة من المرأة لممارسة حقها في التعبير، النقد، أو المبادرة، تُقابل بسيل من الآيات المجتزأة، والأحاديث المروية دون سياق، لتصوير استقلالها كتهديد للهوية الثقافية والدينية.
ويُستخدم هذا التأديب الديني كغطاء شرعي لعزل النساء، أو نفيهن معنويًا. تُوصم الناشطة بأنها "داعية للانحلال"، أو "أداة من أدوات الغزو الفكري"، أو "عميلة للغرب". بهذه اللغة، تُجرَّم المطالب النسوية لا على أساس قانوني، بل كخيانة دينية، ما يجعل المواجهة محفوفة بوصمة الردة الأخلاقية، وهي وصمة كفيلة بتدمير سمعة أي امرأة داخل بيئة مغلقة تُقدّس الجماعة وتُحقّر الفرد.
■ الأحزاب كجهات ضبط.. من الإصلاح إلى أنصار الله
● الإصلاح: توظيف الدين لضبط الأدوار
حزب التجمع اليمني للإصلاح يُعيد إنتاج صورة المرأة التابعة والمطيعة، ويقف ضد أي إصلاحات قانونية تمكّنها. يُستخدم الخطاب الديني في منع النساء من اتخاذ قراراتهن بأنفسهن، ويُصوَّر أي مطلب بالمساواة على أنه "انحلال أخلاقي".
● أنصار الله: الاحتواء بالقسر
أما في مناطق أنصار الله، فيُفرض على النساء نمط سلوكي وزي معين، وتُقيد حركتهن بحجج "الأمن". تُتهم الناشطات بأنهن أدوات "للحرب الناعمة"، ما يجعل من المطالبة بالحقوق مشروع تجريم مفتوح.
■ ما بين القمع والاحتواء.. سياسة ترويض الصوت النسائي
الهدف لا يقتصر على إسكات النساء، بل على إعادة تشكيل حضورهن ليصبح مقبولًا، مرنًا، تابعًا. تُروَّج نماذج "مطيعة" لتجميل الواجهة السياسية، بينما تُقمع الأصوات المستقلة. تُستخدم بعض النساء كديكور حزبي لتجميل الهيمنة، لا لتغييرها. أما النساء اللواتي يخرجن عن هذا النموذج، فيُقصَين، أو يُدفعن للاستقالة.
■ مفترق الوعي.. من رصد الظاهرة إلى تفكيك بنيتها
التشهير ضد النساء ليس حادثًا فرديًا، بل عرض لبنية مجتمعية ترى في المرأة الحرة تهديدًا. المواجهة لا تكمن فقط في الرفض، بل في إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمواطنة، وبين الجسد والشرعية.
■ تفكيك المنظومة.. خطوات مواجهة جذرية
● 1. إعادة تعريف "الشرف": ربطه بالعدالة والحرية لا بخضوع النساء.
● 2. مساءلة الخطابات المُهيمنة: تفكيك الخطابات الدينية والحزبية والقبلية التمييزية.
● 3. خلق مساحات آمنة للنساء: قانونيًا، ونفسيًا، وإعلاميًا.
● 4. إصلاح القانون من الجذور: تشريعات واضحة تجرّم التشهير والعنف الرمزي.
● 5. استرداد الفضاء الرقمي: عبر المحتوى النسوي وشبكات التضامن.
■ نحو عدالة لا تشترط الطاعة
إن حملات التشهير ضد النساء لا تنبع من فراغ، بل من بنية تخاف من المرأة حين تُفكر، وتُجرّمها حين تُقاوم. العدالة تبدأ حين لا يُطلب من المرأة أن تثبت "طهارتها" كي تُحترم، بل حين يُعترف لها بحقها في الوجود، والخطأ، والتمرد.
بلاد لا تسع امرأة حرّة، لن تسع مستقبلًا حرًّا.
⚓
#إياد_هديش (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟